Muhammed A. Zidan's Blog

May 2, 2016

العَهْدُ الكَحِيلْ

العَهْدُ الكَحِيلْ



ككككك



كل صباح، تقصد الشاطئ بقيثارتها. تعزف وتلاعب الأمواج.


مثلًا، تعزف “قوة القدر” فتمتد الأمواج وتهيج.


تعزف “مونامور” فتهدأ الأمواج وتنحسر.


اليوم، أغرقت المياه المدينة حتي كدنا نهلك.


أما هي فكانت عند الشاطئ كعادتها. تعزف “كارمينا بورانا”، تتأمل المدينة الغارقة وتبتسم بخبث.


***


خطَّت دائرة مغلقة مغلقة علي الرمال، وجلستْ بداخلها، وحيدة بعيدًا عن ثرثرة الأخرين.


خططتُ بجانبها دائرة أخري واحتللتها.


أمضينا الليلة هناك، نتبادل النظرات البائسة، نبتسم بمرارة، ثم ندفن نظراتنا في الرمال.


***


هبّت العاصفة فأعادت تشكيل المدينة علي طريقتها الخاصة. أثناء ذلك، كانت تغفو هي بسلام كرضيع.


استيقظت عند تبدّد العاصفة. هرولت إلي الشوارع فَزِعَة. تعيد للأشجار استقامتها. تصلح النوافذ المحطمة. تهدئ من روع القطط الخائفة.


في منتصف الطريق الرئيس، وجدت عصفورًا ممدّدًا علي الإسفلت في سكون.


بكت. بكت كثيرًا. أمطرت السماء لتواسيها.


***


تتحاشي المرور بالسوق. في كل مرة، يتهمنها البائعات بسرقة ثمرات الفاكهة تحت طيات ثيابها.


تمشي الهوينا، لا حياءً ولا ديانةً. خلعت قلب بعضهم حين كانت تتقافز في صباها.


يومها بسيط ورتيب للغاية. تستيقظ صباحًا، تصطحب إخوتها الصغار للمدرسة. في الظهيرة، تحمل صرّة الطعام لأبيها في الحقل. ثم –في المساء- تقتل ما تبقي من فتيان القرية في طريق عودتها.


تتبسّم في الشُرفة، فتيان البلدة يهللون في الخارج ويشقون قمصانهم، جدّها يخرج فيهشّم أنوفهم بنبّوته.


ثم تتبسّم هي مجددًا … إلخ


***


تجلس في قطار الأنفاق، مواجهةً لثلاث سيدات في المقعد المقابل.


تحدّث السيدة الأولي نفسها: ليت لابنتي شعر فاحم طويل كشعر هذه الفتاة. إذًا لتزوجت الليلة.


تحدّث الثانية نفسها: ليت لابنتي خصرًا كخصر هذه الفتاة. إذا لأبقي عليها زوجها.


تحدث الثالثة نفسها: ليت لابنتي الحمقاء عقلًا كعقل هذه الفتاة. إذًا لما غدر بها ذاك الذئب.


تبتسم هي في براءة، وتحدث نفسها: ليت لي أمًا حنون كتلك السيدات اللطيفات.


***


صغارًا، كانت تأتيني في أيام الأعياد بتنانيرها الجديدة.


تدور سريعًا في موضع قدمها، فتصنع تنورتها حلقة مضيئة.


ويصيبني الدوار.


***


تعلّمت الفلسفة للأولي، والفَلَك للثانية، والمواريث للثالثة، وتنسيق الأثاث للرابعة، وتربية الدجاج والطهو للخامسة. لم تقبل بي إحداهن.


مكتبة تمشي علي قدمين، ولا فتاة تقبل بي.


اللعنة.


***


صغيرًا، غرستُ تحت نافذتها شجرة. اتسلّقها حين أكبر.


***


السنونوات الحمقاوات يفزعن مني حين أنثر لهن الحَبّ.


ويتساقطن علي كتفيها فتجمعهن هي في أقفاصها.


تتأملهن وتبتسم. يتأملنها ويغردن.


***


تحرص علي أن تبقي بجانب الأوزات حين يلتهمن طعامهن.


الأوزات يحدّقن فيها ببلاهة. يضربن بأجنحتهن، ويزدردن من الطعام حد التخمة.


وتبتسم هي لاحقًا أمام المائدة العامرة.


***


خِلاف نساء القرية، لا ترتدي هي برقعًا، وإنما نظارة سوداء.


أليست العِلّة -في النهاية- هي درء الفتنة ؟!


***


التنورة القصيرة كالبحيرة.


التنورة الطويلة كالمحيط.


الأولي تذورها في أيام الآحاد والعطلات.


الأخرى تخطط لزيارتها عقدين من عمرك، ثم تغوص فيها بقية أيامك فلا تبلغ منتهاها ولا تنقضي عجائبها.


***


الجميلة تسير علي الرصيف الآخر.


أخشي العبور.


بيننا السيارات المسعورة.


والضجيج.


وأعذار بدء الحديث.


والمقدمات المرتبكة.


وقصيدة لم تكتمل لحسناء أخري.


***


بالأمس أطلقتُ و”مارية” ورقتي توت في الريح.


اليوم، أخبرتني العرافة أن روقة “مارية” اليوم في عش عصفور، يحتمي بها من الصقيع. أما ورقتي فقد انزلقت عليها دراجة صبي يرقد الآن في المشفي.


***


“مارية” بريئة براءة الفراشة من أثرها.


“مارية” بيئة براءة “نيرون”. تشعل الحرائق في صدري، ثم تأوي لشرفتها. تتأمل النيران الممتدة في أرجائي وتعزف علي قيثارتها.


“مارية” بريئة براءة الأفعي. تغريني بقضم “التفاحتين”. جتي إذا ما فعلت، أجدني وقد هويت من فردوسي إلي جحيمي الأرضي.


نبّوت أبيها كفيل بقتل ثور بري.


***


مفاتن النساء كلها حواشي علي متن “مارية”.


***


“مارية” لا تسكن إلا قصور الحلوي وقلوب الشعراء وعقول الفلاسفة وحناجر العنادل ونواصي الخيل.


في الشتاء، تنام تحت أجنحة السنونوات.


في الصيف، تخلج أثوابها السبع، وتسبح في بحور الخمر.


تسخط، فتجعل صدرك ضيقًا حرجا، كأنما تصّعّد في السماء.


ترضي، فتصبغ عينيك بالحب وتهيم أنت بالمخلوقات، تحتضن الأبرص وتقبّل الأفاعي.


***


“مارية” تغار.


حين أجالسها عند البئر كل صباح، تقفز إلي رأسي كالفكرة، فتغسل جدرانه مما علق بها من شخوص ودروب وحوادث، وتجلو ما أفسد هواء ذاكرته. ثم تنضحه بماء الورد، وتدهنه بالمسك، وتعطره بأعواد الطيب. ثم تطبع علي كل جدار قبلتين.


حين تفارقني، أتصفّح دفتري فأجد بضع قصائد جديدة، فأتعجب.


متي كتبتها، يا تري ؟!


***


تمسك “مارية” دفتري، ثم تشرع في نزع أوراقه واحدةً تلو الأخرى. تقول:


– هذه سيئة، لم تُجِد وصفي فيها.


– وهذه أيضًا سيئة، بالغت فيها أكثر من اللازم.


– وهذه بشعة. هل كنت ثملًا حين كتبتها ؟!


– يا إله السماوات ؟! ما هذه القصيدة ؟! هل كتبتها في مَبْغَي ؟!


حتي تصل إلي آخر ورقات الدفتر، فتصيح: أهااا، هذه. هذه القصيدة. مثل هذه فاكتب وإلا فلا.


أتعجب أنا: ولكنها غير مكتملة. لم أتمها بعد.


تقول: لهذا أحببتها. المكتمل يغلق باب التساؤلات. لذا، كل مكتملٍ قبيح.


***


أحدث “مارية” في السياسة، فتقول مثلًا:


إن أتانا العدو، دع قومك يتدرّعون بالجبل، وتدرّع أنت بي.


أحدثها في الاقتصاد فتقول:


كيف يشقون مجري القنال دون أن يستأذنوا السنونوات اللواتي يعشن هناك؟ حسنًا، سأبحث بين نهديّ عن مأوي لعصافير جديدة.


أحدثها في الدين فتقول:


كيف يستقيم التوحيد في قريتنا ؟! من يراني يعبدني مع إلهه.


أحدثها في التاريخ فتقول:


في حقبة ما بعد الحوريّات، سقطت دمعتان من جفنيّ واصطدمتا بكفي. فحدث الانفجار العظين ونشأ الكون.


يسقط في يدي. فأحدثها فيما أحسنه: الشعر. فتضحك هي وتصفق بيديها وترقص كالأطفال.


وتضحك الأكوان لضحكها.


***


ترقيني “مارية” فتقول:


أعيذك بالله من الشياطين الأربع.


أعيذك بالله من شيطان النار. ينزع من صدرك سرّك فتمسي واحدًا كالآخرين.


أعيذك بالله من شيطان الهواء. يعميك بظواهر الأشياء عن بواطنها.


أعيذك بالله من شيطان الماء. يقطع عليك أمرك، فلا تعرف من أين و لِمَ أتيت.


أعيذك بالله من شيطان التراب. يَفْرُق بينكما، فلا تجتمع وحبيبٍ أبدًا.


***


أتيتُ “مارية” بمجرّتين وبضع شموس متناثرة كانت تغفو عند البئر، فامتعضت وقالت: تخيّر هداياك. عندي من هذا الكثير.


دَنَت مني وفتحت عينيها علي مصراعيهما، وقالت: انظر.


***


الملعونة،

جاءتني غاضبةً، ألصقت فوهة مسدسها برأسي وقالت: ارتجل لي قصيدة الآن، وإلا أرديتك.


محدّقًا في الأوراق كالأبله، خانتني شيطانتي فلم أخط شيئًا.

حين انتهت مهلتها، ضغطتْ علي الزناد، فأصدر صوت ال”تِكْ” البذئ.


ولَّت هي ضاحكةً: كنت أمازحك فقط.


جلستُ أنا أرضًا، ألملم أوراقي المبعثرة. كان بنطالي مبللًا ..


***


كنت أقف كل صباح في الحديقة، أسفل السلم الخشبي المؤدي إلي غرفتها. تخرج هي وقف أعلي السلم، ثم تسألني عما أريد فلا أجيبها. تحسبني شحّاذًا أبكما، فتلقي لي بضع دراهم.


بعد زمن، فهمت، فصارت ترتدي التنانير الطويلة.


***


كان أبي لصًا. كان أبوها قاضيًا.


علمني أبي السطو. أوصاها أبوها بالقصاص.


حين اختلست منها قبلة، اقتصّت مني فورًا. بشفتيها.


***


في العهد القديم، كنت أحمل مئات القصائد في دفتري وأبحث عن فتاة وحيدة.


الآن، أغوص في مفاتنهن وأعتصر رأسي بحثًا عن قصيدة هنا أو هناك، فلا أجد.


***


في طريق عودتها من الجامعة كل نهار، كان التاجر ينتظرها، أمام متجره، ليهبها الحلوي بلا مقابل.


كان صاحب المقهي يدركها بالعصائر، يقول: لعل الطريق أنهكك.


كان جارها الخجول يختلس لها النظرات من شرفته.


كانت جارتها تتأمل جسدها البضّ وتخطط لخطبتها لابنها.


أما أنا فكنت أتقدم فأتأبط ذراعها، واصطحبها لحديقة المدينة، تحت وابل من سُباب الجميع ولعناتهم.


***


نهارًا تجفّفني، مع ملابسها، تحت سماء المدينة الحارة. فأمضي سويعات النهار في تلفيق طريقة مناسبة للانتقام.


ليلًا تلبسني، كقميص نومها، فيتورّد وجهي وأغفر لها.


***


الأولي: تعطر لي الجو، تعد لي المائدة، تضئ الشموع، تزين الغرفة بالورود وتنتظر.


تنتظر، تنتظر، تنتظر، فلا أذهب.


الأخرى: تهرب مني، فأتبعها. تصفعني علي الخدين، فأتبعها. تبصق في وجهي، فأتبعها. تنبذني كعقب سيجارها، فأتبعها. تدوسني بسيارتها، فألملم أجزائي المبعثرة وأتبعها.


هل الحياة إلا ما نبحث عنه وما يبحث عنا ؟!


***


تقول: ارسمني. فامتثل. اختلط الألوان وأمضي الساعات في تصويرها حتي تتوقف ذراعيّ عن الحركة. تنهض هي من أريكتها، تتثاءب، تتأمل لوحتي التي تحاكي لوحات “جاك لويس دافيد” فتتململ.


تقول: لا تشبهني في شيء. تمزّقها، وتضع علي المسند لوحة عذراء. تمسك الألوان والفرشاة وتنثرها ببربرية علي اللوحة، فتنتج رسمًا أشبه بأعمال “بولوك”.


تبتسم بظَفَر وتقول: هااا، هذه تشبهني أكثر.


***


صغارًا، كنت أسرق لها التفاحات من حديقة جارنا ليلًا.


حين سألتني بعضهن ذات نهار، تسللت للحديقة علي غير حذر، فوقعت في يدي حارس الحديقة.


سألني: لمن تسرق التفاحات؟ قلت لأمي القعيدة. صفعني: أمك ليست قعيدة.


قلت: لإخوتي الصغار الجوعي. صفعني: ليس لك إخوة.


قلت: لجارنا الهَرِم. صفعني حتي أدمي وجهي: جاركم ليس هَرِمًا.


أُسقِط في يدي، فأخبرته أن التفاحات لها. قيدني في باب الحديقة كالدجاجة، رأسي للأسفل وقدماي للأعلي، ثم شرع في إلهاب مؤخرتي بسوطه القصير.


كانت هي تتلصص علينا من خلف سور الحديقة المقابلة وتضحك. وكنت أنا ألعق الدم السائل علي وجهي، وأضحك.


***


فاتنة هي، غير أن بعض الصدأ يعتلي محياها.


حين التقطتُ مِبضَعي وشرعت في تطهيرها منه، انكشف لي المزيد منه.

حتي إذا أزلته تمامًا، لم أجدها.


***


الفاتنة، في معسكر العدو، تستنشق دخاني الذي أنفثه في شرفتنا.

حين توقفتُ عن التدخين، لأحفظ دراهم العشاء، أمطرت دارنا بالقذائف.

حملت الريح قصائدي، المبعثرة بين الأطلال، إليها. 


قرأتها، تجشّأت، ثم هامت بجارنا الشاعر، الذي لم يتوقف عن التدخين بعد.


***


أيام ثورتنا، تسلّلت أنا ورفاقي ليلًا لنلصق المنشورات المندّدة بالديكتاتور علي جدران المدينة. كان الرفاق ينقشون علي الحوائط عبارات: يسقط الطاغية. أما أنا فنقشت: يسقط الديكتاتور .. تحيا “مارية”.


في الصباح، عثر الجنود علي الملصقات فلم يتبيّنوا هويّة رفاقي، أما أنا فأُودِعت السجن.


***


تخطو “مارية” أمامي علي المياه، وتركل الأمواج بقدميها. أحاول اللحاق بها فأغرق.


أحاول ثانيةّ فأغرق.


ثالثةً فأغرق.


تضحك هي وتقول: آمِن، تَنَلْ الكرامات.


أقول: هكذا ؟! (أفتح كتابي المقدس)


تقول: لا، بل هكذا (تضع يدي علي صدرها)


***


بين باب دارنا وشُرفة “مارية” نصف ميل وتسعة عشر ذراعًا وثلاث بوصات.


أقطعها ذهابًا في ثلاث دقائق.


أقطعها إيابًا في يومين وليلة.


***


 تمدّدتُ علي سرير بنات أختي الصغيرات، أتينني بكتيّب يحكي عن مغامرات البحّارة القدامي.


شرعت في سرد القصص عليهن، وشرح ما يستغلق عليهن فهمه. لمّا بلغت حكايات الحوريات اللواتي كن يغنين للبحارة بأصوات عذبة حتي يتبعونهن فتغرق سفنهم، أ..


في الصباح، استيقظت تحت أشعة الشمس الحارقة، الآتية من النافذة، تثاءبت، نظرت حولي فوجدتني محاطًا بنظرات الصغيرات الخبيثة.


***


الموسيقيون الثلاثة المتجولون ينتظرونها كل صباح عند نهاية البناية، في طريقها إلي العمل.


حين يبصرونها يشرعون في العزف، تلقي إليهم درهمًا فيلتقطونه ببهجة ويلملمون آلاتهم. يتناولون غداءهم وينتظرون موعد عودتها.


يعزفون لها، فتلقي إليهم درهمًا آخر، فيلملمون أشياءهم ويذهبون لتناول غداءهم.


لا يعزفون إلا لها.


***


قبّلهنّ.


احبسهن بصدرك.


انفثهن.


اطفأهن.


***


أحببتُ بنت السلطان، فأودعتني السجن.


أحببت بنت القاضي، فعذّرتني.


أحببت بنت القصّاب فقصمت أضلعي.


أحببت بنت الراعي فأطلقتني في المراعي.


وأطلقت خلفي كلابها.


***


علي فراش الموت، كان الرجال يلقنونه الشهادة.


أما هي فكانت تطالبه بقصيدة اليوم.


***


حين اختطفتْ مني شيئًا ما كان في صدري، أبلغت عن سرقتها في المخفر.


سألني الشرطي عن وصفها فلم أعرف: كنت أحادثها من وراء حجاب.


سألني عن وصف المسروق: لا أعرف، فقط أعرف أن شيئًا ما مفقود من صدري.


أودعني السجن للبلاغ الكاذب.


***


في طريقنا للمسرح، كنت أرخي يدي اليمني علي كتفيها، بينما اليسري علي كتف صديقي الوحيد. أعرف أن يديهما متشابكتان خلفي، أشعر بهذا، لكني لا أنظر أبدًا لأتبين الأمر.


يقتلني الشك، لكني أتجرّعه كي لا أفقدها، أو الأسوأ: أن أفقده.


***


صغيرًا، كانت هي تسبقني في الركض. تعدو وأعدو خلفها، حتي تتمزق أوتار صدري. أسقط أرضًا فلا تلتفت هي، وتواصل الركض.


أنهض وأكمل لعنتي خلفها، ألتقط الفراشات التي صدمتها، أقبلهن، أداوي أجنحتهن، أعتذر لهن ثم أطلقهن ثانيةً في الريح.


الآن، بعد عقدين من الركض، ما زلت أتبعها، ألتقط المساكين ممن دهستهم من الرجال، أداوي صدورهم، أعتذر لهم، ثم أواصل الركض خلفها.


***


ابن عمتي، القروي العقيم، الذي جاءنا من الريف للمرة الأولي هذا الصيف ليخضع لبعض فحوصات الخصوبة، لم يحضر موعده مع الطبيب ذائع الصيت. أمضي جُلَّ أيامه هنا، في المدينة، محدّقًا في دُمي عرض الملابس، المنثورة في واجهات متاجر الملابس.


بعد أيام، ابتاع لزوجته، بأموال الفحوصات، كل الملابس الداخلية التي رآها علي المونيكات.


اليوم، بلغني أنه قد أنجب ثلاثة توائم دفعةً واحدة.


***


في الصف الدراسي، كان المدرّس يتجنب طرح الأسئلة علي حسناء الصف.


حين كانت تقف أمام السبورة، في صدر الصف، وتبدأ في قراءة الدرس جهرةً لبقية التلامذة، كانوا يصابون بالبله، ويضرب هو أخماسًا في أسداس.


***


حين رأتني أنتعل حذائي، خارج المسجد القديم بعد صلاة العشاء، أسرعت في الخطو. مُغضبًا، لحقت بها. استفهمت فأجابت: أنا أو ربك، اختر، فلا يستقيم لعاشقٍ إيمان، ولا يصفو لمؤمنٍ عشق.


***


كما تواعدنا، انتظرتها أسفل عمود الإنارة قرب الشاطئ. لكنها لم تأت.


أتممت الليلة منتصبًا ومحدقًا في نهاية الشارع، لم تأتِ.


طلعت الشمس، لم تأتِ. تعاطف معي عمود الإنارة وبقي مضيئًا ليذهب وحشتي ويعلّلني باللقاء.


حين توسطت الشمسُ صدر السماء، اعتذر لي عمود الإنارة: حتي أنا يرهقني الانتظار. وانطفأت أنواره، لكنها، أيضًا، لم تأتِ.


***


في المصعد العاطل، المظلم والعالق بين الوجود والعدم، افترشا الأرض في غفلة من الزمن.


لا يبصران شيئًا، ينتظران النجدة، كانت هي في ركن المصعد ترتجف خوفًا وتصرخ في رأسها.


وكان هو، في الركن المقابل يهدهدها، في رأسه، ويقول: لا بأس، لا بأس.


لم ينبسا ببنت شفة قط. حين أُفرِج عنهما، أخيرًا، خرجا للنور.


دون أن تلتقي عيناهما، قالت له: شكرًا لكل شيء. وانصرفت.


***


في ليلة زفافهما لم يقربها. حقيقةً، لم يقربها لسبع ليالٍ متصلة. كان،  في كل ليلة، يسامرها فوق الأريكة، يغرق في مقلتيها، يمرر أنامله بين خصلاتها ويقول: دعينا نذق طعم الحب الخِداج لبضع ليالٍ أخري.


كانت هي تهز رأسها موافقةً، تبتسم بمرارة وتحدّث نفسها: يا ابن الكلب.


***


في المقهي القابع بطرف المدينة، التقيتها لمرةٍ عابرة. سألتني: هل لي بقدّاحة؟!


ارتبكت قليلًا، فتّشت ملابسي بحثًا عن واحدة فلم أجد، ثم تذكرت في النهاية: معذرةً، لستُ مدخنًا.


قالت: لا بأس، وانصرفت.


اعتدت بعدها حمل القدّاحات في جيبي، علّي أتعثّرُ فيها مرةً أخري، لكنها لم تضيء المدينة بعدها قط.


اللعنة، متي صرتُ مدخّنًا؟!


***


الملعونة،


عادتني ليلة خضوعي للجراحة، قبّلت وجنتي الطبيب وأوصته بي.


الطبيب الأحمق ابتسم ببلاهة، هزّ رأسه بحرارة موافقًا. أجري الجراحة، ونسي مِنشفته في بطني.


***


 


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 02, 2016 16:27

سِفْرُ الأَشْيَاءْ

سِفْرُ الأَشْيَاءْ


شسي


}-حديث الهيكل والحانة{-

تفاخرت الحانة –يومًا-والهيكل، قال الهيكل: بين جدراني يُعبَد الإله.


ردت الحانة: أنا أيضًا يعبد البشر بين جدراني آلهةً شتّي.


قال الهيكل: بين جدراني يهرب الناس من عالمهم الضيق إلي عوالم أرحب.


ردت الحانة: أنا أيضًا يلوذ بي البشر من عالمهم البائس.


قال الهيكل: لولاي لذبح البشر بعضهم البعض.


ردت الحانة: لولاي لذبح البشر أنفسهم.


قال الهيكل: حسنًا، قد يحيا الناس بلا حانة، لكنهم لا يحيون أبدًا بلا هيكل.


سكتت الحانة.



}-حديث العَيِّن والأشجار{-

قرب البئر القديمة، كان العَيِّن (الفزّاعة)-الذي غرسه جدي هناك منذ نصف قرن-يحاضر الأشجار في العبودية القسرية والعبودية الطوعية. كان يصرخ فيهن: يا حمقاوات، يا عقول القش، ما الذي يدعوكن للامتثال لهذا الفلاح الأحمق ؟! كيف ترضين بحياة كاملة في نفس البقعة، وأرض الله واسعة ؟!


أشجارنا –لأسبابٍ معقدة-لا يجدن الحديث ولا الجدل. غمغمن بكلام غير مفهوم، ثم ساد الصمت.



}-حديث المِطرقة والسندان{-

تشاكت المِطرقة والسندان بشأن ما حلَ بهن من كَبَد.


قالت المِطرقة: أنا أغدو وأروح، ثم قرأت: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.


صاح السندان: وأنا أتلقّي، ثم قرأ: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}.


انتبه المطروق من غفوته القصيرة بين الطرقات، ولوح مُغضَبًا بيديه: وأنا أذوق، ثم قرأ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}.



}-حديث المِئذنة والفنار{-

عند الساحل، مئذنة عتيقة وفنار حديث البناء.


استيقظت المئذنة من سباتها الطويل علي صوت صافرات الإنذار. الجنرال المجنون ذبح عائلته وأمر كلابه بإحراق المدينة. لكن لا هذا ولا ذاك شغل المئذنة كما شغلها الفنار الجديد الذي احتلّ -دون أن تشعر-ناصية البحر أمامها، فحجب عنها الرؤية.


صاحت به: هيه، أنت يا ولد، تنحي جانبًا، لا أري البحر من هنا.


أجابها الفنار وقد كان يافعًا خبيث اللسان: وهل ما زلتِ تبصرين أيتها العجوز الخَرِفَة ؟!.


قالت: نعم، وأهشم عظامك أيضًا إن لم تتأدب مع من هم أسنّ منك وأجلّ قدرًا.


قال: أما أسنّ فنعم، وأما أجل قدرًا فكيف ؟!. أنا هنا لأضيء الطريق للفارِّين من هذا الجحيم، أما أنت فلا تفعلين شيئًا إلا قراءة الأوراد وإحراق العود.


قالت: لا أحد ينتبه لك إلا ليلًا. حتى حين يدهمهم الموت، فلا أحد ينتبه لك. ساعتها، يكون آخر عهدهم بالدنيا نظرةٌ مبتلّةٌ نحوي أنا، لا أنت.


قال: أرأيتِ؟ لا كرامة لكِ في معيشتهم، ما أنت إلا طقس من طقوس فنائهم، يتمسحون بِك لينفضوا الإله من رأسهم.


همَّت المئذنة بالردّ لكن طائرات الحرب كانت قد اخترقت سماء المدينة لتلاحق الفارّين نحو البحر. لم يميز الجنود المئذنة من الفنار فقصفوهما معًا. لا فرق بينهما من أعلى على أي حال …!



}-حديث اللُّقَطَة والمهملات{-

في زقاق قذر، سقطت لُقَطَة من جيب سكير خارج باب الحانة. انتظرته طويلًا كي ينتبه ويلتقطها إلا أنه لم يفعل، مضي إلي بيته مترنحًا وقنينة الخمر لا تفارق فمه. بعد أن آيست منه، شرعت في انتظار بشري آخر يعثر عليها فيلتقطها.


نظرت حولها تستكشف الموجودات فإذا بها محاطةٌ بالمهملات. انتابتها الرهبة في البداية، لم تعتد هي هذه المواضع المريبة، لم تعتد إلا حافظات البشر وأسطح مكاتبهم. كي تخفي رهبتها، شرعت تتفاخر على المهملات وترميها بأقذع الأوصاف. قالت فيما قالت: أنا الباقية وأنتن الفانيات. أنا خُلِقتُ للقصور وخُلِقتن أنتن للأزقّة. أنا أحمل رقمًا وختمًا وشعارًا أما أنتن فلقيطات بنات زنا. يتصارع البشر ليتحصّلوا علي، أما أنتن فلا كرامة لإحداكن، يلقونكن بلا اكتراث.


المهملات ضعيفات العقول، سرعان ما آمنّ بفضلها عليهن فألبسنها لِباس الإله. أقمن حولها قصرًا من سراب وسبحن بحمدها وقدّسنها. في صباح ذات الليلة، هطل المطر كثيفًا، فجرفت المياه اللُّقَطَة والمهملات جميعًا إلى فتحة المجرور.



}-حديث ندفة الثلج وذرة الغبار{-

ضرب الصقيع الواحة تلك الليلة، فجادت السماء بالبَرَد.


تهاوت صخرة عظيمة من الجبل فتطاير الغبار إلي السماء.


حلَّقَت إحدى ذرات الغبار جذلةً إلى السماء. تجسّمت أحلامها بعد صبر فقد تخلصت من صحبة الحصى وشبيهاتها من حبات الرمل الثرثارات.


بين السماء والأرض، التقت بندفة ثلج ساقطة ترتجف خوفًا. أنستها الندفة نشوةَ الخلاص، فاحتضنتها كي تسكن وهبطت معها ثانيةً إلى الأرض، تهدهدها وتختلس النظرات إلى حُسنها.


في الصباح، ذابت ندفة الثلج فعادت ذرة الغبار إلى كآبتها ووحدتها بين شبيهاتها اللاتي لا يحصين. تنظر حولها ثم تتنهد: لا بأس، لا بأس، كنت فريدةً لليلة واحدة. بعضهم لا تتهيأ له مثل هذه البهجة الدهر كله.



}-حديث الذئب والكلب والحَمَل{-

اختلف الحَمَل وكلب الراعي في مسألة من مسائل الفلاسفة، فانطلقا إلى الذئب العجوز في كهفه يختصمان. اعتدل الذئب في جلسته، وقال: حسنًا، للكلب النهار بتمامه، يعرض على حجته ومنطقه، وأما الحمل فله الليلة بكاملها، يفعل فيها المثل. في الصباح أخبركما بمن على هدي ومن هو في ضلال مبين.


أمضي نهاره يجادل الكلب، وأمضي ليلته مع الحَمَل. في الصباح، أتاه كلب الراعي فأخبره أنه علي حق وأن الحَمَل على باطل. انطلق الكلب جذلًا، ثم عاد له بعد برهة يسأله عن الحَمَل، أين اختفي؟! قال الذئب: أخبرته ليلًا أنه على باطل وأطلعته على الحقيقة. هو لم يبلغ من الحكمة ما بلغتَ، فلم يتحمل الحقيقة عاريةً، وتلاشي!



}-حديث أحجار القِرميد السبعة{-

سبعة أحجار قرميد في حائط عتيق موشك على السقوط.


قال الحجر الأعلى: انصتوا، انصتوا. منذ قليل سمعت صاحب الأرض يحادث البنائين، فهمت أنهم سيهدمون كل الجدران القديمة هنا ويعيدون استخدام ما يصلح من الأخشاب وأحجار القرميد لعجز في مواد البناء. بعد طول صبر، سأخرج من هذا الحائط القذر. ربما أكون حجرًا في ناطحة سحاب يومًا ما فأري الشمس.


قال الحجر الأسفل: مرحي، مرحي. أنا أيضًا أرجو أن أكون حجرًا في حانة. أتطلَّع إلى الشقراوات يتراقصن.


قال الحجر الأيمن: لا تعرف إلا ملذَّاتك. لا عجب إذن من كونك أسفلنا. أما أنا فأرجو أن أكون حجرًا في محراب.


قال الحجر الأيسر: تخرج من جدار عتيق مهمل إلى محراب؟ ألا تمل الصمت؟ أنا أرجو أن أكون جدارًا في مصنع لا تكف آلاته عن الضجيج أبدًا.


قال الحجر الأمامي: أين أنتم من الأمجاد يا قوم؟ أنا أرجو أن أكون حجرًا في برج الحصن، فأدفع الأعادي عن الديار.


قال الحجر الخلفي: لا شأن لي بأمجادك، أنا أرجو أن أكون حجرًا في حديقة المدينة، فيجتمع لي الخضرة والماء والوجه الحسن.


حين مللن الثرثرة، نظرت الأحجار الست إلى أخيهن الأصغر الساذج في المنتصف وقلن: وأنت يا أبله؟ أين ترجو أن تكون غدًا؟


قال الحجر الأوسط: أما أنا فلا أرجو شيئًا في دنياي إلا أن تدوم رفقتنا، لا أدري كيف سأنجو إن خرجت من هذا الدفء هنا.


امتعضت الأحجار الست ورمينه بالسَّفَه وضعف العقل.


صباح اليوم التالي، جاء الرجال فهدموا الجدار وأعادوا تفكيك أخشابه وأحجاره. تم لهم الأمر، إلا كتلة من سبعة أحجار لم يستطيعوا تفكيكها فألقوها البئر القديمة.



}-حديث النور والظلمة{-

في البدء كان النور سرمديًا. حتى جاء الظلام فاقتطع من اليوم نصفه عدوانًا وظلما، وسماه: الليل. ساجله النور الحرب سنينًا طِوال حتى أُنهِك كليهما، فقنعا بما تحصَّلا عليه. مع هذا، تراودهما أحلام الكمال دائمًا، فيتناوشان ليستنزفا بعضهما البعض. يصفع النورٌ الظلامَ ليلًا بالنجوم والكواكب. فيرد الظلام له الصاع نهارًا بالظِلال.



}-حديث الشمس والقمر{-

تهيم الشمس بالقمر سرًا، لا تصارحه بعشقها له. هو أيضًا خجول للغاية، حتى أنه يقتبس من نورها خِلسة. لكنها تحتال دائما للوصل، تمنع عنه زاده من النور يومًا بعد آخر حتى تتداخل أضلاعه فيمسي محاقًا ثم يوشك على الموت جوعًا. حينها تدركه هي بقبلة الحياة فتعود إليه عافيته على مَهَل، حتى يصبح بدرًا.


تصبر الشمس شهرًا كاملًا في كل مرة نظير قبلة واحدة.



}-حديث السخط{-

“لماذا تركوني مضاءً ؟!”، قال المصباح نهارًا.


“لماذا تركوني مظلمًا ؟!”، قال المحراب المهجور.


“لماذا تركوني فارغًا ؟!”، قال إناء اليتيم الجائع.


“لماذا تركوني طافحةً ؟!”، قالت ذاكرة الأم الثكلى.


“لماذا تركوني ممزقة ؟!”، قالت دمية الطفلة القتيلة.


“لماذا تركوني مكتملًا ؟!”، قال طعام الصائمين الذين عاجلتهم القذيفة.


“لماذا تركوني وحيدًا ؟!”، قال معطف الشيخ في دار المسنين.


“لماذا لا يتركونني وحيدةً ؟!”، قالت عصا الفيلسوف.



}-حديث الغراب والسنونوات{-

بساق واحدة وعين عمياء وريش خفيف ولسان سليط، حلّق الغراب العجوز بعناء نحو الغابة ليجد ما يقيم به صلبه بعد أن خلّفه سربه. على مشارف الغابة، صادف السنونوات يثرثرن ويغردن بلا انقطاع. لمّا رأينه تضاحكن ولمزنه بعرجه وعوره. أما هو فرماهن بضعف العقل والجهل. تقول سنونوة: قبّح الله عورك.


يقول الغراب: ذهبت عيني من كثرة ما طالعت من أسفار، هل قرأتِ شيئًا من الفلسفة يا فارغة العقل؟!


تقول هي: لا. خبِّرنا أنت عما قرأت.


يقول: صه، لا شأن للبلهاوات أمثالك بذلك.


تقول سنونوة ثانية: قبَّح الله عرجك.


يقول: ذهبت ساقي مما عاجلته من أمجاد وما عالجته من أهوال. هل ذقتِ طعم المجد قبلًا يا ساقطة الهمّة.


تقول: لا. ما وصف الأهوال التي خضتها؟


يقول: صه، لا شأن للسفيهات أمثالك بها.


تقول سنونة ثالثة: ما أقبح ريشك وما أندره.


يقول الغراب: تصدقت به على كل ذي حاجة من الطيور. هل بلغت من الجود هذا الحد يا شحيحة.


تقول: لا. على من تصدقت بريشك؟


يقول: صه، لا شأن للحمقاوات أمثالك بهذا.


بعد سِجال طويل، خلعت السنونوة الكبرى عباءة الزعامة على الغراب. لم تقرأ هي كما قرأ، ولم تَجُد ولم تصارع الأهوال.


مر سرب الحمام بالسنونوات فرأين الغرب وقد تزعّم السنونوات. ضحكن كثيرًا ورمينهن بالسفه. اتكأ الغراب على عرشه بينما شرعت السنونوات في تعديد فضائله ورجم الحمامات بالسفه والحمق والبَلَه. حتى إذا ما خلعت الحمامات على الغراب رداء المُلك، مرت بهن البجعات في طريقهن للبحيرة فجري بينهن وبين الحمامات ما جري بين الحمام والسنونوات.


قرب المغيب، جاءت الأسود والأفيال لتتلو قسم الولاء لزعيم الدغل الجديد. لم يره أحد من قبل، لم يسمع عنه أحد، لكن الجميع يلقبونه ب”السيد”. لا بد أن سببًا وجيهًا يكمن هنا على أي حال. لا يُتَصَوَّر عقلًا أن يكون الجميع علي باطل.



}-حديث الخبر والمجاز{-

“الحقيقة” و”المجاز” أخوان. ولدت الأولي لأبيها “البيان” من زوجته الأولي البدوية فنشأت صارمة قاسية كصحرائها. أما الثاني فولد من زوجة “البيان” الثانية الحَضَرية، فنشأ خليعًا لاهيًا بين الحدائق والمياه الجارية.


هام بالحقيقة الفلاسفة والمتكلمون. وهام بالمجاز الشعراء والنساء. فاشتعلت الضغائن.


في الحياة الأولي، ذبحت الحقيقة أخيها في ضجعته، ثم أحالت الأرض مدينةً أفلاطونية مترامية الأطراف.


في الحياة الثانية، سمَّم المجاز أخته الكبرى، ثم أعاد تعمير المدينة بقصور الحلوى وزينها بالقصائد ورصّعها بالترانيم.


في الحياة الثالثة، أصابهما الإعياء، فخطّا صلحا مؤقتًا. فكانت مدننا كما هي الآن.



}-حديث حبة اللوز وحبة العنب{-

حبة اللوز التي تفاخرت علي حبة العنب بصلابتها وبأسها، ورَمَت الأخيرة بالميوعة والترف، التقها ثانيةً بعد المرور بالمعصرة. صارت هي زيتًا، أما الأخرى فكانت خمرا.



}-حديث القطة العجوز{-

تقول القطة العجوز: هذا الآدمي الأحمق عجيب. ضخم الجثة فارغ العقل. ولأني أحكم منه فقد استعبدته. أصرخ فيه فيهرول ليحضر لي الطعام والشراب. أتكئ علي أريكتي، فيقترب مني مطأطئ الرأس كالعبد ليمسّد ظهري ويربت عليه. يداه قذرتان، ما أن يرفعهما عني حتي أشرع في لعق فروي لأزيل قذاراته. يتلعثم في الحديث، فأعيد عليه موائي الفصيح علّه يتعلم النطق، لكنه لا يفعل. لا يحتمل فراقي كصغاري الرُضَّع، فأتفضل عليه وأبقيه في منزلي.



}-حديث كأس الخمر وسجادة الصلاة{-

سقطت كأس الخمر القديمة، المُهمَلَة في كوة الحائط، علي السجادة التي يصلي عليها السِكِّير التائب فأحرقتها.


سقطت سجادة الصلاة العتيقة، المهملة في كوة الحائط، علي كأس الناسك المُنتَكِس فأطفأتها.


هرع الناسك والسكير فَزِعَيْن إلي قارعة الطريق، تبادلا النظرات البلهاء، ثم عاد كلاهما إلي ما يحسنه. الناسك إلي محرابه، والسكير إلي حانته.



}-حديث ورقتي التوت{-

علي غصن شجرة التوت العتيقة، وُلِدَت ورقتان في الربيع. نشأتا معا، تشمّمتا رائحة الغابة، واحتضنتا الفراشات. جاء الصيف فعالجا مراهقتهما الفتيّة، تعاهدا علي الوصل حتي الموت. تجادلا وتسابّا وتحابا وتعانقا. في الخريف، أصابهما الهرم فجأة، ثم جاءت العاصفة فنزعتهما. أما الورقة الأولي فهي الآن في عش عصفور، يحتمي بها من الصقيع. وأما الثانية فقد انزلقت عليها دراجة صبي فتحطم عنقه.


 


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 02, 2016 16:23

تراتيل ونقوش

تراتيل ونقوش

حكايات الموت


شقث


(1)


في السوق، ابتاع قطعتين من الحبال. على فرع شجرة الجميز العتيقة، صنع بقطعة الحبال الأولي أُرجُوحة جميلة لطفلته الصغيرة. إلى اليمين قليلًا من الأرجوحة، صنع بالقطعة الأخرى مِشنقة، ثم تدلّي منها.


(2)


يقسمون له أن لا أحد يسير فوق خطوط النور، لكن الشك يقتله. لا يثق إلا في حواسه هو. في شرفة الطابق التاسع، يخطو أولي خطواته في الهواء بنجاح، ثم حين يتبعها بالثانية ي…. .


في الصباح، عثر عليه جاره في بقعة كبيرة من الدم، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة .. ابتسامة من تحصّل بعد عناء على يقين يتيم.


(3)


لا يطأ بقعةً من أرض الله إلا ويخط اسمه على حوائطها، علَّه يعود يومًا فيتذكر. اسمه منقوش في زوايا الأرض، مات ولم يره قط.


(4)


هذه العائلة تطفح بالفلاسفة حتى كادت تنقرض، لا أحد فيها يعمّر. رجالها يلتقطون الحقيقة باكرًا جدًا فينتحرون في شبابهم. اليوم، وُلِد لهم طفل ميت. اختنق بحبله السري.


(5)


بعد أن فرغ رجال الإطفاء من عملهم، هرع الآخرون يستخرجون ما بقي في عربة القطار المحترقة من متعلّقات الضحايا:


مصحف – أحمر شفاه-عكاز-مجلة خلاعية-دمية-كتاب في فيزياء الكوانتا-حذاء ممزق-قلادة ماسية-طاقم أسنان-قيثارة-مسدس محشو-دفتر مذكرات فارغ.


(6)


حين همّ بالقفز إلى النهر الهادر تحته، فاجأته رسالة في هاتفه تخبره أن صديقيه الاثنين توفيا في حادث سيارة. أخَّر خلاصه ليوم آخر. هو يخشى على الموت، وليمة إضافية ستصيبه بالتخمة بالتأكيد.


(7)


أسفل مكتبه، كان ممدّدًا وقد انتفخت أحشاؤه.


أعلى مكتبه توجد علبة تبغ فارغة، وأقلام مبعثرة، ودفاتر، ولوحة غير مكتملة، وكتاب لابن عربي، ومدية، ودمية مقطوعة الرأس، وأحمر شفاه، وصدرية نسائية، وحشرات ميتة، وطعام متعفّن، ولوحة مخطوط فيها: }وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطا{.


(8)


يمقت المحيطين جميعًا، صالحهم وطالحهم. يتمعن في وجوههم فيلفق لهم طرقًا مبتكرة للموت. يتمني فناء الآخرين، لكنه –رغم هذا-يخشى حدوث ذلك لئلا يفقد مبرر وجوده فيلحق بهم.


(9)


حسنًا، عاش هو حياته دون أن يلحظ وجوده أحد. على الهامش أمضي سنواته الطِوال، لكنه لن يجعل موته رتيبًا هو الآخر. سيجعله صاخبًا للغاية، سيملأه بالضجيج، سيكدر صفوهم في قبره:


أشلاء متناثرة، دماغ مفتت، ديون متراكمة، ثأر، رسائل بليغة وواضحة تصلهم منه بعد دفنه …. إلخ.


(10)


دعاهم إلى حفل شواء باذخ في بيته. دعاهم جميعًا، من يحبهم ومن يبغضهم. تحدث كثيرًا كما لم يفعل من قبل، أخبرهم أنه يحبهم جميعًا، واعتذر للجميع عن أي إساءات غير مقصودة، ثم عانق الجميع … بحزام ناسف.


(11)


في المعتقل، خاضوا معه جدلًا فلسفيًا عميقًا. كان هو رواقيًا، فحاور عقولهم عن الحق والخير والجمال. أما هم فكانوا سفسطائيين، فغرسوا شكهم وريبتهم في جسده حتى كاد يهلك. حين خرج من المعتقل لأسباب صحية، انتظر حتى تعافي ثم بحث كثيرًا عن الإجابات. حتى إذا عثر على الحقيقة في نهاية الأمر، تحزّم بها تحت قميصه، زار أصدقائه القدامى في المعتقل، ثم نزع فتيل الحقيقة ونثرها في وجوههم.


(12)


مصاب هو بداء عضال. لا يخشى الموت، لا يخشى الله. هو يخشى الانتظار، ويخشى الوحدة أكثر.


حين تيقن بقرب موته، ابتاع بما يملكه من مال مسدسًا أنيقًا. قصد السوق، واصطحب معه البعض.


(13)


على باب غرفة العناية المركزة لافتة تقول: يُحظَر دخول الأطفال، ومُرهَفي الحس، والمأكولات … والفلسفات.


(14)


يثرثر هو كثيرًا عن الموت، يمزج بجدّه وهزله. يحرص على حضور المآتم ومراسم العزاء والدفن. يقرأ كثيرًا عن الموت والقبر ومشاهد القيامة. في جلسات الأنس، يحكي لأقرانه بحماس عن مغامرات ما بعد الموت بالتفاصيل المثيرة للملل. لا أحد يعرف سر ولعه بالموت، لعله يظن أنه يبعده عنه بكثرة الحديث حول ملابساته.


لكن ما نجهله أكثر هو لماذا توقف عن الحديث عن الموت حين دهمه أخيرًا ؟!


(15)


في ساحة المدينة المقصوفة، تحتضن المرأة طفلتها الرضيعة. سال دماغ الرضيعة من الرأس حين احتضنتها القذيفة. سال قلب الأم من صدرها حين احتضنت طفلتها.


بعد سويعات من الحيرة، قام الرجال فحفروا قبرًا ودفنوهما معًا.


(16)


في اليوم الأول: مات الجد بسكتة قلبية.


في اليوم الثالث: صعقت الكهرباء الابن الأكبر فأردته قتيلًا في الحال.


في اليوم السادس: صدمت الحافلة ابنتهم الصغرى خارج مدرستها. يقولون: ستنجو. يقولون: ستتعافى. يقولون: لن تموت. لماذا؟ لأنه لا يُتَصور أن تودع الأسرة ثلاث جثث في أسبوع واحد.


في الصباح، زارهم الموت فنزع الثالثة. لماذا؟ ليلقي عليهم السلام، ثم ليمازحهم قليلًا (وهو –الحق أقول-يجيد المزاح)، ثم ليخبرهم أن هراء الإحصاء والمنطق يسري على الحمقى الذين اختلقوه، لا عليه.


(17)


“موت – حياة – موت”


أغنية قصيرة بليغة، قال لي، احرص أن تلقنها لأبنائك. أخبرهم أن الحياة بنت الموت، من سفاحٍ على الأرجح.


(18)


قرأ كثيرًا فصعد. حاز الجاه والسلطان فصعد. ازدرد الذهب وتجشأ الفضة فصعد. ضاجع الحسناوات فصعد. سكر كثيرًا وعربد، فصعد. انتشى بفتوته فصعد. صعد ثم صعد فصعد.


حين نكزه الموت بإصبعه البارد كالثلج، هوي. تناثرت أشلاؤه فوق البحار الخمس.


(19)


لا يطيق حضور مراسم العزاء والدفن. يحط الحزن على أكتاف القوم. أما في صدورهم فتقبع بهجة معتّقة لا رائحة لها: أخطأهم الموت مرة أخري وأصاب آخر.


(20)


“مات الفلاح قبل أن يحصد زرعه.


مات الغريب قبل أن تطأ قدمه الثانية أرض الميناء.


مات الرضيع في حجر جدّه وهو يلاعبه.


مات الطبيب حين تماثل المريض للشفاء.


ماتت الأم قبل أن ترَ وليدها.


مات الناسك حين سقط الشك مدويًا في قعر صدره.


مات الموت حين ……..” (*)


————————–


(*) نص غير مكتمل لكاهن قديم مات قبل اتمامه.


(21)


ليلة العيد، اشتري بدراهمه المعدودات بزّة بديعة لطفله الوحيد، ليلبسها في العيد فيكون كأقرانه ليوم واحد رغم فقره بقية العام. في الطريق إلى البيت، كان يتوهّم بهجة طفله للباسه الجديد. أمام الباب أبصر زوجته منثنية على كبدها.


صباح يوم العيد، كفّن طفله، ووضع معه في الكفن لباس العيد، ثم واراه التراب.


(22)


هو يريدها طفلة. هي تريده ولدًا. مزاح، فخلاف، فتلاسُن، فتناوُش، أفرغت خزانة ملابسها وقصدت بيت أبيها.


بعد أسابيع، وضعت وليدها باكرًا. نزل سقطًا. لم يعرف أحدهم إن كان ذكرًا أم أنثي. في اليوم التالي، جاء الزوج فصحبها إلى المنزل.


(23)


ينزع الموت روحًا، فيصنع ملهاة رائعة. يتبارى الشعراء في وصفها بقصائدهم كما تجود قرائحهم. يتصفّح الموت قصائدهم الرديئة ويسخط عليهم، فينزع أرواحهم ليصنع ملهاة أبهي، يتبارى في وصفها شعراء آخرون … إلخ، إلخ.


(24)


في طفولتنا، كانوا ينهوننا في القرية أن نخط شيئًا على الرمال ثم نتركه دون أن نمحوه. علّلوا ذلك بأسباب تتعلق بالجانّ، لا أذكر تفاصيلها الآن.


أنا الآن على قدر لا بأس به من العلم، ولم أعد أعتنق هذه الخرافات بالطبع، لكني سأحرص –وأنا على فراش الموت-على إحراق كتبي ولوحاتي وهواتفي وبطاقات الهوية.


(25)


قال لي جدي: يقولون (لا أعرف من هم، لكن يبدو أنهم على حق) أن لحظات نزع الروح دائمًا ما يسبقها سكون الموجودات، لا ثرثرة في حضرة الحقيقة، لا مقام وقتئذ إلا للصمت. فيها، تتعاظم قدرة الخالق فتبدو كأعظم ما تكون، وتندثر “قدرة” المخلوق فتبدو كأقحر ما تكون.


قال: ساعتها يبصر الجميع الحقيقة، فيعتنقها البعض، ويجحدها الآخرون.


(26)


غسّل الشيخ الجسد الأول، فنزفت من فتحاته الدماء والصديد والقذارات.


غسل الجسد الثاني، فخرجت من جسده البراكين والأعاصير والرعود.


غسل الجسد الثالث، فكان كالحجر الأصم. لم يخرج منه شيء.


(27)


جاء القوم لإمام المسجد بجسد الناسك العابد ليغسّله. همّ بتعريته حين أبصر على أسماله ثلاث شعرات طويلات شقراوات. نحّاهن جانبًا، تبسم قليلًا بزاوية فمه، ثم أتمّ تغسيله في صمت.


(28)


لا يحمل بطاقة هوية. لا يلتقط الصور مع رفاقه. لم يتزوج ولم ينجب. نشأ في بيت أيتام فلا يُعرف له أهل. لا يستمر في عمل واحد شهرين متواصلين. لا بيت له، يحمل متعلقاته في حقيبته الصغيرة. لا يقترف صداقات، لا يختلق عداوات.


حين توفي أثناء عمله، صلي عليه رفاقه ودفنوه سريعًا. بعد أيام معدودات كانوا يتساءلون إن كان قد وُجِدَ حقًا أم أنهم قد توهّموا هذا.


(29)


في خزانة ملابسه مائة وجه، يرتدي منها كل يوم ما يليق بهندامه. اليوم هو عابد زاهد ورع. بالأمس كان فاسقًا عربيدًا لا يتورّع عن شيء. أول أمس، كان كسولًا خاملًا. اليوم السابق، كان كمن يحمل الكون على كتفيه. يسبُّ هذا، ويدعو لهذا، ويداعب هذا، ويقذف عرض هذا، ……. .


موته لم يكن بعيدًا. في أحد أسفاره الليلية، مرّت إطارات الشاحنة فوق رأسه ففلقته. لم يميز أحدهم ما تبقي من وجهه فدُفِن في قبر مجهول.


(30)


فوق قبر السِكِّير، بنت الحمامات أعشاشهن.


فوق قبر الناسك، حطّ الغراب.


(31)


ثلاث فتيات في عائلة ارستقراطية فاحشة الثراء. هذا الوضع لا يأتي بلا مسؤوليات كما هي العادة. الفتيات لا يلعبن مع الصبية. الفتيات لا يوسخن ملابسهن باللهو في الطين. الفتيات لا يلهين في المطر. الفتيات يلتزمن بآداب المائدة. الفتيات لا يرفعن عقيرتهن بالصياح. الفتيات يبتسمن، لا يقهقهن. الفتيات لا … الفتيات لا … الفتيات لا … .


تكيفت الكبرى والوسطي. أما الصغرى فلم تحتمل فِراق الطين والمطر، وماتت.


(32)


جارنا البدوي يضرب ناقته. جارنا البدوي يذيقها العذاب ضعفين. جارنا البدوي يذبح صغارها قبل الفطام لئلا يتكلف عناء أعلافها. جارنا البدوي يخشى ناقته ويعلم أنها ستقتصّ يومًا ما.


في خيمته أثناء سفره في الصحراء، لدغته أفعي مجلجلة فهلك في ساعتها. خلعت ناقته عقالها، بركت عند باب الخيمة، ثم أسلمت الروح.


(33)


وجيه القرية يملك من الأراضي المزروعة بالذّرة ما ترتع فيه الخيل أيامًا وليالي لا تبلغ منتهاها، كما يتفاخر هو. غير أنه لا يملك إلا حفيدة واحدة، تملأ من عينه ما لا تملأه حقوله الشاسعة. خرجت حفيدته تلهو في الحقول، فضلّت الطريق وضاعت بين أعواد الذرة. لفحتها الشمس بحرارتها فماتت.


بحثوا عنها ليالي عدة حتى دلّتهم عليها رائحتها بعدما انتفخت في الشمس. أصابت عقل العجوز لوثة فأضرم النيران في حقوله قبيل الحصاد بأيام. باع الأرض بثمن بخس ثم أحرق أموالها. قبل أن تخمد النيران كان صدره قد خمد.


(34)


صدمت السيارة المسرعة أمامه هدهدًا صغيرًا لم يتقن الطيران بعد. خلع معطفه ووضعه بين طياته. حمله إلى منزله. اعتني به حتى كساه الريش وانجبر جناحه المكسور. بعد شهرين، حمله إلى الطريق السريع حيث وجده وأطلقه في السماء. تابعه بنظره حتى اختفي بين ثنايا السحب. حين عبر هو الطريق عائدًا إلى بيته صدمته شاحنة عملاقة.


(35)


بين كؤوس الخمر وأرجل النساء يقضون لياليهم، شأن من يهرب من فكرة أزلية.


الليلة الماضية، سقط أصغرهم ميتًا دون مقدمات. حملوه خفية إلى إمام المسجد، فغسّله وصلي عليه منفردًا فهم لا يتقنون الصلاة. بعد الدفن نصحهم الشيخ وخوفهم من سوء العاقبة فجادت أعينهم بالدمع وتواصوا على النزع.


هذه الليلة، ولجوا الحانة فرادي متعاقبين. حيّوا بعضهم البعض دون أن تتلاقي أعينهم. تحدثوا حديثًا مقتضبًا، ثم دفنوا رؤوسهم في كؤوس الخمر ونهود المومسات.


(36)


حين سبّ السجين مدير السجن، أقسم الأخير على حبسه منفردًا في الظلام حتى يلقي حتفه. لم يهتز، تحمل العزلة وتماهي فيها، إلا ما كان من شأن ذاك الصنبور في الطابق العلوي الذي يتسبب في قطرات رتيبة ومتواصلة تكاد تفلق رأسه. صرخ فيهم ولعنهم وتوسلهم لإصلاح الصنبور، فلم يلتفت إليه أحد.


بعدها بأعوام، جاء مدير السجن الجديد، فجدّد بعض أساسات السجن وأصلح خطوط المياه، فتوقفت القطرات. حينها صرخ السجين فيهم وتوسلهم بما بقي من أوتار صوته لإبقاء قطرات المياه، لكن مثل هذا لم يكن ممكنًا.


حين أتاه السجان في اليوم التالي بالطعام، كان ساكنًا كالقبر.


(37)


المهرج العجوز لم يعد يضحك الجمهور، هو يعرف هذا، لكنه لا يعرف شيئًا آخر يتكسب منه دراهم عشاءه. يتلو عليهم نكاته المحفوظة فيسبّوه. يرقص ويقفز فيرشقونه بالأحجار. يمسح الدم عن وجهه ويكمل العرض، فيهبطون إلى الحلبة ويضربونه حتى تتداخل أضلاعه.


الليلة، دخل المهرج الحلبة بساقه المكسورة. وضع فوهة مسدسه في فمه، ثم ضغط الزناد، فهلل الجمهور وصفقوا له كثيرًا.


(38)


صديقي الملحد الذي فلق رأسي بثرثرته عن موت الإله ووهم المطلقات وأساطير الأولين المتشحة بهراء الكهان، كان يشاطرني الغرفة في الباخرة التي تطفو فوق المحيط.


حين فاجأتنا العاصفة وأدركنا الغرق، تعلّقنا بالعوامات وانتظرنا خفر الساحل. نصف جسده في الماء ونصفه الآخر في الضباب، لمحت صديقي يرفع يديه إلى السماء. هل كان يدعو الله؟! لا أعرف، فهو لم يجادلني بعدها قط في شأن الإله.


(39)


عجوز القرية التي جاوزت التسعين بقليل، تذهب كل صباح إلى طرف القرية. تخط خطًا جديدًا على جذع شجرة التوت العتيقة، تنتظر أبناءها الثلاثة الذين لم يعودوا من الحرب. أربعون عامًا مذ ذهبوا. الأسبوع الماضي، اشتري أحد الوجهاء الأرض التي تحوي شجرات التوت. صباح اليوم، حرثوا الأرض واجتثوا الشجرات. قرب المغيب، سمعنا أصوات النساء. ماتت العجوز.


(40)


قال لي: مولع أنا بتحريق سفني وشطب الأسماء والعناوين من دفتري. اصحب من الناس من اصحب فاعتصره، حتى إذا لم يبق في صدره ما اقتات عليه من علم أو حكمة، نبذته نبذ النواة. تناسيت حتى نسيت. قطعت جميع صِلاتي بالأمس، حتى ليُخيل إلى أن أوتار عنقي ستتمزق إن أنا التفت.


قلت مازحًا: لم يبق إذًا إلا أن تقطع شرايين عنقك التي تربطك بالدنيا.


أطرق قليلًا كمن احتلت رأسه الفكرة ثم تمتم: نعم، نعم، لم يبق إلا أن أقطع شراييني.


(41)


صديقنا الصعلوك دائم الضحك، خفيف الروح، يتقافز لا يمشي، يلمز هذا ويلاعب هذا. لكنه لا يجيد شيئًا مثل التلصص. يتلصص على كل شيء. يتلصص على الفتيات أثناء الاستحمام. يتلصص على الزوجين بعد أن يغلقا عليهما الباب في الأعراس. يتلصص على النساء والقابلات أثناء الولادة. لا يجالس الرجال فهو لا يجيد تصنع الوقار.


حين غلبه الفضول يومًا وتلصص على الشيخ وهو يغسل ميتًا، عاد إلينا بوجه غير الذي نعرفه. تجهّم، اعتلت رأسه خصلتين مخضّبتين بالشيب. وغلّفه الصمت فلم ينبس بعدها ببنت شفة.


(42)


هذه العائلة الثرية متعجرفة. الكل يعلم هذا. هم أيضًا يعلمون. لا يخالطون الفقراء أو متوسطي الحال مهما تكلف الأمر. يسكنون أطراف القرية فلا يقربهم أحد. حتى في موتهم. كيف؟ ألا تري قبورهم التي تعلوها الشواهد المبهرجة بعيدًا عن قبورنا؟!


على أي حال، كان الدرس قاسيًا. غمرت السيول المدينة فاقتلعت الشواهد وأغرقت القبور فاختلطت عظامهم بعظام الآخرين.


(43)


حين ثار البركان وغمر المدينة برماده، لم يثني الأول عن عزمه. كان الناس يهرولون في الطرقات هربًا من الرماد، أما هو فكان يعدو نحو بيت الثاني، عشيق زوجته ليقتله. اشتبكا بالأيدي سريعًا، لكن الوقت لم يسعف أحدهما ليتغلّب على الآخر.


حين عثر رجال الآثار على عظامهما المطمورة، نظر أحدهم للجثتين المتعانقتين وقال: انظروا إلى هذين الصديقين، لم يفترقا حتى في ساعة الموت. 


(44)


لم يبرح الحانة مذ وعيت أنا الأشياء. كانوا ينهوننا صغارًا عن الحديث معه، هذا الزنديق الذي لا يصلي الفرض ولا يعرف الله. تلك الليلة، انثني خلف الحانة، يتقيأ ما ملأ به جوفه من الخمر فأبصر شيخ المسجد الجديد مارًا مع ابنته.


ظهر اليوم التالي وجدته في المسجد يقرأ القرآن وينتظر الصلاة. نظرت إليه مستفهمًا فتبسّم وقال: الله جميل، خلق سلمي.


صلي بجانبي. قمنا فقام، ركعنا فركع، رفعنا فرفع، سجدنا فسجد، وحين سلمنا لم يسلم هو. كانت يده الباردة متدلية ورأسه مطروحًا على كتفي.


(45)


حين انطلقت صافرات الإنذار، هرعت الأم توقظ أبناءها الأربعة. حملت الرضيع وصحبت البقية سريعًا إلى حظيرة الخيول في المزرعة، بعيدًا عن المنازل التي ترصدها طائرات الحرب. عادت للبيت فأيقظت زوجها وأسرعا ليلحقا بصغارهما في الحظيرة. لكن الحظيرة لم تكن هناك.


(46)


قائد الحرب الذي لا يشق له غبار مات على فراشه.


السِكِّير سقط عند باب الهيكل.


الثري هوت طائرته في الصحراء فمات جوعًا وعطشًا.


الجندي الفار من المعركة قتلته أمه بفأسها حين تسلل إلى بيته ليلًا خشية العار فظنته هي لصًا.


المتسول الذي عثر في الزقاق على خاتم ذهبي، اشتري طعامًا كثيرًا وأكل حتى مات بالتخمة.


العجوز الهَرِم دفن ابنه، ثم دفن حفيده، ثم دفن ابن حفيده الرضيع. مل الانتظار فألقي نفسه في النهر.


.

.

وأشياء أخري تعرفونها.


(47)


مات طفلهم الأول. بعد عامين أنجبوا ثانيًا وسموه باسم أخيه الراحل فمات بعدها بقليل.


بعد عام أنجبوا طفلهم الثالث وسموه بنفس الاسم فمات بعد شهر.


حين أنجبوا طفلهم الرابع، سموه باسم آخر.


خمنوا ماذا؟


مات هو الآخر. هل كنتم تعتقدون أن الموت ساذجًا لهذا الحد حتى تنطلي عليه مثل هذه الحيل الرخيصة.


(48)


قبور تغطيها زهور النرجس.


قبور تنبت حولها أشجار النخيل.


قبور يعتليها روث الحيوانات.


قبور جميلة الشواهد.


قبور قبيحة الشواهد.


قبور لا شواهد لها.


قبور اسمنتية.


قبور رملية.


قبور فارغة تنتظر.


.


.


بلا بلا بلا ..


(49)


يتوق إلى النساء. لا، في الأربعين.


يشتهي شهي الطعام. لا، في الأربعين.


ماذا عن منزل لائق ؟. لا، في الأربعين.


سيارة ترحمه من عناء المشي إلى العمل كل صباح. لا، في الأربعين.


حسنًا، ماذا عن …؟ قلت لا، لا لا، صرخت نفسه. أخبرتك كثيرًا أنك ستحصل على كل شيء في الأربعين. ستغرق في بحور الملذات وستغرب عنك أيام الشقاء في الأربعين. أما الآن فاعمل. اعمل فقط لتجني المال الكثير.


قالت أمه العجوز: مسكين ولدي، مات في ذات يوم مولده. عاش أربعين ربيعًا بالضبط.


(50)


سخر الفيلسوف من الناسك. قال: لماذا تخفي يقينك تحت أثواب العزلة السبع؟ هيا، انزع رداءك واستمتع بدفء الحقيقة.


مترددًا، نزع الناسك أثوابه، واحدًا تلو الآخر. لفحته شمس الشك فسقط صريعًا.


(51)


في الطابق الأول، ألقت المرأة طفلها من السِفاح في فتحة المجرور لتمنع فضيحتها المحتملة.


في الطابق الثاني، حطّم الأب أصابع صغيره حين خدش سطح سيارته الحديثة.


في الطابق الثالث، نزع الأب المدمن للمخدرات أقراط صغيرته أثناء نومها، شعرت به فصرخت. غرس مديته في صدرها.


في الطابق الرابع، ألقي السكير طفله الرضيع من النافذة ليسكت صراخه المزعج.


.

.

في الطابق الخامس، زوجان يقومان الليل كل ليلة، يدعوان الله أن يمن عليهما بمولود يقطع هذا الانتظار الطويل.


(52)


عند الصخرة التي تطل على شلال المياه، يجلس العجوز الوحيد كل أصيل مع كلبه، يتناول غداءه ثم يلاعب كلبه بالكرة. في الليلة الأخيرة للعجوز، ألقي الكرة بعيدًا فانزلقت قدمه. حين أحضر الكلب الكرة لم يكن العجوز هناك.


اعتاد الكلب الجلوس هناك كل نهار حتى المغيب، لكن العجوز لم يظهر أبدًا. تستطيع أن تتثبّت بنفسك من صدق حديثي، عند الصخرة ستجد الكرة وبعض العظام ورائحة الانتظار التي تغلف الهواء.


(53)


الأم تمشّط شعر الصغيرة، تضفّره، تمرر يدها بين خصلاته التي بعثرتها الريح. تغني لها أغنيات عن شعرها الفاحم الطويل. تقص عليها حكاية “رابونزيل” ذات الشعر الأشقر الطويل للغاية.


في الشهر الأخير الذي قضته الصغيرة في سرير المرض بعد أن غرس السرطان أظافره عميقةً في صدرها، كان شعرها يتساقط فتلتقطه وتضعه في كيس صغير. حين خلا رأسها بالكامل، أخرجت الكيس من تحت وسادتها، وضعته في يدي أمها ثم نامت، للأبد.


(54)


الشاب المسكين دفن روحه في الكتب بحثًا عن إجابات لأسئلته. قرأ فانعزل. قرأ فسهر. قرأ فجاع وعطش. قرأ فمات.


في مكتبته الكبيرة، وجدوه ممددًا على الأرض، وحوله الكتب تبتسم بخبث.


(55)


عاش كأبطال الملاحم: صنع بطولات غير مكتملة، أبحر خارج الدروب المطروقة، سأل أسئلة محرّمة، عاد بإجابات متشكّكة، عاش وحيدًا كذئب عجوز.


غادر أيضًا كأبطال السِيَر. اختفي فلم يعثر على أثره أحد.


(56)


مشهد أول: في المشرحة، طبيب مخمور يمسك بإحدى يديه قنينة خمر، وبالأخرى مشرط جراحة، يعبث بجثة العجوز الميت الذي رفض تزويجه ابنته.


مشهد ثاني: لص جائع يحفر قبور الأثرياء حديثي الدفن، يقطع أصابعهم بفمه لينزع عنها الخواتم الماسية.


مشهد ثالث: مسلحي الميليشيات يقتحمون القرية المسالمة، يطلقون النار على كل حي. يقطعون رؤوس الأطفال ويلعبون بها الكرة.


مشهد رابع: شنق امرأة شقّت عنق ذئب حاول اغتصابها.


مشهد خامس: سجين تظهر أدلة براءته القاطعة بعد إعدامه بدقائق، فينفجر الجلاد والقاضي ضحكًا.


مشهد سادس: طفل صغير يلزم جثة أمه المنتفخة بضعة أيام في القرية الخراب التي خلّفتها الحرب. يغلبه الجوع، فيغرس يديه في أحشائها، ينزع منها ويأكل.


(57)


قال لي: آلهة الأوليمب حمقي. لو كنت مكانهم لحمّلت سيزيف ساعة حائط ضخمة بدلًا من الصخرة.


لم أصحبه بعدها أبدًا، صرت أخشاه كالموت.


(58)


في الخندق، تحت زخّات الرصاص التي أصابته بالصمم وذهبت بلبّه، يستلقي الجندي المرتجف وينظر إلى السماء ببلاهة. بيدين متراخيتين يخرج من جيبه خطاب طفلته الصغيرة، يعيد قراءة كلماتها المتقطعة للمرة الأخيرة. ينهض ويرفع بندقيته فيحتضنه الرصاص.


(59)


تفيق الطفلة التي مزقتها شظايا القنبلة من المخدر، فتتشبث بأيدي الطبيب وتصرخ: أنا عايشة، عمو، أنا عايشة. (**)


(60)


يرفع الصغير المرصّع بآثام القذيفة سبابته للأعلى. يقول: سأخبر الله عن كل شيء. ثم يسلم الروح. (**)


(61)


همس في أذني: تجنب المرايا لا يمنع التجاعيد من الزحف في ملامحك. تجنب ذِكر الموت لا ينسيه إياك. تجنب المرور بالمقابر أو زيارتها لا ينفي حقيقة أنك سترقد بين طياتها يومًا ما.


(62)


في غرفة الفندق جلس. سمع حركة عقارب الساعة، قام فحطمها. سمع صوت قطرات المطر المتساقطة في الخارج برتابة، قام فأغلق النافذة. سمع دقات قلبه المتسارعة، أمسك السكين وغرسها فيه. ثم استمتع بالصمت المطبق.


(63)


في المسرح الروماني المهجور، يجلس وحيدًا. يشاهد خيالات الأسود تفترس أطياف المسيحيين. مع كل مسيحي يسقط، يقفز من مكانه ويهلل ثم يتقارع الكؤوس مع أشباح الرومان عن يمينه وشماله.


(64)


يوم الإعدام كان الجميع سعيدًا ومبتهجًا. كان القاضي الفاسد سعيدًا، مكافأة السخية التي تنتظره من الطاغية. كان الجلاد سعيدًا، اشتاق كثيرًا لنزع الروح بعد مرضه الطويل. كان الصحفي سعيدًا، سيكتب أخيرًا “المانشيت” الرئيس في الصحيفة. كان الثائر سعيدًا، آن له أن يستريح أخيرًا.


(65)


يصلي قرب نافذة المسجد المقابلة لنافذة البغي. يقول: لا بأس، لا بأس، أنا لها. أحكمت ذمام نفسي فما عادت تدعوني لشيء، المهم ألا أمنع نسمات الهواء القادمة من النافذة. بعد ليلتين، تسلل خفيةً إلى غرفة البغي. طرق الباب فصدته، هي لا تضاجع أحدًا في أيام حيضها. استغفر هو وعاد للمسجد. في المنتصف بين بيت البغي وباب المسجد قُبِض، فضربت الملائكة أخماسًا في أسداس.


(66)


الموت يعرف أنه يخافه كالجحيم، فيطيب له أن يمازحه من حين لآخر. تجسّم له ونشر أجنحته في الأفق. صرخ الكهل ورماه بسهم، رماه بسهم آخر، أفرغ فيه جعبة سهامه، قذفه بالبلطة، أطلق عليه السباب البذيء. أما الموت فكان مستلقيًا على ظهره يضحك كمن لم يفعلها قبلًا.


نظر الموت في ساعته (نعم هو يحمل الساعات، هل رأيت من هو أوفي بالمواعيد منه) فانتفض، كادت وليمته التالية أن تفلت. ودع الكهل ووعده بلقاء قريب.


(67)


الدرويش يري ما لا نري. ينظر في عيون الخلق فيعرف ما تبقي من أعمارهم. هذا العجوز سيعمّر طويلًا. أما ذاك الفتي فسيهوي بعد سويعات. هذه المرأة ستموت بعد أربع سنوات وشهرين. أما هذا الغريب، هذا الغريب، آه، غريبٌ أمر هذا الغريب. لا يري شيئًا في عينيه، كما أنه انصرف سريعًا قبل أن يتحقق مما رآه، أو مما لم يره بالأحرى.


في اليوم التالي زاره الغريب ثانيةً. بعدها بسويعات واروه التراب.


(68)


الأفيال تتذكر جيدًا، هكذا يقولون.


الأفيال تتذكر جيدًا، هكذا يبدو الأمر.


فيل السيرك هذا على سبيل المثال، لم ينس مصرع صغيره منذ عشر سنين. انفك الصغير من قيده فخرج إلى الشوارع يجري كالمجنون. فزع الناس، فأخرجوا أباه ليهدئ من روعه فيعيدوه إلى الحظيرة. حين اقترب من صغيره وتلامسا، خرج ذاك الملثّم من العدم، وأفرغ مسدسه في رأس الصغير. كان ملثمًا فلم يحفظ إلا عينيه الباردتان.


عشر سنين، يتحمل ألعاب السيرك المهينة ليختلس النظرات نحو المشاهدين علّه يري عينيي قاتل صغيره فيقتص منه.


(69)


يتهامسون بينهم: الأرملة السوداء جاءت.


الأمر بسيط على أي حال. علمت منهم –دون قصد-في الليلة السابقة لزفافها بشأن خيانة صديقهم لها. ضحكت كثيرًا وتظاهرت بالصفح، سيّرت مراسم الزواج كأن شيئًا لم يكن. تزينت له كالحور، ذاقت منه وذاق منها. بعد أن خلد للنوم، مزقت أوتار عنقه بأسنانها، قطعت ذَكَره وحَشَت به فمه.


في اليوم التالي عثر عليه أصدقاؤه غارقًا في دمائه فلم يطلعوا أحدًا على ما حدث ودفنوه في صمت. فقط، حين يهم أحدهم بالزواج منها، يهرعون إليه ليصرفوه عنها. هذه امرأة تعشق وتذبح كآلهة الأوليمب. يرهبونها كالموت، هي تعرف هذا فتحرص على إلقاء القبلات ناحيتهم في طريقها للمتجر كل ليلة.


(70)


هذا الطاغية الذي سفك دماء قومه وهتك أعراضهم وشردهم وجرّعهم القهر كؤوسًا، مات ولم يقتص منه أحد. تماثيله منثورة في أنحاء المدينة، وقبره المرصع بالذهب قائم في الميدان. بعضهم كفر، بعض تشكك، بعضهم تساءل ببراءة الأطفال: ولكن، أين الله؟


سنوات، وضربت المدينة العاصفة، فاقتلعت –فيما اقتلعت-قبر الطاغية فتناثرت عظامه على قارعة الطريق. خرجوا بعد العاصفة يتفقدون الموجودات، هالهم ما رأوا فتسمّروا في مواضع أقدامهم. مرّ ثعلب صغير –لا أحد يعلم من أين أتي-فتبرّز على جمجمة الطاغية، ومضي في سبيله لا يلوي على شيء.


(71)


الصغير اليتيم لا يعوله أحد. ولا يملك إلا قيثارته الصغيرة، يعزف بها على قارعة الطريق فيجود عليه البعض بدراهم معدودات يبتاع بها عشاءه. مرت الليالي سراعًا على أهل المدينة، طوالًا على الصغير. اعتادوا صوت قيثارته فتسرّب من رؤوسهم، ونسوه فلم ينقدوه شيئًا حتى غلبه الجوع وأبت عليه نفسه السؤال، فمات على قارعة الطريق.


مات الطفل ودفن. لكن صوت قيثارته لم يكف ليلةً عن التردد في أنحاء المدينة ليذكر أهلها بجُرمهم.


(72)


أدار المقامر مجسّم الأرض ليخمن موضع وفاته. دارت الكرة طويلًا. أوقفها بسبابته. حين نزع إصبعه، ضحك. ضحك كثيرًا.


(73)


يسكنان الحارة العتيقة. نافذتها في مقابل نافذة غرفته، لا يفصلهما إلا ثلاثة أمتار لم يعبرها قط. يتحادثان من مسافة ثلاثة أمتار. يتبادلان قصائد الغرام من مسافة ثلاثة أمتار. يخططان لزواجهما من مسافة ثلاثة أمتار. يتشاكيان من مسافة ثلاثة أمتار. يتمازحان من مسافة ثلاثة أمتار.


حين ماتت، أحضر مواد البناء وأغلق النافذة تمامًا. لم يذهب لمأتمها، لا يزال يرهب الأمتار الثلاثة.


(74)


بين السماء والأرض، تلتقي قذيفتي المعسكرَيْن المتطاحنَيْن. تتصافحان سريعان، ثم تمضيان في سبيليهما لتكملا مهمتهما بنجاح.


(75)


سليم الطوية وساذج نوعًا، لم يأبه له أحد من أهل القرية. لم يشعر به أحد. حين مات فجأة، استيقظت القرية على عويل أيتامها وأراملها وشحاذيها.


(76)


كنا جلوسًا في بيته نرقبه وهو يصارع طفله الصغير، يرخي يديه ويطلق الصرخات ليوهم الصغير بالغَلَبة. حين انطلق الصغير إلى مرقده، التفت هو نحونا وقال: هكذا الموت، يوهمك بالحياة، يعميك بالخلود، يوحي إليك بالغَلَبة، حتى تمتلئ باللاشئ. ثم تدرك في النهاية أنك كنت قابعًا تحت جناحيه طوال الوقت.


(77)


جثة مطمورة تحت الثلج.


جثة مدفونة تحت التراب.


جثة مفقودة تحت الأنقاض.


جثة غارقة في قعر البحر.


جثة مغطاة بالوحول.


جثة ملقاة في العراء.


إلخ ..


إلخ ..


(78)


على مرأي من طفله، أطلق الجنود النار على الثائر.


حين هوي، ألقي الطفل لعبته، بصق الحلوى من فِيه ثم التقط قبعة والده ووضعها على رأسه.


(79)


حين جاء الموت ليقطف روح الصبي، وجده جالسًا يشاهد الرسوم المتحركة. انتاب الموت الفضول فجلس يشاهدها معه هو الآخر. حين رأي صورته التي نقشها الرسام (هيكل عظمي يلبس معطفًا أسود ويحمل منجلًا عظيمًا) ضحك كثيرًا حتى استلقي.


لم يلهه هذا عما جاء لأجله بالطبع. نزع روح الفتي، ثم اعتاد بعدها أن يعود هناك في أوقات فراغه (هل يفرغ الموت أبدًا ؟!) ليشاهد الرسوم المتحركة.


(80)


في شارع المدينة المسعور، تلوّي المتسول العجوز جوعًا، لم يأبه له أحد. سقط مغشيًا عليه، لم يأبه له أحد. مات، لم يأبه له أحد.


ثمّة شؤون أخري أكثر أهميةً بالطبع. على سبيل المثال: هذا الرجل تشاجر مع زوجته صباحًا. هذه المرأة سيفوتها موعدها مع مصفف شعرها. هذا الشاب صفعته صديقته على مرأي من الفتيات. هذا الثري خسر بعض الأموال في البورصة.


حين سقط لحم المتسول عن عظامه وانتفخ وملأت الهواء رائحته المنتنة، انتبه الجميع، جاءت البلدية فجرفت الجثة، ثم عاد الجميع لشؤونهم الهامة.


(81)


صفعته الحياة فرد لها الصاع صاعين. طحنته فلم ينطحن. ساجلته الحرب حتى أدمت هي يديها. حين أعياها احتالت عليه. نزعت عن عينيه الدهشة أثناء نومه. في الصباح، استيقظ بنظرات بلهاء. تسربت من جيبه علامات الاستفهام والتعجب. بهت واضمحل حتى تلاشي تمامًا.


(82)


على زجاج نافذة المقهى، تداخلت صورة الشاب الذي عزم على الانتحار مع صورة الشيخ الذي يجلس على المقعد المقابل ويسعي جاهدًا لنفض فكرة الموت من رأسه.


لم تتحمل النافذة هذه المفارقة فتحطمت.


(83)


أطفالنا يصادقون القذائف ويلهون معها. تثني القذيفة عمود الإنارة، فيعلقون فيه حبالهم ويصنعون أرجوحة. تهدم القذيفة منازلهم، فيلعبون فيها “الغميضة”. تترك القذيفة في موضع سقوطها حفرة موت عميقة، يملئونها بالماء ويسبحون فيها. تنثر القذيفة شظاياها على الطرقات، فيجمعونها ويزرعون فيها الورود.


(84)


تستعمر عقله فكرة الموت وتظلل عينيه، فلا يري إلا النقص والموت والخراب والتعفّن في الأشياء والأشخاص وجميع الموجودات.


يري موته شاخصًا أمام عينيه، فلا يقر له المقام بوطن، يرتحل بحقيبة سفر، وتابوت وكفن بداخله حنوطه من الكافور والعبر والصندل.


سرق اللصوص منه حقيبة سفره وحافظته في زقاق مظلم بأرض غريبة، فاضطر لبيع التابوت والكفن ليبتاع له طعامًا، قصد المتجر لكنه لم يبلغه أبدًا.


(85)


زوجته رحلت، يحيا هو وطفلته وأبيه في بيت منعزل قرب البحيرة. طفلته تحب جدها كثيرًا. في النهار يلعبان معًا، في الليل يقص عليها الأقاصيص.


تلفق من خيوط الصوف لحيةً وتلبسها كجدها.


تلبس القمصان الواسعة والعوينات الكبيرة كجدها.


تجلس عند البحيرة لتصطاد الأسماك وترقب المغيب كجدها.


تغضب سريعًا وترضي. توزع اللعنات والقبلات على الجميع كجدها.


في الصباح، سأم المرض لعبته مع جدها فسقط الأخير مغشيًا عليه فجأة. ظنته يمزح فحاكته واستلقت بجانبه.


عاد هو من عمله فدفن الاثنين.


(86)


فكرة حوار بليغ بين دمية رضيعة وشظايا قذيفة.


بين مقلاع وفوهة دبابة.


بين طائرة حرب ومدرسة أطفال.


الفكرة حاضرة. النص لم يكتب بعد. لن يكتب أبدًا. هذه أشياء لا يصفها إلا الوحي.


(87)


مرت الجنازة، فطأطأ الجميع رؤوسهم، وغشا الحزن وجوههم.


حدثت الزوجة نفسها: مات قبل أن يشتري لي القرط الذهبي.


حدث الابن نفسه: من سيبتاع لي السيارة الفارهة؟


حدث الصديق نفسه: هلك الملعون قبل أن يرد لي دينه.


حدث التاجر نفسه: فقدت عميلًا آخر.


ارتفع عويل الشياطين: مات قبل أن يكفر.


(88)


في صغره، لم يتعلم أي لعبة لا تعجبه، لا يهملها، لا يعطيها لغيره بل يحطمها.


حين كبر، لم تعجبه قواعد اللعبة الكبرى، فانتحر.


هو يستحق على أي حال، لم يقرأ شروط التعاقد جيدًا قبل أن يطأ أرض الحلبة.


(89)


مدرسة مقصوفة أثناء الحرب الأهلية. جدران مفتتة، دماء، أوراق، دماء، أقلام، دماء، حذاء طفلة، دماء، طاولة صغيرة، دماء، غبار، دماء، يد باردة ممتدة من تحت الأنقاض، متيبسة حول لوحة رسم، منقوش فيها علم الوطن. (**)


(90)


في ميدان المذبحة، كانت الدماء والدخان والدموع وآيات الرصاص منقوشة في كل شيء. لم يبق من أجواء العيد إلا لافتة مخطوط فيها: كل عام وأنتم بخير. (**)


(91)


على هذا الجانب من الأسلاك الشائكة توجد أم ثكلي.


على الجانب الآخر يوجد طفل باكٍ فقدته أمه في زحام الرصاص.


هذا الجندي يحمل بندقية في يده ومِكحلة في صدره. قطّع الأسلاك وعبر بالطفل إلى حيث أمه.


صباح اليوم التالي، أعدموه بالرصاص. (**)


(92)


قبيل الزفاف بأسبوع، جلس الزوجان في مقعدهما الخاص على عجلة الملاهي الدوارة الضخمة. العجلة تدور، وهما في الهواء يتضاحكان، يختلسان قبلات سريعة، يناقشان أمور الزواج. نظر من الأعلى لأضواء المدينة المتراقصة أمامه، ثم سألها عن لون فستان الزفاف الذي تود ارتدائه، لم تُجِب. حين التفت نحوها، لم تكن هناك. لم يجد إلا حزامًا ممزقًا.


(93)


المقعد العجوز في طرف الحديقة الكبيرة لا يجلس عليه إلا حبيبان يعرف صوتهما جيدًا. يلوذان به كل أصيل، يتوهمان مستقبلهما القادم، ما تخبئه لهما الحياة، يحكيان عن بلاد الله التي سيزورونها، موسيقاهما المفضلة، مشكلاتهما مع الآباء ضيقي الصدر، …. إلخ.


ساعة بالضبط يمضيانها هنا خلسةً كل يوم. في اليوم الذي ضرب فيه الإعصار المدينة، غادرا سريعًا. لم يعودا أبدًا.


(94)


في شمال الملهاة، أعد الثري وليمة مترفة لأصدقائه (هل هم أصدقاؤه فعلًا ؟!) من ذوي الأموال والبطون المنتفخة والمؤخرات المحشوة بالدهن. قهقهوا كثيرًا، أشعلوا السيجار الفاخر، تحدثوا عن مشاريعهم المشتركة. لم يقربوا الطعام. صباح اليوم التالي، كانت الوليمة بكاملها في صفائح القمامة.


في جنوب الملهاة، ذبحت الأم طفلها الأعمى وأطعمته بقية إخوته كي يفلتوا من براثن الموت بضعة أيام أخري.


(95)


لا شيء يسكن هذا الزقاق المظلم إلا دكان العجوز. ينام فيه ليلًا، ويتكسب منه نهارًا ببيع الحلوى للصغار. يضئ لهم الفانوس الذي يعمل بالزيت كي لا يتعثروا في الزقاق، يعبئ جيوبهم بالحلوى، ثم يغفو حتى موعد عودتهم. يبيع لهم الحلوى ثانيةً، يحضرون له الجرائد القديمة ليقرأها على ضوء الفانوس اليتيم، يعبر بهم الزقاق الموحل، ثم يعود لدكانه الصغير، ينتظرهم حتى صباح اليوم التالي.


العام الماضي، جاء عمال البلدية فأزالوا دكانه. لم يحتمل العجوز الأمر فقضي. لكن فانوسه ما زال هناك ليضيء لأطفال المدرسة طريقهم في الزقاق. لا أحد يعرف كيف لم ينطفئ بعد.


(96)


خرج السجين من حبسه الطويل في غرفة السجن المظلمة، إلا من شق في الجدار يري منه الطيور والشمس والفراشات.


حين عاد لبيته، خرق في جدار غرفة الغلال العلوية خرقًا. أغلق عليه بابه، ولم يخرج من هناك قط.


(97)


في المأوي تحت الأرض، كان أهل المدينة قاطبة يدفنون وجوههم في أيديهم ويدعون الله أن يصرف عنهم الموت لليلة واحدة فقط. كانت المدينة صامتة إلا من صافرات الإنذار وطائرات الحرب وأصوات القذائف.


لا، ثمّ صوت آخر. قطة تبحث عن وليدها الذي تسلل إلى المأوي مع القوم. أفلت الطفل من ذراعي أمه اللذين يطوقانه. حمل القط الصغير، خرق صمت الشارع الخالي، أطلق الصغير عند أمه. في طريق عودته للمأوي، شكرته القذائف على معروفه.


(98)


لا يصبر عن طفلته الوحيدة طرفة عين، هطلت كالغيث بعد عشرين عامًا من زواجه المجدب.


يلاعبها، يداعبها، يحتضنها، يقبلها، يدفن وجهه في صدرها، يقص عليها أخبار الحوريات، يتقاسم الحلوى معها، يهدهدها، تنام هي ويظل هو بجوار فراشه يتأملها.


اليوم، كان يلاعبها كالعادة، يلقيها نحو السماء ثم يمسك بها. تضحك هي فيقذفها مسافة أبعد. قذفها بعيدًا، ثم لمّا هم بالتقاطها انزلقت قدمه على الأرض المبتلة فسقط أرضًا. ثم سمع صوت عنقها.


(99)


في المدرسة، رسم اليتيم صورة أمه الراحلة على الأرض بالطبشور. ثم نام بجانبها.


(100)


على مكتبه جلس. أخرج الأوراق، عطّرها، ثم شرع في كتابة خطابه اليومي لمحبوبته التي لم يرها أحد، ولم يرها هو. زارت القذيفة بيته فهوي. من تحت الأنقاض، خرج كالعنقاء الجريحة. تحت الجدران المهدمة نقّب عن أوراقه وأقلامه. حين عثر عليها، انتحي جانبًا من القوم ليكمل خطابه.


(0)


الموتى يخرجون من قبورهم كل ليلة. على التل القريب يجلسون متلاصقين. يتأملون أضواء المدينة الصاخبة في صمت. يطلقون التنهدات. قرب الفجر، يعودون ثانيةً إلى مضاجعهم الأبدية. (**)


 


 


 


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 02, 2016 16:17

وَصَايا الدَّرْويشِ المَخْمُورِ لِلْفَتَي الأَبْلَهْ

وَصَايا الدَّرْويشِ المَخْمُورِ لِلْفَتَي الأَبْلَهْ


50



حين قصدتُ الحانة بحثًا عن أخي الأكبر السِكِّير، لم يكن هو هناك. كان ذاك الشيخ مستندًا بمرفقيه على الطاولة المقابلة للساقي. والكؤوس الفارغة متناثرة أمامه.


لم أجد مقعدًا آخر فارغ، فاضطررت للجلوس على المقعد الملاصق له.


اتململ، أراقب حركة عقارب ساعة الحانة، أضبط ياقة قميصي، أعبث ببقايا السجائر المطفأة أمامي. أين ذهب أخي الملعون هذه الليلة ؟!


– ما اسمك ؟، قال الشيخ.


قلت: “فلان”.


سكت هنيهة، فظننت الحديث انتهي عند هذه الحد، واختلست نظرة أخري لساعة الحائط. كانت قد زحفت لدقيقتين فقط. ما أشد رتابة الوقت هنا.


هنا.


هنا.


هنا بدأ الشيخ يتمتم بصوت خافت كمن يحدث نفسه. ثم ارتفع صوته شيئًا فشيئا. تحدث بوقار، أنكرتُه على سكير، وبلا انقطاع. تحدث كثيرًا كمن سيموت غدًا، كمن انقطع بَكَمُه القديم فجأة، كمن لم يرَ بشريًا من قبل.


ضِقتُ بحديثه في البداية، ثم تسلّيت به حتى مجيء أخي. ثم نسيت أخي وشأنه وانخرطت معه.


كنت حدثًا أبلهًا يومها، فعرَّفت أشياءً مما قال وأنكرت أشياء.


حَفِظتُ أشياءً ونسيت أشياء.


لكني لم أنسَ شيئين قط: أني عدت ليلتها من الحانة بوجهٍ غير الذي ذهبت به، وأنه قد بدأ حديثه ب”تعزّز” وأنهاه ب”مِحجريك”.



 


قال لي: تعزّز، لا تكن في متناول الأيدي، لا تفقد سرّك الأعظم في الزحام.


***


قال لي: لا تمر بالمقابر دون أن تدعو لأهلها، لا تمر بظالم دون أن تبصق في وجهه، لا تمر بامرأة دون أن تخبرها أنها حسناء.


***


قال لي: تمتع بتفردك، ليس مثلك أحد. الله لا يخلق القوالب، البشر يفعلون.


***


قال لي: كل إيمان يلزمه كفر سابق له.


***


قال لي: فِر من “المُتَعَالِم” فرارك من الأسد.


***


قال لي: إنما استعبدك بعلمه وجهلك، فإن ادعيت كمال العلم فقد ادعيت الألوهية.


***


قال لي: لا تبرح حتى تبلغ.


***


قال لي: كل سائر سيصل ولو بعد حين.


***


قال لي: طالبك بالسير، لم يطالبك بالبلوغ.


***


قال لي: احرس عزلتك. دلِّل غرابتك.


***


قال لي: تلذّذ بالألم كما تتلذّذ بالبهجة.


***


قال لي: حين تستيقظ، امض خمس دقائق في استشعار روعة كونك لا زلت حيًا. قبل أن تنام امض خمس دقائق في إقناع نفسك أنها قد لا تستيقظ.


***


قال لي: احتقر نفسك حين تبصر عرج الساق ولا تبصر عرج الروح.


***


قال لي: لا تحتقر أحدًا. كيف يحقر مخلوق من عظَّم الله خلقه ؟!


***


قال لي: مع العمر، تجرع من الجُبْن وسفالة الهمّة أكثر مما تجرع من الحكمة. اعمل لهذا.


***


قال لي: ما يحركك هو جهلك. لو بلغت كمال العلم لقعدت.


***


قال لي: كُتِب على ابن حظه من الثرثرة، مدركٌ ذلك لا محالة. فهو ثرثار اللسان أو ثرثار النفس أو ثرثار العقل.


***


قال لي: الموت لا يطرق أبوابنا، وإنما هو صاحب الدار ونحن ضيوفه. نمكث ساعةً ونغادر.


***


قال لي: دع شكك يقتات على يقينك. سينبتُ لك يقينًا أرسخ، أصله ثابت وفرعه في السماء.


***


قال لي: الدنيا قد تُدرَك بالجهل كما تدرك بالعلم. أما الآخرة فلا تُدرَك إلا بالعلم.


***


قال لي: أنا لست بأعلم منك. أنا –فقط- أبرع منك في درء جهلي.


***


قال لي: حين تسقط الفكرة يصعد الصنم. حين يسقط الصنم يصعد صنم آخر. لابد من فكرة جديدة لكسر حلقة الأصنام.


***


قال لي: أنت مطالب أبدًا بالبحث عن الحقيقة، أو بالأحرى استكشاف أكبر قدر من جوانبها. أن يكون خصمك على باطل فهذا لا يعني بالضرورة أنك علي الحق. يحدث أن يتصارع باطلان.


***


قال لي: من علمني الشك هو عينه من ألهمني اليقين.


***


قال لي: لك مني درهم لكل فكرة متصابية تلهو في رأسك. كم ستبلغ ثروتك؟


***


قال لي: إكرام الفكرة الإفصاح عنها.


***


قال لي: الفكرة عزيزة كالعذراء في خدرها. لن تقربها حتى تدفع مهرها من العزلة.


***


قال لي: شطر الحكمة في الكتب. شطرها الآخر في العزلة.


***


قال لي: تلصص على أفكارك كما كنت تتلصص على فتيات القرية وهن يستحممن عرايا في النبع.


***


قال لي: أنت تعرف عن الآخرين أكثر مما تعرفه عن نفسك.


***


قال لي: تفقد الجنة من معناها في غياب الجحيم أكثر مما يفقده الجحيم في غياب الجنة.


***


قال لي: ليس العالم سوي مجموعة لا متناهية من الأوهام والالتباسات والاستحالات. لا أحد يفهم شيئًا. لا أحد يكف عن ادعاء الفهم.


***


قال لي: محاولتك لضبط مصيرك طفولية وبائسة للغاية.


***


قال لي: أنت أحمق. لا تحاول ضبط ما لا ينضبط. تمتع بالأشياء على اعوجاجها.


***


قال لي: ما تظنه أنت حقائق هو انطباعات. الحقائق نادرة هنا ندرة الشياطين في الفردوس.


***


قال لي: عقلك يعجز عن إدراك عجزه. كيف تريد له أن يحيط بما هو بمُطلَق أو سرمدي؟


***


قلت: صِف لي الدنيا وأوجز.


قال: غادة حسناء بيدها كلاشينكوف، تطلب رأسك.


***


قال لي: خفاء المعني عنك لا يعني انعدامه.


***


قال لي: لم أوقِّر يومًأ من لا يفهم المجاز.


***


قال لي: تمسّك بمسافاتك. كل الأشياء قبيحة عن قرب.


***


قال لي: لستَ بقدر ما تريد. بل أنت بقدر ما زهدت فيه. هذا إن عرفت كيف تفرق بين ما زهدت فيه وما عجزت عنه.


***


قال لي: شيّبني انشغالي بما خفي عما ظهر، وبما لم يقال عما قيل.


***


قال أخرج الأعاصير من رأسك وإلا أهلكتك.


قلت: كيف وقد أمرتني بإطالة الصمت؟


قال: أما تملك غير لسانك تنطق به؟


***


قال لي: القناعة فناء. لا تقنع أبدًا، إن تيقنت شرف ما تسعي إليه.


***


قال لي: كيف يكون زاهدّا من لم يزق طعم الغواية؟ فيم زهد إذًا؟


***


قال لي: لا تتهيب الرجال. كيف يفتض بكارة الأفكار من يتهيب الرجال؟


***


قال لي: أكره أن أري محرومًا: امرأة بلا عائل، سِفر بلا قارئ. طاغية بلا ثائر يطأه بنعله.


***


قال لي: لم أبغض شيئًا بعد الظلم مثل الوفرة. كل مكرر ومتاح منزوع المعني.


***


قال لي: الحياة قصيرة. قصيرة للغاية. أقصر من أن تحياها بشروط غيرك.


***


قال لي: “النساء” و”الثورات” و”الأفكار” أسماء مختلفة لنفس الشيء.


***


قال لي: كل النساء جميلات. هن –فقط- لا يعرفن هذا.


***


قال لي: أما تري الصائم يذوق الطعام بطرف لسانه ويمجَّه. أحبب أنت بطرف قلبك وانبذ. لا تحشو قلبك بعابرٍ فيضيق المقام بطويل الصحبة.


***


قال لي: آوِ إلي كهفك.


قلت: لا أملك واحدا.


قال: بل تملك. لم يفارقك طرفة عين. تحمله في صدرك.


***


قال لي: متّع عقلك.


قلت: عدد لي.


قال: نزع المعني عن المعني، جمع الأضداد، الإيمان بعد الكفر، الكفر بعد الإيمان، احتلال الأطراف، السكون حين الهرج، تكدير الساكن، تعرية المستتر، الانتظار بلا أمل، قلب الطاولات، التحرّش بالمقدس، تقديس المنسي، ملاعبة الزمن، التحليق نحو الشمس.


قلت: زدني.


قال: دونك الكون ونفسك. فيهما فابحث.


***


قال لي: يا مسكين. سلخ جلدك عن اللحم أهون من نزع هواك عن العمل.


***


قال لي: لن تبلغ صحبتك لهم –وإن طالت- معشار صحبتك لنفسك. فابذل لكلٍ ما يليق بأمد صحبته.


***


قال لي: تخير عدوك قبل رفيقك. بالأول يُعرَف قدرك.


***


قال لي: لا تسلك دربًا تعرف منتهاه. لا تصحب من الناس من تعرف مبتدأه وخبره.


***


قال لي: لا يلهيك العمل عن العامل. لا يلهيك العامل عن المعمول له.


***


قال لي: لا تفرح لعابر. لا تحزن لعابر.


قلت: كل الأشياء هنا عابرة.


قال: هذا ما أردت.


***


قلت: أليست التخلية قبل التحلية كما يقولون؟


قال: لا، بل التحلية مع التخلية. زاحم الباطل بالحق ينجلي. وعاؤك لا يفرغ أبدًا.


***


قال لي: أنت في الناس رأس أو زيل.


قلت: أليس في الناس أواسط؟


قال: لا، كل من ليس برأس فهو زيل.


***


قال لي: في موقف العلم، تصل الأشياء، السبب بالمسبِّب. في موقف الخيال، تعود لما وصلت فتقطع.


***


قال لي: فر من يتيم المعني إلى ما تعددت معانيه.


***


قال لي: لا تلتفت. لا تعزم حتى تطمئن، فإن اطمأننت فحرِّق سفنك.


***


قال لي: ما الأقفاص الضيقة أخشى عليك، لكن الواسعة. لا تلهيك رحابة السجن وزينته عن تحطيمه متي استطعت إلى ذلك سبيلا.


***


قال لي: لا تقترب فتظهر التشوهات. لا تتمادي في الابتعاد فتنطس المعالم.


***


قال لي: ليس أحمق ممن يتحرى مواضع أقدام الآخرين فيخطو فيها إلا ذاك الذي ينتظر من الآخرين أن يتحروا مواقع قدمه.


***


قال لي: كما تكون يكون إلهك. كما يكون إلهك تكون.


***


قال لي: الذين يتعشّقون الدنيا وينفرون من الموت، الذين يلعنون الدنيا وينتظرون الموت، كلهم علي حق.


***


قال لي: تصيَّد النواميس.


***


قال لي: شأن الآخرين مع الخاطر كشأن الذباب مع الطعام. احفظ الفكرة بالخلوة وطول النظر.


***


قال لي: لا تجالس المتنطعين. لا تجالس من يجعجع ولا يطحن. لا تجالس من ينظر فلا يبصر جهله وعوزه وضعفه كما يبصر علمه وماله وفتوته.


***


قال لي: هي منفانا الأعظم. متي توطنت حتى تشكو الاغتراب؟


***


قال لي: لا تنشغل بموطئ قدمك عن غاية دربك فتضل. لا تنشغل بغاية دربك عن موطئ قدمك فتتعثَّر.


***


قال لي: من كفر لقبحٍ مستشرٍ فلا تُغِثه بكلام أو فلسفات، بل انضح الجمال علي وجهه.


***


قال لي: كل الأشياء تثرثر. فقط، أنصت.


***


قال لي: لا تشرح فتفسد المعني الكامن. كالمرأة، تتبرج لتبرز حسنها فتطمسه من حيث لا تدري.


***


قال لي: المعني في رأس المُتلقِّي أوسع وأبهي منه في صدر الشاعر.


***


قال لي: كالمرأة، لا أحد يحتمل الحقيقة عارية. لا بد من بعض القماش هنا وهناك كي يتبقّى شيء للخيال.


***


قال لي: لا أحد يسعه إناؤه. كلنا نطفح. بعضنا يطفح بقصيدة، لوحة، سوناتا، ….

بعضنا الآخر يطفح بسُبَّة، سوط، رصاصة، ……


***


قال لي: أحمق أنت إن كنت تنتظر آخرًا لكي يقرر لك ما إن كان الوضع سوداويًا فتقعد، أم ثمَّة آمال فتسعي.


***


قال لي: تغنيك المعاني عن غياب الصور، ولا تغنيك التصاوير عن غياب المعني. فإن جمعت فبها ورحبت، وإلا فاستغنِ بما يغني.


***


قال لي: تجنب المرايا لا يمنع التجاعيد من الزحف في ملامحك.


***


قال لي: من الحمق أن تري الشيخ الهَرِم والغلام، فتتوهَّم أن الموت أقرب لأحدهما من الآخر.


***


قال لي: تحصيل اللذات -كشرب ماء البحر- دائمًا ما يصحبه ألم يفوق ألم فوات هذه اللذات.


***


قال لي: آلامك مجتمعة لا تقارب آلام الحِكَّة في ظهر أبتر اليدين.


***


قال لي: الحياة تحتاج –أكثر من الفهم الكامل- إلى نصف الفهم لتستمر.


***


قال لي: لا تجهل القواعد فتعيد تلفيق العجلة. لا تُغرِق في تعلم القواعد فلا تجد وقتًا لخرقها.


***


قال لي: كمال الفهم: الصمت.


***


قال لي: خير ما تجود به على غيرك: الصمت وكف الأذى.


***


قال لي: لكل طريقٍ زاده. اعرف الطريق، تعرف الزاد.


***


قال لي: لا تعميك ظواهر الأشياء عن بواطنها.


***


قال لي: حديث المحبين: الإشارة.


***


قال لي: الأفكار حرائر .. الكلمات جواري.


***


قال لي: ليس الدرهم في جيب الغني كدرهمٍ في كف الفقير.


***


قال لي: أنت أبعد من “أي شيء” بقدر قربك من الآخرين.


***


قال لي: حديثُ الآخرين تأنس به، لا تعمل به. لا أحد يعرف ما هو خيرٌ لك وما هو شر إلّاك.


***


قال لي: كل الجروح تندمل. كل الأجساد تشيخ. كل الأشياء يخمد نورها. كل شيء إلى زوال. ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام.


***


قال لي: لم أندم على شيء ندمي على امرأةٍ عرضت على فؤادها، فتعذّرت بشواغل الحياة.


***


قال لي: الطريق طويل. ونفسك ملول ومتفلّتة، فسُسها.


***


قال لي: تعرَّض لنسمات الفجر، ونفحاته.


***


قال لي: تموت حين تتوقف عن طرح الأسئلة. الأسئلة قابعة هناك في الظلام تنتظر، وأما الإجابات فمنثورة في الكون وفيك.


***


قال لي: ليلة، يكون قيامك ثلثيها تفريط ومعصية. ليلة أخري يكون تشبثك بالتوحيد فيها –فقط- خيرٌ من صيام الدهر كله وقيامه.


هرول يومًا، واحبُ يومًا آخر. لكن لا تتوقف.


***


قال لي: لا تقنط. الفتوحات تأتيك في الظُلمة كما تأتيك في الأنوار.


***


قال لي: امتصّ لياليك حتى الثمالة. لا تعود لياليك ولو فعلت وفعلت.


***


قال لي: للنسّاك طاعة الخوف. وللعارفين المعرفة. وكل الطرق –لمن شاء لهم الهداية- تؤدي إليه.


***


قال لي: تعرّف علي الله في وجوه المومسات كما تعرفه في وجوه الصالحين.


***


قال لي: ابكِ على خطيئتك ولا تسكنها رأسك.


***


قال لي: جالس الأطفال والمجاذيب والعجائز. يلقون الحكمة كما لا يفعل الفلاسفة.


***


قال لي: الحياة لا تعدل. الله يفعل.


***


قال لي: تذوق الطعوم الحادة، احتل الأطراف، تمدّد يومًا على السفح ويومًا أعلي الجبل، تعرف كُنْه الأواسط.


***


قال لي: ضائعون، نحن، بين ما نبحث عنه، وما يبحث عنا.


***


قال لي: الإطناب ترف. الاختزال أقرب إلى الكمال.


لو أستطيع قول كل شيء في كلمة أو كلمتين لفعلت.


***


قال لي: كل النساء فاتنات في ديار الحرب. المياه بعد العطش أسكر من الخمر.


***


قال لي: لا تقدر على خداع أحد كما تفعل مع نفسك.


***


قال لي: لا تعتاد الأشياء، فتعمي عن فتنتها.


***


قال لي: قصيدة لشاعر خليع قد تعظك كما لا تفعل موعظة بليغة. ازدرد الحكمة ولا تسأل عن صاحبها.


***


قال لي: لا يعرف قدر الموت إلا من أحب الحياة بصدق. ومن لا يتعشّق الدنيا فهو أحمق.


***


قال لي: لاعب الدنيا واحذرها، كما تضاجع امرأة قتلتَ زوجها الأول.


***


قال لي: كل معتَّق مُسكِر.


***


قال لي: لن تتمتَّع بشيء حتى تفض بكارته. كل البدايات مؤلمة.


***


قال لي: لا يلهيك ما يتوجَّب عليك فعله عما تحسن فعله. الأول كأكل الميتة. الآخر كما أُحِلَّ من الطيبات.


***


قال لي: قليل من يفارق القطيع الدافئ المنتن الرائحة، ليسبح في الصقيع العَطِر وحده.


***


قال لي: إن كنت تري الأشياء اليوم كما رأيتها بالأمس، فاقرأ على روحك السلام.


قلت: أخاف أن أبحر إلى الحد الذي لا أقدر عنده على العودة.


قال: بل أبحر، اليم يرهبك كما ترهبه.


***


قال لي: الموت لا يعني لنا شيئًا. يعنينا –فقط-ما قبله وما بعده.


***


قال لي: كل الأفعال مبررة، إن رأيتها بأعين فاعليها.


***


قال لي: ابتلع المباهج على عَجَل، اجترّها على مَهَل. دخّنها على عَجَل، انفثها على مَهَل.


***


قال لي: لن تصل حتى تحترق.


***


قال لي: التصريح سُبَّة في عُرف المحبين، كتنقيط الرسائل عند قدامي العرب.


***


قال لي: ابحث. لا تتوقف عن البحث، حتى إن جهلت ما تبحث عنه.


***


قال لي: ديمومة المحبة الخافتة خيرٌ من انقطاع المحبة المُسكِرة.


***


قال لي: اسأل المرأة عن عمرها، ولا تسألها عن فتاها الأول.


إن صارحتك ستندم على السؤال.


وإن لم تصارحك، ستحترق فضولًا.


***


قال لي: لا تُقَدَّم المُقَبِّلات بوفرة إلا مع رديء الطعام.


***


قال لي: لا تطالب أحدهم بالتحليق حتى تنزع القيود عن قدميه.


***


قال لي: لا تنبذ خبز اليوم تحرّقًا لكعك الغد.


***


قال لي: نَمْ في حِجْر أمك بين الحين والآخر. لا تنس أنك طفلها. إنك إن نسيت فهي لا تفعل.


***


قال لي: الدنيا تعرِّيك اليوم، وتلبسك سبعة أثواب غدًا، ثم تنزعها عنك بعد غد.


لو دامت على حال لقتلتنا مللًا قبل أن توافينا بالأجل.


***


قال لي: متي تحدثت إلى الدجاجات لآخر مرة ؟!


كيف انتهي آخر جدل بينك وقطط الشوارع ؟!


أيكم أقنع الآخر ؟!


لماذا لا تسابق السنونوات بين الحين والآخر ؟!


***


قال لي: غض بصرك عن جارتك الحسناء، والق إليها قصائد الغزل منزوعة التوقيع خِلسةً في شرفتها.


***


قال لي: لا يزركش صورته إلا فقير الباطن.


***


قال لي: كل الرجال أطفال. كل النساء أمهات.


***


قال لي: لا تنتظر إلا ما لا بد من انتظاره، وإلا فبادر.


***


قال لي: لتنسي شيئًا ما: تجنّبه تمامًا أو أغرق نفسك فيه.


***


قال لي: الجثة صلبة. الروح سائلة.


لا تقيد الأخرى بقيود الأخرى بقيود الأولي.


***


قال لي: اخلع الساعات من معصمك، واحملها في صدرك.


***


قال لي: اجمع حطامك، وأعد بناءك.


لا أحد سيفعل هذا إن لم تفعل.


***


قال لي: تخفَّف من الأشخاص والدروب والحوادث. لا تثقل رأسك بالهياكل فتنفر منها الأفكار.


***


قال لي: صلِّ بجوارحك خمسًا. صلِّ بقلبك خمسين.


***


قال لي: التقط الثواني الضائعة، البوصات المُهمَلَة والكلمات المغفول عنها.


***


قال لي: في الحَضَر تكلَّف الوقار. في البرية اصخ ملء فيك.


***


قال لي: اقرأ. اقرأ كثيرًا. اقرأ حتى يعمي بصرك كللًا. ثم اقرأ بعدها بأناملك.


***


قال لي: لن تتقدم للأمام حتى تترك أشياءً خلفك.


***


قال لي: الحياة مسرعة كسيارة مسعورة، لا علاج لهذا.


***


قال لي: إن زرت مبغي أو حانة، لا تنس أن تصطحب معك سجادة الصلاة.


***


قال لي: لا تصحب من يتظاهر بالجدية والصرامة. لا تصحب من لا يفهم الدعابات.


***


قال لي: من يتحدثون بطلاقة شديدة هم منافقون أو أغبياء. نادرًا ما يشذ أحدهم عن هذه القاعدة.


***


قال لي: لا تُعِدْ الآنية إلى أصحابها فارغةً أبدًا.


***


قال لي: قلها أو افعلها في فورتها أو اصمت للأبد.


***


قال لي: ارتكاب بعض الحماقات، المتعمّدة أو غير المتعمدة، من حين لآخر يجدد خلايا الروج ويكسبك مناعة ضد التألّه.


***


قال لي: اسأل الله المشط الذي تمشّط به شعرك، كما تسأله الزوجة والبنين والسلطان. الله لا يمل الدعاء، نحن نفعل.


***


قال لي: ادعُ للموتى كثيرًا. هؤلاء المساكين ما عاد بيدهم شيء. يومًا ما ستلحق بهم فقدِّم لذلك.


***


قال لي: تجنب حديث الموت لن يبعده عنك. هجر المقابر لا ينفي حقيقة أنك سترقد بين طياتها يومًا ما.


***


قال لي: محروم، من لم يلهو بالطين، ويرقص تحت المطر. من لم يجرب الصراخ في البرية. من لم يسمع الموشّحات. من لم يطالع الكتب حتى يكلّ بصره. من لم يجالس الأطفال والعجائز والمجاذيب. من لم ينجب الفتيات. من لم ينصت لأصوات الجمادات. من لم يصلِّ لله في القَفْر وحين الهَرَج. من لم يمش حافيًا على الرمال. من لم يترنّح من سَكرة الجمال.


***


قال لي: الحياة هي أن تكون غجريًا. تلهو بقيثارتك، تضحك ملئ فيك على اللاشىء، تتراقص حول النيران كالفراشات. حتى إذا ما أدركك التعب، تستلقي لتجرع كأسين من السَمَر، ثم تقوم تارةً أخري لتكمل رقصتك الأبدية.


أما أن تكون جنتلمان، بربطة عنق أنيقة وحقيبة وصدر فارغ، تلقي الدعابات المُعَدَّة لكل موقف، تتحدث بنفاق حماسي إلى ملأ لا يكترثون لك، تحفظ في دفترك هواتف الجميع وعنوانيهم، تتملَّق هذا وتكيل المديح المصطنع لهذ، فالأمر هنا أشبه بمسابقات الأناقة التي تُعَد للجِراء.


الأمر مرهق، أعرف. إن لم تستطع أن تكون غجريًا فاحمل في صدرك قلبًا غجريًا. وخبئ قيثارتك في مِحجريك.

















قرب الفجر، اقتحم أخي علينا الحانة مترنحًا. جاءنا من الحانة الأخرى ليستلقي ويسكر هنا، فصاحب الأخرى –خلاف هذه المفتوحة أبوابها أبدًا- يغلق أبوابها مع أذان الفجر.


انتفضتُ لأمسك به قبل أن يسقط. طوقتني بذراعيه وجررته –كآثامي- إلى بيتنا. ألقيته –بإهمال- في فراشه ثم عدت مسرعًا للحانة حيث الشيخ.


حين ولجتها، كانت طاولة الشيخ خاوية، هرولت للمسجد فلم أجده هناك أيضًا.


عدت للحانة ثانيةً وسألت الساقي عنه، قال: خرج حين نادي المؤذن للصلاة ولم يعد.


سألته عن هويته، قال: لم أره من قبل. ولا أعرف إن كان سفيهًا أم ماذا. نقدني أجر كؤوس الخمر تلك، المتراصة على الطاولة، وأمرني بملئها بالماء بدلًا من الخمر.


قلبّت الكؤوس واحدةً تلو الأخرى، كانت فارغة تمامًا إلا من قطرات الماء.


لم أرَ الشيخ بعدها قط.


 


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 02, 2016 16:12

July 12, 2015

تعقيبات علي “نيرودا”

image


__________________________________________________________________


تعقيبات على “نيرودا” في كتابه: “التساؤلات” ..

تعقيبات تليق أكثر بملهاتنا الأرضية ..


__________________________________________________________________


هل أنت هو أنت حقًا ؟!

*** هل يمكنك إقناع الثقيل أنه ثقيل ؟!

***

هل تموت العصافير إن هي احتفظت بالسرّ، أم تتحمل مثلنا في صمت ؟!

***

هل تغار الدقائق اللواتي شبّعتهن بالألم من رفيقاتهن اللواتي ملأتهن بالحبور ؟!

***

هل يأتي اليوم الذي تطالبنا فيه الشمس بكل ما أنفقته علينا من ضوء ودفء ؟!

***

أيهما يُصنَع أولًا: الأقفال أم مفاتيحها ؟!

***

كيف تشعر إن أنت انسلخت من أهلك ووطنك واسمك، ثم –بعد سنوات-سمعت من يصيح باسمك القديم ؟!

***

هل يري الحمام –كالبشر-حياته كاملة حين الذبح ؟!

***

هل ترمي الفراشات اللواتي يسبحن بحماس نحو النار قرينتهن المتحفّظة بالهرطقة ؟!

***

هل يتفاخر حجر الياقوت علي حجر الصوان بأنه “كريم” ؟!

***

ما الذي يتبقّى من الفكرة إن أنت نزعت منها صاحبها ؟!

***

هل تنظر الأفكار المتناقضات إلى أنصارهن المتطاحنين ثم ينفجرن ضحكًا ؟!

***

هل ثمَّ احتمال أن يكون الطفل الذي اختنق بحبله السريّ قد فعل هذا عمدًا ؟!

***

هل تبعثر الريح خصلات شعر المرأة لثأرٍ قديم ؟!

***

هل تتصارع الأفكار على تعاريج عقلك كما تتصارع أنت مع خصمك على الماء والكلأ ؟!

***

هل تبصق السنونوات علي البشر من الأعالي حين يجتثون أشجارهن ؟!

***

هل تمتصّ الرضيعة –مع اللبن-بعضًا من عمر الأم وأعصابها ؟!

***

أيهما أقوي: من يطلق الرصاص، أم من يتدرّع بالنرجس ؟!

***

هل تكترث الرصاصة –حقًا-إن كانت قد انطلقت في مهمة من أجل الربّ أم من أجل معدة الطاغية ؟!

***

ما الفرق بين هذا الحيّ الذي يجعجع بملء فِيهِ عن الموت، وذاك العِنِّين الذي يحاضرك بحماس عن هزَّة الجِماع ؟!

***

هل تصمد الفلسفات في غُرَف العناية المركزة ؟!

***

هل يخرج الموتى من قبورهم ليلًا، يجلسون فوق التل، يتأملون أضواء المدينة الصاخبة، يطلقون التنهدات الحارّة، ثم يعودون قُرب الفجر لمضاجعهم الأبدية ؟!

***

ماذا تقول دُمية الرضيعة القتيلة لشظايا القذيفة ؟!

***

هل تستطيع أن تتشبث باللحظة الحاضرة، تحادثها، تقبلها، تعانقها ثم تتبادل معها أرقام الهواتف والعناوين قبل تودعها لاستقبال اللحظة التالية ؟!

***

هل تتفاخر الورقة الفارغة على تلك المُحَبَّرَة بأنها ما زالت بِكرًا ؟!

وهل تجيبها الأخرى بأنها ثيِّب لكنها ليست فارغة العقل مثلها ؟!

***

هل يشعر الدرهم بتغير في قيمته حين ينتقل من حافظة الغني إلي كفّ الفقير ؟!

***

أيهما أثقل: جبل أُحُد أم المُتَعَالِم ؟!

***

هل يرمي عقربُ الثواني عقربَ الساعات بالشيخوخة والخَرَف ؟! أم يرميه الأخير بالخِفَّة والسَّفَه ؟!

***

كيف تستطيع أن تزيح جبلًا بفكرة ؟! هل تستطيع أن تنضح بحرًا بقصيدة ؟!

***

هل يمكن أن تتوب القذيفة حين تلقي عليها السنونوات السلام ؟!

***

كيف تودّع الساق المبتورة صديقتها السليمة ؟!

***

هل كانت جدّاتنا يتعمدن أن يقصصن علينا حكايات غير مكتملة ؟!

***

هل ثمّة طريقة لمعرفة متي ينتهي هذا البؤس ؟! أم أنه لن يفعلها ؟!

***

ما دواء الفضول ؟!

***

هل تحلم الطائرات الورقية بالمحركات ؟!

***

أيهما أسبق: أن تموت أم أن تكف عن المشاكسة ؟!

***

أين تذهب جواربنا المفقودة ومفاتيحنا الضائعة .. وأحلامنا الكبيرة ؟!

***

هل توقفت عن فعل ذاك الشيء لأنه مبتذل، أم أنه مبتذل لأنك توقفت عن فعله ؟!

***

كيف تفرق بين ما زهدتَ فيه وما عجزتَ عنه ؟!

***

هل تتجادل المئذنة والمنارة في علاقة الدين بالدنيا ؟!

***

هل يمكنك أن تتخفَّف ليلًا من أفكارك كما تتخفف من ملابسك ؟!

***

أيهما أكثر إشباعًا: الكتابة أم الجنس ؟!

***

متي تتوقف الأمهات عن انتظار أبنائهن الذين فُقِدوا في الحرب ؟!

***

متي تتوقف المومس عن إحصاء الرجال الذين تناوبوا عليها ؟!

***

متي يتوقف القلب عن نبضه المتشكّك، فيتلبَّس باليقين .. ويسكن ؟!

***

متي تنفض الفكرة يدها من رأسك لتقفز لرأسٍ آخر يعرف قدرها ؟!

***

ما وصف الخيوط التي تمسك العصافير في الهواء فلا تقع ؟!

***

أين تُخَبِّئ سرّك الأعظم ؟!

***

ما وصف البراميل التي تتصادم ونسمع ضجيجها حين يسقط المطر ؟!

***

لماذا لم نظل أطفالًا ؟!

***

لماذا تخليت عن طفولتك وتلبَّست بوقار زائف ؟!

***

فيم تتجادل شعرات رأسك السود مع أخواتهن اللواتي دهمهن البياض ؟!

***

ما الذي تحكيه لله حين تسجد، وقبل أن تنام، وحين تقصم الحياة ظهرك ؟!

***

لماذا تبكي الشموع ؟! لماذا ينوح الناي ؟!

***

هل يسكت الناي إن أعدته للنّبتة التي قُطِع منها ؟!

***

“لماذا تركت الحصان وحيدًا ؟!”

***

أين ذهبت الأسنان المخلوعة التي ألقيناها نحو السماء ؟!

***

هل تستمتع المياه بإغراقنا ؟!

***

ما الذي قاله أمس لأول أمس حين لحق به ؟!

***

هل توجد نساء برائحة التوت البري ؟!

***

هل يحسن المطمورون تحت الأنقاض كتابة القصائد العامودية ؟! هل يكترثون للأوزان والقوافي ؟!

***

لماذا تتذكر الأفيال ؟! لماذا تنسي الأسماك ؟!

***

هل تستطيع أن تمسك بفرشاة وتعيد تلوين عينيك ؟!

***

هل تحقد الشمس على القمر لاختلاسه النور منها ؟!

***

ماذا لو ولدت هناك بدلا من هنا ؟!

***

لماذا يدهمك النوم حين تزهد فيه ؟! لماذا يجافيك حين تفترش الأرض لتنتظره ؟!

***

ما الذي حدث لأحلامنا التي حلمناها في مناماتنا طوال هذه السنين ؟!

***

هل ثمَّ احتمال أن تكون أحلامنا هي الواقع، وأن الواقع هو جاثومنا المتصل ؟!

***

ما الذي يدور في عقل الطيور التي تتقاسم مياه النبع، حين تري البشر يتصارعون عليه ؟!

***

هل يشبع الطغاة من الدم ؟!

***

هل تبكي الأشجار لسقوط أوراقها في الخريف ؟! هل تبتهل لله كي تستعيدها ؟!

***

ما الذي يحدث للعقل حين تدهمه الفكرة ؟!

***

متي ستيأس ؟!

***

لِمَ تتشح شجرات الليمون بحزنِ سرمدي ؟!

***

هل تتسع حقيبة سفرك لوطن كامل ؟!

***

المجرّة، أم حدقتي محبوبتك .. أيهما أوسع ؟!

***

متي ستتوقف عن الهرب ؟!

***

متي يعود الغريب ؟!

***

أيهما يرجح في ميزان الله: حذاء الرضيع القتيل أم دولة الطاغية ؟!

***

متي يسأم الليل فينتقل عن أرضنا ؟!

***

هل تتلاسن ندف الثلج وذرات الغبار ؟!

***

هل تسكر الخمر حين نشربها ؟! هل تسكر الحانات ؟!

***

ما الذي تراه الظِباء في أحلامها القصيرة ؟!

***

لماذا تشاكس الريح أمواج البحر ؟!

***

لماذا لا تثور أيائل الجبل ؟!

***

لماذا تجفل مني العصافير وتلوذ بالفزّاعة رغم أننا متشابهان، كلانا فارغ، كلانا محشو باللاشئ ؟!

***

هل تتألم السماء لاحتوائها الأرض كما تتألم المحارات من اللآلئ ؟!

***

هل تنام الأفكار ؟!

***

ما الفرق بين الثورات والنساء والأفكار ؟!

***

هل النهود كفيلة بإسقاط الديكتاتور ؟!

***

لماذا لا تصلي الذئاب مع الغنم ؟! لِمَ هذه الطائفية ؟!

***

لماذا لا تلتهم كلاب الراعي أغنامه ؟! هل هددها بقتل جرائها ؟!

***

لماذا سلكت هذا الطريق ولم تسلك الآخر ؟!

***

لماذا توقفت عن طرح الأسئلة ؟!

***

أين أضعت حافظتك، وحقيبتك .. وشغفك ؟!

***

لماذا يصوم الفقراء ؟!

***

ما شعور الدجاجات حين تختلس منهن البيض كل يوم ؟!

***

هل تشكو البئر من تطفلات الدِّلاء ؟!

***

متي تدرك السواقي عبثية موقفها ؟!

***

هل ترمي حروف العلّة بقية الحروف بالخمول والدّعة ؟!

***

متي يكف النحل عن الثرثرة والنميمة بين الكائنات ؟!

***

هل تتوقف عقارب الساعة عن الدوران بسبب الإنهاك أم الشيخوخة ؟!

***

من يقتصّ للحمام الذي يموت بالرصاص المتطاير في الحرب ؟!

***

هل تتقزّز الفئران منّا، معشر البشر ؟!

***

متي تتوب عن الانتظار ؟!

***

هل تطلق النار ضحكات شيطانية حين تلتهمنا ؟!

***

أيهما أكثر قابلية للعيش: عالم خالِ من السُذَّج، ملئ بالأوغاد .. أم عالم ملئ بالسُذَّج، خالِ من الأوغاد ؟!

***

كم نجمة ما زالت تضئ في عينيك ؟! كم نجمة انطمس نورها ؟!

***

هل أنت أكبر من أم مساوٍ لمجموع أحزانك ؟!

***

هل تطحنك الحياة أم تطحنها ؟!

***

هل ينسي القتيل وجه قاتله ؟!

***

أين أقاصيص الأطفال التي كنا ننصت إليها ؟! لماذا كبرنا فلم نجد الأميرات والأقزام وقصور الحلوى ؟!

***

هل ستندم في شيخوختك ؟! هل ستتذكر شيئًا كي تندم ؟!

***

كم عمرًا يلزمك لتتعلم ؟! هل تتحمل دروس الحياة الخاصة المكثّفة ؟!

***

هل يملّ حجر القرميد جيرانه الأربعة ؟!

***

كم تسع معدة الطاغية من جماجم الفقراء ؟!

***

هل يشعر الزمن بحركته ؟!

***

متي تملّ الفصول تعاقبَها الرتيب فتدهمنا بترتيب جديد ؟!

***

تريد أن تكون نبيًا دون أن ينقصم ظهرك تحت وطأة الوحي ؟!

***

من علّمك الشك ؟!

***

ما الذي تهمس به ذرات الغبار لأشجار السرو ؟!

***

هل تصرخ الصخور حين تهوي من رأس الجبل ؟!

***

هل تشكو النجوم ضيق السماء ؟! هل يبحثن عن وطن بديل ؟!

***

هل تصاب نبتات القات بسرطان الرئة ؟!

***

لماذا تكره القطط المياه ؟! هل ابتلعت المياه أمهن الأزلية ؟!

***

هل يتسمم الذباب إن وقع على رحيق الأزهار ؟!

***

هل يسخط القرنفل على الجاردينيا لأنها تميّع قضاياها ؟!

***

لماذا تطيل شقائق النعمان عزلتها ؟! ألا تمل ؟!

***

لماذا يلهث دوّار الشمس خلف شمسه ؟! ألا يعرف أنها لعوب لا تفي بعهدها أبدًا ؟!

***

ألا يغار النخيل في بعض الأحايين –رغم وقاره-من زهور التيوليب المتبرّجة ؟!

***

ما الذي تحكيه القنافذ للصبّار ؟!

***

هل تنبت زهور الكاميليا في البقع التي سقط فيها الشهداء ؟!

***

هل يسمع القتيل صوت اختراق الرصاصة لرئتيه ؟!

***

هل يتساءل حينها عن الفرق بين ما هو “حقيقي” وما هو “واقعي” من منظور الفلسفة ؟!

***

وهل يبحث الناجون من تحت الأنقاض عن أيديولوجياتهم أولًا أم عن أطفالهم المطمورين ؟!

***

هل تزيل الكولونيا رائحة الدم من يد الطاغية ؟!

***

ما الذي يراه الطاغية في مناماته ؟! هل يستطيع النوم ؟!

***

هل تستطيع الأذن التي اعتادت أزيز الرصاص أن تنصت ل”فيردي” ؟!

***

هل كتب “فيردي” “قوة القدر” في حِقبة الحوريّات أم في حِقبة الخيول المجنّحة ؟!

***

هل انقرضت الخيول المجنّحة والتنانين والبوم الذي يجيد حديث الفلاسفة ؟!

***

هل تحزن الشياطين حين نعزو إليها –ظلمًا-ما اقترفته أنفسنا ؟!

***

هل تنام الشياطين ؟!

***

أين تبيت التنهدات والزفرات الحارّة والأشواق لياليها ؟!

***

أما زالت طواحين الهواء تعتنق “اللا أدرية” ؟! أم تحررت من الفلسفات والأيديولوجيات ؟!

***

لماذا يضع قوس قزح كل هذه العطور ؟! أليس الوضع مأساويًا ؟!

***

لماذا تهيم أشرعة السفن بالريح، رغم علمها أنها ستقتلها آجلًا أم عاجلًا ؟!

***

هل تغير من نظرتك شيئًا حقيقةُ أنك ولدت من “شهوة” عابرة ؟!

***

أيهما وُلِد أولًا: الكفر أم الحرب ؟!

***

لماذا تغضب البراكين سريعًا ؟! هل الأمر يستحق ؟!

***

ألا تصاب الأعاصير بالدّوار ؟!

***

هل يسكب الرسام بعضًا من روحه على لوحاته ؟!

***

ألا تملّ أشجار السرو البقعةَ التي توطنتها ؟!

***

ألا يلتبس الأمر على قناديل البحر الأمر بسبب تشابهها ؟! هل تعاني من اختلاط الأنساب ؟!

***

كم يلزمنا من التنقيب لنعثر على مسرّة واحدة تحت هذه الأنقاض ؟!

***

لماذا تقطع المدن أرحامها ؟!

***

ما الذي سيتجادل فيه فيلسوف ومومس حبيسان في مِصعد عاطل ؟! أيهما سيبدأ الحديث ؟!

***

هل تعاني النار من اضطهاد رجال الإطفاء ؟!

***

هل تصيب الحقيقة مدّعيها بالانتفاخ ؟!

***

هل يراجع الله من ماتوا جوعًا في عقيدتهم في التجسيم والتنزيه وحديث النزول ؟!

***

كم مِعطفٍ يتوجب عليك خلعه لكي تتعرّي تمامًا ؟!

***

هل تستطيع تحمل الحقيقة عاريةً أم ستُصعَق كما صُعِق موسي ؟!

***

وهل يملك من رأي الحقيقة ترفَ المحبة والكراهية ؟!

***

هل تملك تصورًا محددًا لملابسات موتك ؟! هل يطفح بالشك أم باليقين ؟!

***

كم تبلغ المساحة التي تحتلها فكرة الموت من يومك ؟!

***

“ما الجدوى ؟!”

***


***

أيهما أكثر إغراءً: منحنيات المرأة، أم انحناءة علامة الاستفهام هذه “؟” ؟!

***

؟


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 12, 2015 08:37

May 12, 2015

مرحبًا أيها العالم .. أنا الملك جئت ..

كلمات في مديح التمرد، النزق، الدم الحار، القرارات المتسرعة، التشوه الجميل، اللامبالاة، الطفولة الممتدة، الكسل اللذيذ، الحلول المختلفة، الأزقة المظلمة، الجو المتقلب، فوران الشهوة، الغضب الجامح، الأحكام اللا عقلانية، البذاءات العفوية، البذاءات المقصودة، الأيدي العارية، الأسئلة منزوعة الإجابات، الحب العابر، اختلاج الشفاه، رقص الغجر، الثورة، العيون الكسلي، الأفكار الغير قابلة للتطبيق، الكتب، الكتب العظيمة، الكتب السخيفة، الإخفاق المتكرر، كلمات الرفض، كلمات الرفض بعد الإذعان، كلمات الإذعان بعد الرفض، المواقف المحرجة، أبراج الحمام، ضفائر الصغيرات، الشعر الأسود الفاحم، الجدل، الخروج عن النسق، السيمفونية التاسعة، الندي، القهوة، الأريكة، الغمازات، الأقدام الحافية، باطن أكفّ الجدات، حكايات الجدات، تقلبات النفس، غرباء الأطوار، وجوه السمراوت، وجوه الشقراوات، وجوه نساء الأرض، الأفكار الغير مكتملة، العزلة، الصمت،


.


.


.


في مديح الحياة ..


في مديح الموت ..


11020245_833926406689915_1593779957188777276_n



 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 12, 2015 22:13