عبد الوهاب الملوح's Blog

July 6, 2013

شرفات الشاعر الاخرى

الشاعر فقط يستطيع أن يُحوِّل السُّكرَ إلى طاقة خلاَّقةٍ مُبدعة؛ و ليس الشاعر ذلك الذي يتعامل مع اللغة فقط ويأتي بقصائد لكنه أيضا ذلك الذي يحيا بشكل شعري. يلوذ الشاعر في أغلب الأوقات بالسكر ولكنه ليس سكيرا وهو ليس ذلك الكحولي النهم ؛ إنه يهرع إلى الخمر ليس ليموت بها أو يموت فيها ولكن ليحيا على غير شاكلة سابقة . السُّكْر طاقة روحية متوهجة تبدأ عملها في لحظة هي بين عالم علوي وعالم سفلي ؛ تبدأ عملها بهدوء لتتحوَّل شيئا فشيئا إلى دوَّامة تتسلَّق موجات الهواء لتغير مزاج المناخ الراكد والخامل . تحوِّل حالة السُّكر الألوان مشبعة بأكثر من دلالة ويتحوَّل الضوء مسافات من حزن شفيف وصمت جارح وبهاء مسكر ؛ فتتحرك ملكة الخيال تتروَّى بطاقات متجددة ذات توهج فريد لتنعتق هذه الملكة وتجعل لها أجنحة تحلق بعيدا ؛أبعد من التخوم لكأنها شلالات من معادن نادرة تتمُّ إذابتها بنار التجلِّي. وإذ يلج الشاعر حالة الليلى يتحوَّل إلى كائن شفاف ؛ إلى جوهرة أكثر صفاء.

لا يشرب الشاعر لينسى وهو لايشرب ليهرب.

هو الوحيد الذي يمارس قداس الشُّرب بشكل طقوسي بارع. فالخمر عنده لحظة بوحٍ.

السكران هو الذي ينطق بكل مكتومقال الحلاج

يهرِّب الروح والجسد من حصارات الزمن والمكان.

لامكان ولازمان للسكران وقد اقتنص لحظة العبور من الصمت إلى الغناء ؛ من الحزن إلى الفرح من الفقدان إلى اللقيا من الموت إلى الحياة من الشلل إلى الشطح.

كيف لايغني ولايشطح ولايفرح من أطلَّ على السرّْ وخاض فيه ؛ سرُّ الحياة الحرية وليس بإمكان أحد أن يحلق حرا خفيفا متخففا من كل أثقال الأرض إلا بمصافحة الآخر المدسوس ؛ المغيب فيه ؛ المختنق بأوهام العيش ؛ ثمة مسافة كبرى بين الحياة والعيش.

العيش اكتفاء بالقليل البسيط ؛ المحدود؛ المتواضع؛ بالوهم الكثير والضجيج الفارغ.

الحياة امتلاء وذهاب إلى أقصى الحدود وأبعد التخوم ؛ تسريح لطاقات الجسد الخفية وتفعيل لكائنات الروح المهدودة بفعل الزمن؛ تسريح للذاكرة وترويح عن العاطفة وتهوئة للحلم المغدور بأفجار كاذبة.

اشرب فإنَّ الليل يعقبه فجر ستظمأ في دياجيههتف البياتي

السكر تجربة في الحياة لن يغنم منها غير من أدركه نورها.

كأن كاساتنا والليل معتكر سرج توقد في محراب شماس. تغنَّىأبو نواس

ليس كلُّ من شربها سكران وليس كلُّ من سكر بها غنم من لذّتها وليس كلُّ من عرف لذّتها؛ أشرقت فيه أنوار التجلِّي؛ الخمرة سرٌّ لن يدركه غير من أدركه حبُّ الحياة حرًّا طليقا.السكر تجربة حياة في سبيل اقتناص لحظة صفاء ؛وقبسة توهُّج في عتمة ما يُتحيَّل إنه ضوء ؛ ليس للسكر وقت ؛إنها خارج الوقت طالما إنها تخلق إيقاعها وحدها على عكس ما درج عليه الناس من تفتيت الزمن إلى ثوان ودقائق وساعات؛وإنما وقتها كيف تسري في جسم شاربها؛حتى أنه يمكن تعديل الزمن حسب تشرُّب الخلايا لما تعتق من بنت الكروم.

كأن مشيتها في جسم شاربها تمشِّي الصُّبح في أحشاء ظلماءِهكذا صاح ديك الجنِّّ

والخمرة ؛خمرة كيفما كان لونها أو شكلها أو رائحتها ؛ هي الفاتحة ؛البادهة؛ المُشرقة؛ البهية؛ المنيرة ؛ المُشعَّة ؛ المتوهِّجة؛ المكرَّمة؛ لا فرق تعددت أسماؤها ولكنها واحدة.

الخمر وإن تقادم عهدها خمر ولكن تتبدل الأكواب.هكذا أجهش نزار قباني

وليس كل من شربها يعرفها ويعرف اسمها ولكن من عرف اسمها عرف كيف يشربها وانفتح له بابها فسار في دروبها ولن يخشى من التعثر ولو صادفته في طريقها أعاصير البعث وأهوال القيامة.

يا لسرها؛ لا تبوح بطعمها لغير من ذوَّبه عشقها؛ هذا الذي مهما شرب ويشرب لن يسكر وكلما زاد منها اتضحت الرؤيا وبان له ما لا يُرى وتبصَّر موضعه في الوقت؛ لن يفتقد وعيه الحدسي.

أنت مثل الإسفنج تشرب كل حانات العالم ولا تسكروبهذا بكىمظفر النواب

مهما شرب لن يسكر ولن يفتقد إدراكه بما حوله لأنه لا يأتي الخمرة للسكر ولن يأتيها هربا أو للانشغال بغيرها؛فهو يأتيها شفا بها وبما قد تمنحه من جليل الرؤيا ولذلك هو

ي تهيَّأ لها مثل تهيُّؤه للصلاةصاح أبو هريرة صاحب محمود المسعدي

لا؛ هو لا يجلس إليها بشكل إداري منضبطا لما تتطلبه اللياقة الاجتماعية في شكل احتفالية ساذجة؛ نعم يحتفل الشاعر بكاسات الليلى ولكنه ليس على طرائق الولائم حيث يكثر اللحم والشحم واللغط والإسراف على حساب اقتناص لحظات التجلِّي الخاطفة.

فهو إذ يأتي الكأس إنما ليقتنص ما لم يره بعينيه وما لم يلمسه بجوارحه ومالم يتذوقه بلسانه وما لم يدركه بعقله.

هاهو ذا يترنَّح يتمايل ولا يسقط

الليل دولته والنجوم جنده

والقمر تاجه

متكئا على زوجته

تعود به إلى الدار

ولا دار له

غير بيت القصيدة

طالما إن القصيدة زوجته

وهي وحدها التي تُسكره

وتجعل من روحه عربدة في زمن الموت.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 06, 2013 08:58

حفريات توفيق الشابي

’’ السماء, الشَّمس, الكواكب:الأعالي القريبة. الفصول, الليل, النهار:الأصوات الوحيدة المتردِّدة على بابي. الورود والأشجار:ألوان الأبديَّة. الوحدة والصمت:الأحضان الدافئة. الحروف والكلمات:الأبواب والنوافذ فقط أنتم أيها الأصدقاء أحدِّثكم. وحدكم تسمعون. إنَّني لا أسمع نفسي’’نص’’أصدقاء’’ ص:32 يفتح توفيق ا لشابي عوالم نصهاحتفاءً بكائنات العزلة الخفية. ولئن لم يتخذ هذا الإحتفاء شكلا كرنفاليا على عادة الإحتفالات حيث يكثر اللغو ويعمُّ الصَّخب؛ فتتداخل الأصوات آتية من شتىَّ الجهات في جوٍّ من الإنطلاق المفعم بالحيوية, لن يخلو من النشازوالإضطراب والتوتُّر والإرتجال؛ ناهيك ما قد يلحقه من وجوه الفوضى التي تسيء للطابع الجمالي:هرج, ضوضاء, لغط.....الخ. فإنَّ هذا الإحتفال ارتأى أن يكون هادئا وبسيطا, رصينا ومقتصدا في الفرح لكأنَّه طقس ديني خاشع يقوم على التأمُّل والتهيب, يؤسِّس خطابه على اللمح والإشارة ويكتفي أحيانا بالإيحاء والصمت البليغ الذي يتحوّل مرَّات إلى صلاة سابحة في أجواء يكتنفها الحلم.إنَّه احتفاء خال من ألوان الزينة ومركَّبات التلوين والتزويق؛ بعيد عن الإنفعال والإرتجال يرتِّب بهجته ببساطة, ويعدُّ فرحته بعيدًا عن كلِّ إثارة؛ لذلك تجيء هذه الحفريات عملا على قدر من التهيُّب والرصانة والوعي أيضاً....لاتعبأبالرطانة اللفظية والأكروباتية البلاغية؛ بقدر ما تحاول أن تتشكَّل رؤيا هي أبعد من مجرَّد اللهو باللغة والتفنُّن في أساليب القول. هي كتابة مقتصدة؛ مقتصدة إلى الحدِّ الذي لا تتَّسع فيه لمجرَّد استضافة كلمة عابرة لا تساهم في تشكيل نسيجها العامِّ ودعم عناصر تشكُّلها؛ هيَ كتابةٌ مقتصدة؛ منغلقة على مكوِّناتها الأساسية؛ مكتفية بالقدر الأدنى من أدوات الإبلاغ؛ موجزة ومقتضبة إلى حدِّالتكثُّف ومختزلة إلى درجة الغموض مُغلقةٌ مثل الوردة البكر يلزمها الكثير من العناية والعطاء والصبر لتبوح بأسرارها.
ثمَّة نفورٌ من الغلوِّ وإجلال مهيبٌ للكلمة وارتيابٌ منها طالما أنَّها ’’حمَّالة أوجهٍ’’بل أنَّ توفيق الشابي يرتاب من الكتابةأصلاً حتى أن هذه الحفريات تأتي مسكونة بهاجس السؤال. سؤال الكتابة ليس بالمعنى البراغماتي السطحي المألوف ولكن بالحفر في ماهيتها وكونها؛ وواضح أنَّ عنوان النصِّ الأخير ليس بريئاً ’’ترى هل كان رسمي جميلاً’’ سؤال على قدر من التوجُّس والريبة رغم ما قد يحتمله من دهاء ومكر الشاعر وهو ما يحيل على فرضيَّة أولى إزاء هذا الكتاب, أنَّ هذا الشاعر يكتب نصه متسلحا بكامل وعيه وليس في ’’حالة بين الصحو والسُّكر’’كما وردت عن واحد من أكبر الشعراء العرب وأخذ بها الشعراء من بعده؛ غير أنَّ هذه الفرضيَّة الأولى قد لا تصمد كثيراً. ففي قراءة أعمق للنصِّ وأبعد حفراً يلوذ الشاعر في احتفاله الجميل بكائنات العزلة بعوالم هيوليَّة لا تكاد تتَّضح, عوالم تتشكَّل من صور شاردةٍ, غائمة الملامح تبدو وكأنها بقايا حلم طافح بالخيالات المضمّخة بحنين الذاكرة وتولُّهات العاشق وتسبيحات المتعبّد ولغو الطفولة وتعاويذ الدراويش؛ إنَّ هذا التوزّع بين الوعي واللاَّوعي مصدره الحيرة والريبة التي يعيشها الشاعر في تحوُّلاته الفكرية والتمزُّق الذي تعانيه شخصيته الثقافية والذي لايعبِّر بالضرورة عن حالة مرضيَّة بقدر ما هو واحد من الأعراض المتعدِّدة التي يعانيها مثقَّف القرن الأخير ولعل َأهمّ َهذه الأعراض حالة السؤال الدائم التي تلازمه. ويحرص توفيق الشابي في عزلته هذه أن يُجهرَ بهذه الأسئلة؛ يطرحها, يفكِّكها و يحفر فيها ويعيد صياغتها من جديد وليس بالشَّكل الذي يعالج به الفيلسوف مسائله ولكن على طريقة الفنَّان الذي يتقن صنعته دون أن يتجاهل همومه وهواجسه. يحتفي النصُّ بالأسئلة, والأسئلة كائنٌ من كائنات العزلة بامتيازٍ:
-1-أسئلة الكتابة.
-2-أسئلة الموت والوجود.
-3-أسئلة الحـــلم . -4- أسئلة المرأة.
ينهض هذا النصُّ إذا على الأسئلة؛ أسئلة الذات الموجعة, الحارقة؛ التي تولد معها ولا تفارقها وتظل ترهصها إلى أن توصلها إلى حتفها: ’’ سؤال يذبل وجه الغيمة’’ نص ’’ من ضفَّة إلى أخرى’’ ص68
’’الآن لم يبق من وجه أبي
سوى شكله
من عيني أمي
سوى لونها
وبقيت بذاكرتي الأسئلة كلها’’ نص ‘‘ميراث‘ص36.
-1-أسئلة الكتابة:
لعل سر تعلُّق المرء بالكتابة هو, أسئلتها الحارقة والتي لا جواب لها إطلاقا؛ يمارسها, يفكِّرُ فيها, يتعشَّقها, يعيشها, وتلاحقه بسرِّها الذي لا ينكشف أبداً. الكتابة سرٌ. لعلَّه سرُّ الحياةِ:
’’ما الذي يجمع الآن كل الضلوع إلى بعضها
ما الذي بانتباه سيرفو شقوق الكلام القديم
ويبعث فيَّ اخضرار اللغه.’’ نص’’هواجس بعث آخر’’ص20
غير أنَّ هذه الكتابة تستعصي, بل تستحيل أحيانا تورِّ ط صاحبها فيها وتغيب, تخليه في أتُّون الوحدة تمزِّقه مخالب الحيرة وتمضي, ينشدها في عزلته فلا يلقاها, يسأل الرياح عن ريحها فلا يُطفئ سؤاله شجن أو بكاء؛ إنها مخاتلة, تضئ فجأة وتختفي:
’’تضئ
لتكشف عري عيونا
تسافر
حين يضيق الممرُّ إلى زهرة في الأقاصي
يغيب جواب الوجود وتتسع الأسـئله
بؤراً في الهدوء,’’ نص’’تحت ضوء الكتابة’’ص7
وهي إذ تتركه هكذا في مهبِّ الفراغ؛ يجوس خلال الوحشة ويحفر بمعول الذاكرة باحثا عن ملاذ فلا يجد غير الحروف مرة أخرى سبيلا للإطمئنان ولو أنَّه اطمئنان مخادع طالما أنَّه وسادة خالية, جدار من سراب قديم:
’’نسافر بين الحروف
حنينا لأشياء جالت بخاطرنا ذات حلم
حنينا لأشياء لم نرها
ربَّما لامست أمسنا’’نص’’هجرة’’ ص12
يؤمن توفيق الشابي بالكتابة؛ ويؤمن بها فعل خلق طا لما أنَّه نبيٌّ:
’’المدى في يديَّ
ولا حاجة بي لنبي‘نص‘الكتابة‘ص16
لكنَّ الأسئلة بشأنها لا تنتهي:
هل أزهرت حقول الورقه؟’’نص’’الكتابة’’ص16
ولأنَّ أسئلة الكتابة ليست فقط في مضامينها وما يغشى الشاعر من رؤى وأفكار. فالنصُّ الشعري لا يكتفي بتأليف خطابه عبر الكلمة فقط, بل أنَّ كيفية تشكُّل هذه الكلمة وأساليب صياغتها هي أيضاً فضاء للسؤال, ولئن
اعتمد الشاعر في بعض نصوصه لشعرية الواردة في هذه المجموعة التفعيلة أحيانا, فقد أهملها في نصوص أخرى؛ ولئن جاءت بعض النصوص طويلة أحيانا فهناك نصوص جاءت في سطرٍ واحد؛ ولئن أخذت بعض النصوص منحى غنائياً فثمَّة نصوص تتكئ أساساً على السرد. ولعل هذا التقلب في التعامل مع النصِّ الشعري وعدم الإكتفاء بأسلوب واحد أوشكل بعينه هو في حدِّ ذاته سؤال من أسئلة الكتابة الحارقة. لماذا لا يعتمد توفيق الشابي تكنيكا واحدا في الكتابة ؟؟؟ لماذا يعدِّد أساليب القول ؟؟ ويذهب أيضاً على غير ما اعتاده الشعراء في ابتكار الصورة الشعرية. لايعوِّ ل سميُّ شاعر تونس الأكبر على التقنيات البلاغية المألوفة: الإستعارة, التشبيه, الكناية, التقابل, التطابق, الخ.... فالصورة الشعرية عنده على صنفين: صورة يشكِّلها النسيج العام للنصِّ و لا تكتمل إلاَّ باكتماله؛ وصورة جزئية, هي بمثابة خلية صغرى تتظافر مع صور أخرى متعدِّدة لتشكيل النص ويمكن أن نُدرج النصوص القصيرة من جنس الومضة:’’ طفل’’ ’’امرأة’’ ’’ تيه’’ ’’لوحة’’ ’’ أصدقاء’’ ’’ رؤيا’’ ’’جسد’’ ’’ شاعر ‘‘ ‘‘ عين‘ ‘‘ صباحات‘ ضمن ا لصنف الأوَّل.وتتوزَّع الصورة من الصنف الثاني ضمن بقيَّة نصوص هذا الأثر, رغم أنَّه قد تتوفَّر أيضا في الصنف الأوَّل ؛ ويأتي تشكيل الصورة باعتماد المركَّبات النعتيةو المركبات الإضافية حينا وحينا يصنعها التآلف بين المتنافرات وهي الإستراتيجية الغالبة في هذه المجموعة لرسم الصورة:
’’ ترى كان حلما يوتر نومك
عدت إلى يقظة في سرير الغياب ’’نص ’’ هجرة ’’ ص12
’’ليل يلتحف ضوء الشمس‘؛ ’’أحلام مرشوشة بدخان اليقظة ’’نص ’’صباحات’’ ص38
’’ لأحوِّل الجنون إلى وعيٍ آخر’’ نص’’ تهشم’’ ص42
’’ وجه يتصبب أملا/ألما’’ نص’’ شاعر’’ ص58
’’ أمسح عني رذاذ الضوء’’ نص ’’ أحلام اليقظة’’ ص 64
’’ سيحاول أن يمسك البحر / مختصرا ماءه في قصيد’’نص ’’ حوار لوقت ’’ ص83
’’ لينتحر المستحيل’’ نص’’ صفحات من كتاب السيرة ’’ ص 92
بمثل هذا التركيب بين المتناقضات يشغِّل الشاعر صورته ميكانيزم داخلي يشحن النص ويروِّيه , ويدفعه إنها بمثابة الإيقاع الذي يغني النص ويضخُّ فيه دم الحياة غير أنَّ هذا الولع بالجمع بين المتناقضات ليس مجرَّد تقنية بل هو سليل وعي مكابد ؛ وعي أنتجته علاقة غير مألوفة بعناصر الحياة والحقل اللغوي الذي يشتغل فيه الشاعر يشير إلى ذلك , فمجرَّد جرد إجرائي للكلمات المستعملة في هذا الأثر يبين مجال اهتمامه حيث ’’ مربط الفرس’’ . وردت كلمة ’’حلم’’ أكثر من 40 مرة, كلمة ’’حرف’’ ومشتقاتها وردت أكثر من 25 مرة, كلمة’’ شجرة’’ ومشتقاتها وردت أكثر من30 مرة, أما كلمة’’ ماء ’’ ومترادفاتها فقد تعدت 50 مرة. الماء, والحلم, والأشجار, والحروف هذه هي كائنات الوعي المكابد في عزلته يحاورها بهدوء ثم يطلقها أسئلة تفتح أبوابا مغلقة وتعيد ترتيب الوجود من خلال أسئلة أكثر حرقة.
-2- أسئلة الوجود والموت:
هكذا قدر الشاعر !!لا يكفُّ عن طرح الأسئلة يصوغها يؤلِّفها ولقي بها في الزحام إنها كائناته التي تمنحه الإقامة في ا لحياة وتعطيه فرصة ’’النجاة من الآتي ’’ ولعل أكثر هذه الأسئلة إلحاحا هو سؤال الوجود والموت؛ لا يعبأ توفيق الشابي بالموت غير أنه يحوَّله إلى كائن وجود, والوجود عنده هو الخلق كما تشاء الذات؛ إنَّه هو الخالق الأوحد وله أن يختار هيئته كما يشاء؛ وله ان يختار بعثه كما يشاء أيضا:
’’لي الآن أن أقتفي خطوات السماء
لأختار بعثي الجديد كما أشتهي’’ نص’’على شرفة الخلق’’ص85
غير أنَّه سرعان ما ينكص, وينقلب على نفسه صارخا: ’’أكره بعثي اكره بعثي.....’’نص’’ هو اجس بعث آخر‘ ص19
إنَّه يكره هذا البعث طالما أنَّه لا جدوى من ذلك فقدرات هذا الخالق محدودة واتكاء على المرجعية الدينية يصوغ احتجاجه الخطير:
’’هل تكفي ستة أحلام للبعث,
لمحو المحو وتعليم الأسماء’’نص’’ هواجس بعث آخر’’ ص19
وليتوقف تمرُّد الشاعر على المرجعية الميتافيزيقية فقط, بل أنَّه يرفض الثورة العلمية في مجال إعادة الأجنَّة ومسألة الاستنساخ بالذات, وفي نص مهدى إلى دولي...في نسختها الأصلية, بعنوان’’ على شرفة الخلق’’ يقول:
’’ما جدوى أنْ نتكرَّر
هامات ملأ بالتيه وأحلام ثكلى’’ ص88
فعلا ما جدوى بعث جديد ليس فيه غير ’’قلق أبدي’’ ص93و’’ ذاكرة تتقيَّأ’’ص37حيث يغيب جواب الوجود وتتسع الأسئلة /بؤرا في الهدوء ‘‘ يبدو الشاعر مستاء جدا من هذا الوجود الملغوم بالوهم والفراغ والللاجدوى إنه يأل عن معنى لهذا الوجود العبثي. سؤال قديم, قدم الله سؤال جارح ومؤلم ولا شفاء, سؤال الفكر الإنساني منذ الأزل لا يبحث توفيق الشابي عن جاب له هنا بقدر ما يعاود طرحه بشدة وبإلحاح ولعله في استعادته له كل مرة شفاء منه..... ولاشفاء طالما أنَّ الذاكرة مافتئت ترهص الذات بالحنين إلى تلك البدايات الأولى, بدايات تحسس الوجود, زمن الطفولة.
-3- أسئلــة الحــــــــلم:
يأخذ الشاعر حصَّته من الحلم أكثر من اللازم, إنَّه كائن يعيش الحلم ويحياه؛ ولعلَّه لهذا السبب مختلف عن بقيَّة الناس؛ يؤسِّس عالمه ممَّا يجود به عليه الحلم ويهندس علاقاته بالوجود وفق ماقد يراه من أحلام إنَّه يحلم بشكل زائد؛ ويعتقد فيما يحلم به. لكنَّه لا يحلم بما يحلم به الآخرون وهو لا يعتقد في هذه الأحلام الساذجة المحدودة الآفاق وإذا كان حلم الآخرين لا يتجاوز الحاجيات الدنيا مما تستوجبه متطلبات العيش وما تنشده الغرائز الملتهبة في الداخل. فالشاعر لا ينشد هذا إطلاقاً وليس هذا حلمه إنَّ الحلم عنده رؤيا كونية ترتكز أساسا على كيفية الإقامة على الأرض بشكل غير معهود, بشكل يفسح المجال للروح أن تتجلى وتحيا عالية, متخففة من اشتراطات الوجود الأبله, الغبي..... الوجود الغبي الذي لا يسعى لاحتواء اللحظة التاريخية بكامل تفاصيلها والذي يكتفي بإشباع حاجياتها دون أن يحتويها فيتخفف من اليومي المتصل بالدنيوي التافه الإجرائي العابر ليطل على أسرار الوجود الكبرى ويحيا بالتالي محلقا في عوالم الكون الكبرى, يحيا إنسانا خلاقا, مبدعا, طافحا بالحيوية, وهاهو توفيق ا لشابي, يتورَّط بدوره في الحلم ويسرح في آفاقه عاليا, ولعله اتخذه دستورا في الحياة دون أن يكف عن السؤال, ذلك أ نَّ مادَّة – ح-ل-م ترد أكثر من 40 مرة في هذا الأثر وفق صيغ متعددة: مصدر الفعل الثلاثي المجرد:حلم أي ’’ الحلم’’في صيغة المفرد ’ وفي صيغة الجمع’’ الأحلام’’, ورد أيضا فعلا مسندا إلى المتكلم في المضارع المرفوع, كما ورد اسم فاعل مشتقا من المجرد في وضع الحال غير أنَّ ما يشد الإنتباه هنا هو المفارقة في التوظيف الدلالي بين الحلم في صيغة المفرد والأحلام في صيغة الجمع, ذلك أنَّ الحلم ورد في هيئة كائن يأخذ بيد ا لشاعر, يستعين به هذا الأخير وبالتالي فتوظيفه كان توظيفا ايجابيا على عكس الأحلام التي كن حضورها في المتن حضورا سلبيا, منكسرا يقول:
’’ ولما هممت بحلمي ’’ / ’’علني ألتقي حلما مر بي ذات يوم’’ /’’ حين يهم الحلم أن يرتق’’ /’’ أذكر أيها الحلم’’ / ’’ يا خطاي ويا حلما لاينام’’/’’ لحلم نما دافئا قبل أن ينتهي مفردا‘
لقد تم اقتطاف هذه الشذرات من مختلف أنحاء المتن وفيها يظهر جليا تحويل الشاعر لوجهة الحلم من حالة مجردة إلى حالة مرئية مجسمة. لقد حول الشاعر الحلم إلى كائن يحاوره, يجلس معه, ينتظره, ينجز معه أعمالا, لكأنه صديقه الوفي, بل نبيِّه, أما الأحلام فقد وردت كالآتي:
’’ أحلام مرشوشة بدخان اليقظة’’/’’ الأحلام أقلِّبها أ بحث بين ثناياها عن واحد قد لا يتحقق في غفلة اليقظة’’/’’ أفتح في نفسي نافذة لصغير الموت وأحلاما أكثر شفقة ’’ /’’ للورود الآن أ ن تعدِّل أحلامها ’’.
واضح أن توظيف الأحلام ورد سلبيا عكس استخدام الحلم. يتشبث الشاعر بالحلم؛ حلمه وينكر الأحلام؛ أحلام المجموعة. أحلام البقية لم تعد تهمه لأنها لا تكفيه ولا تخدم رؤاه. لعل الشاعر من خلال هذا يرسل استقالته من الجماعة / المجتمع /المؤسسة ويعود إلى وعيه المكابد في عزلته هادئا ولا صديق يؤانسه إطلاقا حتى المرأة لاوجودلها في كونه.
-4-أسئلة المرأة:
تحضر المرأة في نص توفيق الشابي, لكنه حضور محتشم, خافت, لا يكاد يبين ويتخذ هذا الحضور شكلين لا ثالث لهما: الأمُّ؛ والمرأة الجسد؛
ولئن جاء حضور الأم ايجابيا في توظيف الشاعر:
’’ ككل الصغار أحبها أمي
وأسألها.........
يجيء صدى وجهها
جسدي
بين حلم وارف
وأقدام مقفرة.’’
لئن برزت المرأة في شكل الأم على هذا النحو, فإنها تبدو ضامرة الحضور في شكل الجسد/ الحبيبة / العشيقة فهي شجرة مهملة في جبل أجرد؛ نص ’’ امرأة ’’ ص 29؛ نص’’ رؤيا ص35 نص’’ امرأة’’ ص50. تفقد المرأة في نص توفيق الشا بي حضورها الفاتن, المغري, المثير وهو لايراها غير أطياف أخيلة ضامرة, بل لعله في تصوره هذا يستغرب من حضورها الملفت في نصوص الشعراء الآخرين؟؟؟
طبعا......
لا تنتظر هذه الأسئلة أجوبة؛ وليس من شأن هذه الورقة البحث عن إجابة ويكفي فقط العودة إلى العنوان لمزيد التسآل؛ فالحفريات؛ عمل انتروبولوجي, جيولوجي؛ وهي عمل فني يرتكز على النحت والرسم؛ وهي وفق الفكر الفوكوي بحثٌ في المفاهيم وإعادة تأويل؛ وهي عند توفيق الشابي.........ماذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟


قفصة – تونس 2003
’’ حفريات ’’ : مجموعة شعرية لتوفيق الشابي . طبعة أولى سنة 2002
الفكر الفوكوي : نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 06, 2013 08:58

لاسمكِ روائح أخرى جريدة السفير 12/11/12

 سيدات اللذائذ 

يرتِّبن شؤون الرغائب؛ 



يفتحن شبابيك غلّقها النسيان؛ 

يفرشن سجَّادة طرَّزها الدفء بأنامل اللهفة؛ 

يسفحن ما تعتَّق من نبيذ أسرارهن؛ 

يوقدن شموع اللذائذ 

هكذا ستضيء الشهوةُ المكان 

وكما لو أن الأمر يعنيها 

تعربد الستائر وهي تستفيق من نعاسها 

بين صحو وسكر 

يرسلن لفْتاتهن شيقة تضوع بخورا في المكان 

لا يستعجلن زمهرير الجسد 

لا يستعجلن الصعود الى أعالي الأنهار 

ولا يستعجلن نشيج الماء في الأعضاء 

لكل حصته 

من التوهج 

من التوله 

من التدفق 

من التدلل 

من الانكسار آهة قبل الانبعاث مجدداً 



رائحة امرأة 



وأنت تستيقظين من نومك يتغير مزاج الغرفة وتستنفرين كل ما هنا؛ تتثاءبين فتتلعثم الستائر؛ تصعدين المكان بنظراتك الكسلى فتهوي الجدران. تحركين ذراعيك في الهواء فتتأوه الشراشف؛ تجلسين على حافة السرير فتموء الزرابي وتضوع روائحك. تستبد بالمكان؛ رائحة حلم البارحة؛ 

رائحة نظراتك في العتمة؛ 

رائحة عرق الليل 

كان المكان رائحتك 

لن تنفع أشهر ماركات العطور: «كريستيان ديور»؛ «شانال»؛ «غيرلان»؛ «لا روش»؛ «سان إيف لوران سوف». 

تكفي روائح جسدك الطبيعية ماركة محفوظة ومسجلة باسمك : 

- منابت شعرك أعلى الرقبة من الخلف كمناشف للعشب بعد المطر 

- منابت شعرك عند الجبهة اعتصار رائحة السرو في ليل الخريف . 

- منابت الشعر عند صدغيك أول رائحة الزعتر قبل تكثف الشتاء . 

- منابت الشعر عند عانتك رائحة أول الطلع في رأس النخل . 

- خُصلاتك الهاربة منك انما هو النعناع يطارد أبكار نسمته. 

هذا ما يبوح به بعض شعرك من أسراره وأقتنصه بالشم والصمت . 

لاسمك روائح أخرى لم يحن بعد أوان الإفشاء بها؟

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 06, 2013 08:58

بريد الايام الصعبة جريدة القدس العربي 04/12/12

 





 







لسنا العدم

منذ البدء لم نصدق احدا منهم

لم نصدق انهم حملة مشاعل في مفترق الطرق

لم نصدق أبدا ما ادعوه ولم نر مثلهم حماما أبيض يغزو السماء السوداء

لم نصدق حزنهم ولا بكاءهم ولم نصدق انهم ماتوا من اجل العلم

صدقنا الحرية 

وبالامكان ما لم يكن في الحسبان

كنا نعرف انهم ضدنا 

ضد مشينا حفاة عراة نحو الوطن

لقد صدقوا بدورهم اننا قلة

غير اننا لسنا العدم



القتلة الجدد



يصلون على النبي بإبادة الآخرين ؛

يتوضئون بدم الناس للصلاة

لا قبلة لهم غير المقابر

ويقرؤون الرصاص فاتحة

لا يركعون انما يريدون من الآخرين الركوع بدلهم

ولا يسجدون مخافة ان تتزلزل الأرض تحت جباهم

بقايا من رياح السموم مهما هبت سوف لن تعصف الا بهم



نحن الذين دائما هنا 



حين تركوا البلاد للخراب

كنا هنا

حنى إذا عادوا

سكنوا في قصور شيدها دمعنا

الذي تحجر في عيون الشهداء



يريدوننا قطعانا 

قلنا لهم نحن في حاجة للمشي بعمودنا الفقري ؛مستقيما وليس منحنيا او مكسورا ؛

قلنا لهم نحن في حاجة للهواء وليس لتراب القبور

في حاجة لحدائقنا جرداء أو خضراء بالظلال؛ ليس الى جنة في الوهم

قلنالهم نحتاج إلى التغرف على انفسنا قدام مرايا اصواتنا 

لا حاجة لنا بمن يعرفنا بأسمائنا في السماء

لا يريدوننا ان نقول لهم اي شيء

يريدوننا قطعان اشباح قي عتمة الظلال الباردة.



البلاد 

اليد وهي تشرع في ترتيب الثوب مجددا

افتقدت أصابعها

تكاثرت الدبابيس في الكبة وتشابكت

لم يعدهناك خيط واحد يصلح

لرتق البلاد.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 06, 2013 08:58

ما قاله القتيل ولم يسمعه القاتل بجريدة القدس العربي 12/12/12

 - موتي جميل لماذا تخافونه أيها القتلة؟

-أيها الموت ؛ أيها المقدس سنلتقي حتما فقط لا أريدك ان تتلوث بقاتل غبي يأخذني للقائك

- نكاية فيهم سيكبر الموت داخلنا بخير ولن يغتالوه قبل وقته

-لدينا ما نقوله حتى ونحن ميتون

-لن نموت إلآ واقفين

- ما أنا متأكد منه إنكم لن تستطيعوا أن تأتونني بموتي صاغرا لكم

-يخافونني ميتا أكثر مني حيا

-لعلكم تفكرون ان تجعلوا من موتي حذاء لكم غير انه لن يكون على مقاس نواياكم

-أنت أيها القاتل المفترض ؛ أيها القاتل المحتمل ؛ أيها المتعثر بيني وبينك أيها المتبعثر بين خوفك واطمئناني اقترب أكثر مني سترى وجهك مختلفا في ابتسامتي لك

-لم يعد يزعجني أن أغادر نهارا يتهيّأ لي كاذبا بربطة عنق ملوّنة 

لن يزعجني أيضا أن يُسجّوني على بلاط بارد ليغسلوني 

في اتجاه تراب لا خونة فيه 

-تلك التي ستطلّ من الشرفة سوف تكتفي

بمنديلها إشارة للبلاد

سنكون حزينة أو أقلّ 

كنزتها الصوفية البيضاء 

تؤجّل قيلولة المعنى

نظرتها أبعد من الحلم قليلا

تسرح بماعز الرغائب عند أعشاب المنخفضات

-مت قبلكَ ومازلت أحيا بعدكَ

-لن تبارح مكانك قبل أن تجد نفسك محاصرا بالعدد المهول من الأبناء والبنات الذين أنجبهم زواجي برصاصتك.

قفصة/ ديسمير 2012

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 06, 2013 08:58

July 4, 2013

محمد صالح الجابري والشعر التونسي

 




الجابري والشعر التونسي




سنة 1975أصدر الكاتب و الروائي الراحل محمد صالح الجابري كتابا سيكون هو الأول من نوعه في تونس ؛ وهو الأول من نوعه ليبس لأنه في ستة أجزاء ؛ وليس لأنه موسوعي النزعة ولكن لأنه يتصَّدى لمشكلة من أعمق وأخطر المسائل في الثقافة التونسية ألا وهي مسيرة الشعر التونسي خلال قرن من الزمن ؛ فالشعر التونسي وإلى وقت صدور كتاب الجابري لم يحظ بدراسة معمقة منهجية تستقصي مراحل تطوره وتبحث في إشكالياته الفنية تُجلي مختلف تشكلات أساليبه وتستنطق مضامينه وتبحث في مفاهيمه ضمن دراسة شاملة من منظور البحث النقدي الذي يهجس بسؤال تشكل طرق القول الشعري وأسس جمالية هذا القول على اعتبار إن الشعر مرقى جمالي أولا وبالأساس ؛ هذا إضافة لما تضمنه الكتاب من تراجم ومختارات لشعراء ممن ظلوا مغمورين مجهولين لدى القارئ التونسي رغم مساهماتهم المتعددة وإثرائهم للمكتبة الشعرية التونسية ؛ لن يختلف اثنان في القيمة التاريخية والانطولوجية والأدبية لمنجز صاحب ’’ البحر ينشر ألواحه,’’ والأكيد وإنه وإن حمل على عاتقه مهمة انجاز هذا المشروع الموسوعي فذلك أولا لحبه الكبير للشعر وهو الذي ابتدأ مسيرته الأدبية كشاعر وثانيا كشكل من أشكال التعبير لحبه لتونس إيمانا منه إنها بلد الإبداع والعطاء الفني . والكتاب فعلا موسوعة ضخمة ليس فقط لمن يحتاج إلى معرفة تطورات الشعر التونسي وتراجم شعرائه ولكنه أيضا صفحات من تاريخ تونس منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين فهو يرصد أهم التحولات السياسية متوقفا عند انعكاساتها وتأثيراتها على الجانب الاجتماعي و علاقتها بالجانب الثقافي عموما وخاصة الجانب الفكري وهو مادة ثرية تعكس أهم الأحداث السياسية في تونس وما صاحبها من تحولات فكرية دونما ان يغيب عن ذهن الكاتب التوقف مليا وبعمق عند الأسباب التي ساعدت على النهوض بهذا الفكر وإيقاده وتحريك سواكنه بما يجعله مواكبا للتحولات الحضارية أو يبحث عن دواعي التحجر والعوامل التي كانت وراء تخلف وتراجع هذا الفكر ليربط كل هذا بمسيرة الشعر التونسي ومختلف مراحل تطوراته والبحث في القوادح التي كانت وراء إيقاد شعلة النهضة بأساليبه أو مضامينه وتقصّى عوامل انتكاساته ومن ثمت مراجعة الأسباب التي كانت وراء هذه الردات فعصفت برياح التغيير وجمدت حركة التجديد في شرايينه .

سوف يعتمد الجابري استراتيجية خطية في اقتفاء بدايات الشعر التونسي منذ 1870إلى 1970وهو ما اقتضى خطة أفقية اعتمدت التاريخانية ملتزمة بالمسار الزمني حيث جاءت فصول الكتاب الخمسة وفية للتسلسل الزمني في تواتره الكرونولوجي لذلك عمد صاحب ’’ ليلة السنوات العشر’’ الى تقسم الفصول تقسيما زمنيا جاء كالآتي:

الفصل الأول من 1869إلى 1881

الفصل الثاني من 1881إلى 1914

الفصل الثالث من 1914إلى 1934

الفصل الرابع من 1934إلى 1940

الفصل الخامس من 1943إلى 1970

يرى الجابري أن انطلاقة الشعر التونسي كانت بطيئة محتشمة يكاد يكون لا صدى لها قد هيمن عليها محمود قابادو الذي وفق هذا الكتاب هو الأب الروحي للشعر التونسي المعاصر رغم أنّ هذا الشاعر لم يكن له أثر يذكر على من جاء بعده أو من عاصره (والكاتب لا يذكر شيئا عن معاصريه) فلقد كان شاعر بلاط الأساس وأغلب شعره كان في الباي هو شاعر البلاط بامتياز موظّفا أغلب شعره في مديح الباي وحاشيّته بل إنه إنحاز لهذا الأخير ضد ثورة علي بن غذاهم وانتصر لظلم الباي على حساب إرادة الشعب ولعلّ هذا واحد من الأسباب التي جعلته بلا حظوة عند من سيأتي بعده من المثقفين عموما أو الشعراء ولو ان الجابري لن يذكر موقف الشابي منه ولذلك سوف تأتي الفترة التالية يهيمن عليها شاعر سيحدث حوله سجال حتى بعد موته

فالحضور اللافت للأستاذ خزندار غطّى على جميع معاصريه رغم أنّه سليل العائلة الأميرية وهو الذي حسب رأي الكاتب:" أسّس شعر الالتزام".

هكذا كانت بدايات الشعر التونسي يتجاذبها طرفان متناقضان من حيث الغرض الشعري دونما اهتمام لعنصر الفنيّة أو انشغال بضرورة التجديد في أساليب الكتابة وهو ما لن يجد صدى له إلاّ في بدايات القرن الماضي كأفكار وليس بإبداع وفق ما سيؤكده الجابري من خلال تصفحه لجرائد ومجلات ذلك العصر حول الشعر العصري إذ يقول: ’’ من الواضح الآن إن الشعر التونسي أتم شيئا من مقوماته انطلاقا من السنوات العشر الأولى إذ تحددت خلال هذا الطور المفاهيم الأساسية ( للشعر العصري ) بين الدعوة إلى مساوقة الحضارة الأوروبية وبين التحريض على التحرر والثورة ’’ ص 93

وفق هذا المنهج الخطي يواصل الجابري استعراض سيرة الشعر التونسي من خلال التوقف عند أهم رواده وبعد أن يشير في شيء من التوسع إلى الشاذلي خزندار ومصطفى آغا يخوض في عصر الشابي ضمن فصل تحدد عنده بست سنوات من 34 الى 40 ويراه ممثلا في ’’ الثالوث الرومنسي ’’ الحليوي والبشروش والشابي رغم انه يعود ليقول ’’ ويبدو من العسير تصنيف الشابي من الرومنسيين فهو رومنسي على طريقته ’’ ولأن عصر الشابي هو عصر ازدهار الشعر التونسي الحقيقي بامتياز فسيتوقف الجابري أيضا عند محمد العريبي ومحمود بيرم التونسي وفي الفصل الأخير ينزع صاحب ’’ ليلة السنوات العشر ’’ إلى تصنيف الشعراء التونسيين وفق المدارس : الكلاسيكيون : المختار الوزير مصطفى خريف ؛ أحمد اللغماني

الغنا ئيون : نور الدين صمود ؛ جمال الدين حمدي ؛ زبيدة بشير

شعراء الحلم والواقع : ابن الواحة ؛ محمد العروسي المطوي ؛ على شلفوح

الواقعيون الاشتراكيون: الميداني بن صالح ؛ مصطفى بحري ؛ أحمد القديدي منور صمادح .

يبقى السؤال ؛ إلى أي مدى نجحت إستراتيجية الجابري في تقصي مراحل تطور الشعر التونسي خلال قرن من الزمن وهل هذه المنهجية الخطية وفقت في فهم آليات وطرق أداء الشعر التونسي مضمونا وأسلوبا فالجابري الذي انطلق في موسوعته من فكرة مفادها أن الشعر التونسي نشأ ’’نشأة تعاطفية بعيدا عن ريح المدارس’’ نجده ومن عصر الشابي يبدأ في التصنيف اعتمادا على ريح المدارس وربما الالتزام بالمسلك الخطي هو جعل الجابري يربط مصير الشعر التونسي بالواقع والحركة الوطنية والاستعمار وهب النظرية التى ترى في الأدب انعكاسا لواقع وتمثلا له وهو ما دفعه أن يقرر قائلا :

’’وشعرنا التونسي ؛ كله شعر من الواقع وعن الواقع لما فيه من تقريرية ومباشرة أما في حقيقة الأمر فيصعب أن ننسبه إلى المدرسة الواقعية وحتى إلى الواقعية الاشتراكية ’’ ص624.

ولئن وجدت نظرية الأدب مرآة للواقع صدى لها في منتصف القرن الماضي ووجدت في جنس الرواية تجاوبا معها فإنه لا يمكن إطلاقا تعميمها على الشعر بما هو فعل إبداعي إنساني معقد النشأة والتكوين تتضافر عدة عناصر من أجل توليده وعملية ربطه ربطا ملزما بالواقع إنما هي في الحقيقة محاولة للي عنقه وخنقه وقطع الأوصال التي يتنفس بها ولسوف تكفي إطلالة واحدة علىى قصائد بعض الشعراء ممن ذكرهم الجابري لنكتشف إنها لم تكن واقعية مية بالمية سواء وفق نظرية لوكاتش ومن جاء بعده أو وفق التصور العام للأدب الواقعي بما هو تسجيلي توثيقي فهل تستجيب قصائد الحليوي والبشروش والشابي والعريبي ومن بعدهم خريف والوزير وصمود وجمال الدين حمدي هل تستجيب لنظرية الأدب الواقعي فاغلب إشعارهم يمكن أن تُصنف ضمن الوجدانيات العاطفية كالحليوي والبشروش وجمال الدين حمدي هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فالجابري وهو يقرر في مقولته السابقة أن الشعر التونسي تقريري مباشر انما ينزع عنه صفة الفنية الإبداعية وبالتالي يعدم فيه أهم شرط من شروط الشعرية لكن لا اعتقده مقتنعا بهذه النتيجة التي انتهى إليها انما هي المنهجية الخطية التي أوصلته إليها طالما إنها أشبه بعملية مسح جيولوجي لخارطة الساحة الشعرية التونسية وهو ما نتج عنه إهمال الجانب الفني والإنصات لنبض القصيدة من الداخل ورصد تحولاتها الجمالية ولئن توقف الجابري عند رأي أورده عبد العزيز المسعودي في مجلة السعادة العظمى سنة 1904’’ ولكتاب الأفرنج ومن قلدهم من كتابنا المعاصرين من أساليب غير متعارفة من قبل في الكتابة الشعرية منها استعمال ’’ الشعر في النثر ’’ للأسف لم يتبع الجابري هذا الخيط الذي كان سيصل به إلى نتائج مختلفة تماما من حيث تأمل تحولات بنية القصيدة في الشعر التونسي وأسلوب تعاملهم مع اللغة الشعرية وطريقة معالجتهم لمضامينهم, والجابري الذي أظهر حسا نقديا في معالجته لقصائد بعض الشعراء مثل مصطفى آغا فاعتبر قصائده موغلة في السردية لغتها بعيدة عن الشعر ورأى في قصائد البشروش ترصيفا للكلام كان بإمكانه أن يستثمر هذه الطاقة لديه وهو الذي بدأ شاعرا في أول مسيرته الأدبية وتوقف عن ذلك لحساب السرد عملا بنصيحة الشاعر الراحل منور صمادح ؛ أقول كان بإمكان الجابري أن يقرأ مدونة الشعر التونسي من منظور نقدي بدل الجرد الإحصائي والأكيد إن القراءة النقدية الفاحصة كانت ستبحث في مدونة الشعر التونسي وتتبع مراحل تشكل القصيدة عند الشعراء الرواد وما كانوا يهجسون به من أسئلة جمالية واختبار الأدوات الفنية و أساليب تحكيك القصائد وهو ما كان سيجنب الجابري الوقوع في خلط تعداد بعض الكتاب ممن برزوا في أجناس أدبية أخرى ضمن الشعراء من مثل : الحليوي والبشروش والمطوي وتخصيص صفحات مطولة لهم في حين تمَّ إغفال تجربة الشعراء الرواد من حركة الطليعة من مثل صالح القرمادي و جماعة في غير العمودي والحر من مثل الطاهر الهمامي مختار اللغماني والحبيب الزناد وهؤلاء هم من قاموا بالحركة الانقلابية الثانية في الشعر التونسي بعد الشابي من حيث أساليب قوله وطرق توليد المعنى فيه و أحسب ان المنهج الخطي هو الذي ضغط على الجابري في قراءته هذه للشعر التونسي المعاصر فجاءت قراءته أحصاء عوض التفحص والتامل التحليل ومقارنة النتائج .

غير إن كل هذا لن ينقص في شيء من قيمة المجهود الكبير الذي أنجزه الراحل باعتباره أول عمل موسوعي يتصدى لتأريخ الشعر التونسي ولعل مزيته الكبرى إنه جهَّز مادة خام يعود اليها الدارسون للبحث في اشكاليات الشعر التونسي وهو ايضا مرجع مهم لدراسة الشعر التونسي الحديث بعد السبعينيات .



ربيع قفصة 2010




 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2013 08:16

عودة الوندال الجدد

عودة الوندال الجدد


عبد الوهاب الملوح


 


المدينة فاجعة ؛ اللغط حشرجة الشوارع التي  تفتقد أعضاءها ولا تجد وقتا لتموت كما ينبغي فتبحث عن منعطفات لها بين الظل والهجير ؛ بين الصمت والصراخ ؛  تبحث الشوارع عن مأوى لها  من وهم يتطاول عليها ويسرق منها منعرجاتها وأرصفتها ضحكاتها وفساتينها الملونة ويتركها جثثا لقيلولة  فكرة الوطن ؛ هاهم جاؤوا من جهة  بلا رائحة وبلا دم ؛ جاؤوا كآخر مصاصي الحلم ينتشرون خفافيش تقتطع من قهقهات الصبية أعقاب المساء أجنحتها لتحلق على مدى منخفض وتحط على بتلة  غيمة توشك أن تزهر شلال  ضوء ؛ ’’ ما الذي يحدث  قال شيخ في التسعين ؟’’  البلاد تحترق أجابه فتى  بين العاشرة والشارع  ! جاؤوا  يصعدون أكتاف النهار ويسوقون أمامهم قطعان العتمة جاؤوا قتلة وقتلى .. أغلقت المقاهي حفلات البن وخلت الأرصفة من بوهيمية شعراء لم  ينتهوا من انجاز قصائدهم .. الحرية مجزرة؛ كأنها جنازة بلاد انتهت مدة صلاحيتها تبحث لها عن قبر في جبانة الصمت ؛ كان الوقت  قبل منتصف الرحلة  ؛ الليل هنا مأدبة للبكاء والحيطان  تسقط  بين كفين عاريتين من  البياض لواحد من الوندال الجدد .. جاؤوا من لا جهة جاؤوا كثيرا  وكانوا أقل من واحد يفتكون من الصبيان  أفراحهم بالعطلة  ؛ يخطفون من عروس ليلة زفافها ؛ يشعلون النار في زهرات الليمون البيضاء وهي تنفض الغبار عن  الأيام السوداء يقطعون أوصال شريان يتمدد في المدينة ليصلها بحي ينهض من موته السريري   .. كيف حالك  يا شجرة الاكاسيا  حذو قلبي المتعب من التحديق إلى الأعلى – أقصد بالأعلى فكرة التحرر ... سوف يهدأ مزاج الظل وتخرج ربة البيت للتسوق وفي نيتها أن تعدَّ العشاء لابنها الوحيد ؛ سوف يعترضها الوندال وبينما تفر إلى جهة تأمن عندها من دمها النازف  سوف تقع مغشية عليها  مختنقة من قنبلة الاكريموجان التي وقعت فوق رأسها ..


 لا مفر السماء جهنم والأرض جهنم والموت جهنم   !


مرة أخرى ؛ يسقط الضوء مغشيا عليه وتنغلق الحانة قبل أن  يوقف النبيذ قطاع الطرق في دمائنا ويفكك  أحزان العمود الفقري .. كان الوجع مغني من أصول نوميدية  فينيقية بيزنطية  عربية .. كان المغني لقيطا من أزمنة الازدهار العاطفي  ويعتبر نفسه ابن شرعي  للحب وكان المغني  هنا لما خرج  وحده  في مواجهة  الوندال  عند مفترق الطرق بين وسط المدينة والضاحية الشرقية .. فكر ان يقاومهم بأغنية عن الحب والزهر الذي يربي رائحته في أصص بعيدة عن نوار الأحزاب وفاكهة الجنة .. يؤلمني أن  لا أحد يصغي لنبض البلاد  في صوتك؛ هم لا يحبون غناء بطعم  فاكهة الصيف  هم يريدون أن يمتصوا رحيق الفرح من هتاف  صبي  يركض بدفتره عائدا من سنة دراسية مكسورة القدمين.. الوقت قبل الوندال بقليل  أثناء مهرجان الأحزاب وحملاتهم الانتهابية  حين بدأت عمليات نسف مضخات القلب ونهب أثاث الروح واغتيال الحرية  اهه  كنا نقول لن نكتفي بالحرية  ولا بد من التحرر وهاهم  يقطعون الطريق بينهما ..


لا مفر السماء جهنم والأرض جهنم والموت جهنم  !


لا بأس  .. لا بأس سنخرج للتفسح بعد العصر نسقي  أشجار الحديقة  قرب رماد الأمس ونبرّد خاطر الهواء الحزين ..


كفى لن يعبر الوندال على أجسادنا ولو كنا جثثا          

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2013 08:16

هل قامت الثورة فعلا

 


هل قامت الثورة فعلا


 عبد الوهاب الملوح


 


حشود غفيرة تتدافع في الشارع الرئيس ؛ الأمر اللافت إن الأشجار أيضا تنقلع من جذورها وتبارح حيث يتجه الموكب الشارعي ؛المقاعد الخشبية المبعثرة هنا وهناك  بدأت تزحف  بأرجلها الأربع  ؛ الجدران العالية والواطئة تهاوت الأزقة الجانبية  اتخذت اتجاهها حيث تتجه الحشود  السماء واطئة وقريبة على مرمى اليد أسراب حمام تحلق على مدى منخفض الأصوات متعالية ؛ هادرة تحولت إلى صمت مهيب لكأنها جنازة ما  ..ولاشيء آخر ...


 التلفزيون الرسمي  يقدم برنامجا وثائقيا  عن العجائب السبعة والأحزاب المعارضة الرسمية تصدر بيانات تثمن وتزكي قرارات الرئيس الأخيرة: فهمتكم وغلطوني والتخفيض في الخبز والحليب والسكر وحرية التعبير و الإعلام و تتحرر البلاد على يديه مجددا  ؛ المهم أن لا يغادر كرسيه  وسوف يجيد أداء المسرحية على انه كان مجرد مؤدي أما ا ليوم فهو ا لمحرج وكاتب ا لنص والمؤدي ألقى كلمته  الثالثة  وهو واقف عكس الأولى والثانية  حيث ألقاهما وهو جالس مضطرب  وبينما كان  يهدد الناس في كلمته الأولى هاهو يهدد  مساعديه الذين خانوه الآن؛ ثمة رد فعل  سيكولوجي  من الطرفين الرئيس الخائف على مصيره الأسود والشعب الذي اكتشف حالة الخوف ؛ لقد  صاحت الجموع قبل هذا الوقت بأيام انه لا مجال للخوف من أي شيء بعد الآن ؛  وبدأ الانقلاب  ما عادت الناس تخاف الرئيس  هاهو الرئيس يخاف الآن ؛ الخوف هو نفسه الذي دفع بأعوان البوليس وفرقه المتعددة الاختصاصات    فرق مقاومة الشغب وفرق حفظ النظام العام وفرق تفريق المتظاهرين  كل هده الفرق  انحسرت ووقفت صفا واحدا أمام مبنى وزارة الرعب لم تستطع مواجهة  المد البشري  والشارع المتحرك بكل مكوناته .


 الشارع  جسد واحد ؛  يد  تعلو وتهبط جوقة واحدة لأداء نغمة واحدة  الرؤوس المتعددة  تتطلع لأمر واحد  والعيون كلها  نحو مبنى الداخلية . الشارع   تسونامي  بشري يأتي على كل شيء  ولا يستثني شيئا  كلهم كلمة واحدة   هتف رجل وهو يندفع إلى الأمام : ليذهب كل شيء إلى الجحيم  صاح أخر  بل إلى الجنة  كان موكبا مهيبا يمضي بشكل أفقي متراص وفي نفس الوقت يصعد عموديا في اتجاه فكرة لم تخطر على بال احد  قالت امرأة يحملها  صديقها على كتفيه : اليوم سنُطيح بالرئيس ... علا صوتها أعلى من  نصب ساعة الساحة هناك   أعلى من  ربع قرن من البؤس والخوف رددت الجموع ليسقط  الرئيس .. وسقط الرئيس بسقوط آخر معاقله  حيث انطلقت  سيرته الزفت كبوليسي متخصص في الاعتقال والاغتيال .. هرب الرئيس  ليلا  وبقيت الحناجر تصيح مطالبة بسقوط سدنته ونظامه الهش تفرقت ا لجموع ولم تهدأ الحركة في الشارع  رغم حظر التجول مازال هدير الجموع  التي خرجت منذ الصباح  يهد الزمن وينتفض  ؛ بدأ  الرصاص يئز من جهات متعددة وكان هناك من يهتف وحده ؛ يهتف بصوت عال رغم بحته  يهتف خارج إيقاع التاريخ  كان يهتف : الرئيس هرب ؛ يا شعب أنت حر  يكررها أكثر من مرة فيردد أصداءها الصمت ا لمدوي كان  صوته يصل ملايين الناس هنا وهناك وفي أي زمن ؛ لم يكن نوستالجيا  ؛ لم يكن محترقا  ؛ لم يكن صوتا  مكسورا بل كان صوتا مندفعا كانت الحبال الصوتية تعيد تاريخ البلاد إلى أمجادها  تلك الحبال الصرية التي حاول الكثيرون قطعها كان صوتا أقوى من صوت  الرصاص الآتي من هنا وهناك  وكان صاحب الصوت  يرسل هتافه  ضد  القناصين الذين انتصبوا هنا وهناك ليصيبوا الثورة في مرمى القلب؟


هل قامت الثورة فعلا ؟


أنها ليست  مجرد عصيان مدني أو هي ليست حدثا سرياليا  أو نصا روائيا ؛ هي ليست  كوميديا دراميا  منسوخة عن أعمال برشت ؛ قال احدهم  لن تقوم أي ثورة في زمن العولمة ؛ ا زمن الانفتاحات الكبرى على جميع الأجناس  ؛ الثورة أيضا جنس سلوكي  تختص به بعض  الشعوب ذات الطبيعة القلقة التي لا ترتاح لأي شيء ؛ اندلعت  من لحظة  عند تماس الموت والحياة عند انسداد السبل بين الحياة والموت فإما حياة أو حياة هكذا اندلعت الشرارة الأولى ؛ وتلاها تسونامي  هو حسم اللحظة الفاصلة بين البقاء واللابقاء وكانت الانزياحات الانقلابية  تنتشر في هشيم الجسد الذي بلي بفعل الزمن وبفعل رفاهية الاستعارة الحياتية  ورحل  السيد الأكبر  لكن كلبه  مازال هنا  والمثل الصيني يقول أن قتلت السيد فاقتل كلبه أيضا ؟


 هل قامت الثورة فعلا ؟


 مازال الوقت قبل الصباح  بقليل  والمدينة لم تتنفس هواءها الجديد عمال التنظيف البلدي  يباشرون أعمالهم بكسل متباطئ قال احدهم وهو يشعل لفافة تبغ :  لن يتغير شيء ؟


لم يلق الآخرون بالا إلى ما قاله  والتفتوا جهة الجنوب خناك مسيرة قادمة من أقصى الجنوب تطالب بإسقاط الحكومة   كان الأول على حق وكان الآخرون على حق أيضا لما تركوا  أدواتهم والتحقوا بالجموع المتظاهرة فهناك  أشياء أخرى من الأولى تنظيفها  ورفع زبالاتها؛  كيف يمكن ان تقوم حكومة فيها ناس  قامت عليهم الثورة  فإما   هي ثورة أو لاشيء وسوف لن تكفي الوعود بالديمقراطية والحرية  وسب الحاكم في الشوارع لن يكفي كل هذا  الا  اذا تغير كل شيء ؟


 فهل قامت الثورة فعلا ؟؟     

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2013 08:16

j;ks jmgl

تونس كلها تتكلم


 


بصوتها العالي تتقدم


 


بلاد أعلى م الريح مجنحة


 


بذراعات أولادها مجنحة اعلى من الأوان العلم


 


تمشي بشجرها


 


بحجرها


 


بترابها


 


ببحرها تمشي واتهدم


 


كبيرة بجرحها وكبيرة بحلمها


 


مأحلاها بشعبها في الحرية يترسم


 


ما أحلاها بلاد تقول لا


 


تمد ليد في اليد لا تتقسم


 


تونس بكلها تتكلم


 


بصوتها العالي تتقدم


 


هاي ولات عند الكبار وعند الزغار


 


عند اللي يقرى واللي ما يقراش


 


ولات في كل فم


 


غناية قالها جدي قديم


 


الفجر ما يطلع كان من ريحة الدم


 


أشكون يقرى التاريخ


 


التونسي قلةقي لا يركح ولا يحب الصنم


 


هكاكة ها الشعب مرة


 


حزين


 


ومرة ساكت ومرة يتمرد ع الألم


 


ما كشي خضرا يا تونس وما كشي سبحة امتاع ياسمين


 


أنت ثورة ع الألم


 


يا تونس يا ام الجبارين


 


بنخلك وزيتونك وأولادك


 


كل مرة تقولي يزي م الألم


 


أولادك خرجوا م الصباح


 


خرجوا م الليل


 


وبعد الجوع


 


وخرجوا بعد الموت يرفعوك


 


يا تونس بكلها تتكلم


 


وبصوتها العالي تهدم

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2013 08:16

بلاغة العري

بلاغة العُريِ

عبد الوهاب الملوح


حاملا الفكرةَ غيمةً,

يصعد ليلا مُترنِّح السواد.

منذ يومين ؛ اتخذ النهر مهنة ,

واكتملت قامته تدهم فوبيا الضحك!

كان لابدَّ من خطوة غير محسوبة ,

كان لابدَّ من فكرة تشبه ضحكة سانشو ؛

كان لابدَّ من خطيئة ,

كان لابدَّ من...

سوف يبدو الصمت معتوها ؛

لن يُجفِّف الجسد عرق السراب .


محمولا على كفِّ أغنيةٍ

يؤدِّي اليمين العاطفي

ويُجهز على مكائد المسافة ؛

عليه أن يجتاز النهار


ويحتال على  كآبةَ الماء

عليه أيضا أن يُصدِّق حدسه ويعتقه لوثةً.

كانت شهوته وعولا تركض بين خلجان صباح ينهض على كتف امرأة ترتِّب شعرها بعد فعل الحب.

يرتجف الهواء من حمم جسده,

وهو ينزع كنزته الصوفية : يُفسِّر بلاغة العري ..

تهطل الغيمة رذاذا!

لن يُسعفه الصحو من الغرق في النشاوي؟

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2013 08:16

عبد الوهاب الملوح's Blog

عبد الوهاب الملوح
عبد الوهاب الملوح isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الوهاب الملوح's blog with rss.