البيوت التي تسكننا

مقالات محمد ولد إمام
 

البيوتليست حجارة وأبواباً فقط، لكنها أمكنة تتنفس معنا وتشيخ حين نشيخ. في كتابه البيوتأسرار الروح كتب الفيلسوف والمعماري غاستون باشلار: إن البيت هو أحد أعظم قوى دمجالأفكار والذكريات والأحلام، فكل بيت نسكنه يترك فينا أثراً ما، لكن قليلاً منالبيوت ما يسكننا إلى الأبد.

كممن دار نمرّ بها كما يمرّ القطار بمحطات لا يحفظ أسماءها، وكم من بيت صغير ظلّيعيش في قلوبنا حتى مهما رحلنا وتنقلنا.

إنالحنين ليس للأثاث ولا للجدران، بل لذلك الشعور بالأمان الأول الذي لا يتكرر.

وما حب الديار شغفن قلبيولكن حب من سكن الديارا..على رأي المجنون.

أذكربيتنا القديم، كما قال نزار في حواره مع تلك الإسبانية:ورأيتُ منزلنا القديمَ وحجرةًكانت بها أمي تمدّ وسادي..أنا كذلك أتذكر كل ملامح وزوايا بيتنا القديم الذي كان متواضعا، ومع ذلك ظلّ أوفىمن شقق المدن الحديثة. كنت أجد فيه روائح طفولتي تتدلى من السقف كعناقيد العنب،كأن الجدران نفسها تحفظ صوتي وأنا طفل وأسترجع كل تفاصيل حياتنا السابقة.قرأت مرة في دراسة عن الذاكرة المكانية نشرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنالباحثين وجدوا أن البيوت الأولى في حياة الإنسان تُخزَّن في مناطق الدماغالمسؤولة عن الذاكرة العاطفية، ولهذا تبدو أقوى من غيرها في الوجدان.

 

حيننتحدث عن الديار أو البيوت فنحن نتحدث عن ألبومات حياة: ضحكات، بكاء، طقوس الصباح،مشهد النافذة، والأبواب القديمة التي تفتح على دهاليز القلب. ربما لذلك قال الشاعرالفرنسي بول فاليري إن البيت هو أول كون للإنسان كل شيء بعده مجرد امتداد.

 

لهذا،فإن البيوت التي تسكننا لا تموت حتى لو هُدمت. بل تتحول إلى قصائد، أو إلى صور فيالعقل، أو إلى رؤى في الأحلام.

فيسيرته الأيام يقول طه حسين إن بيت طفولته في الريف ظلّ يزوره في المنام حتى وهو فيباريس.

أعتقدكذلك أن بيوتنا ليست حجرا صلداً لكنها أوطان داخلية إن جاز التعبير.

 

كلنانحمل بيوتا وديارا في صدورنا من حكايات وأصوات وألوان، نسكنها كلما ضاقت بناالأمكنة.

والوفاءللبيت الذي يسكننا ليس بأن نعود إليه جسداً بالضرورة، بل بأن نحافظ على قيمهومعانيه ونور أهله في أرواحنا وذكرياتنا معهم.

اقرأ أيضــــاً "على هامش العمر"

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 14, 2025 02:06
No comments have been added yet.