البصمة الثالثة
-1-
لماذا تم فرض علينا بصمة ثالثة؟ بصمة خروج وبصمة دخولوبصمة بينهما؟ لم يأت القرار بين ليلة وضحاها أكيد.
نتعامل مع الأمر بسطحية.. بأكثر مقدار من السطحية وهي التعاملمع القرار كما هو.. سنتعمق فيما بعد، ولكن نبدأ بالسطح.. فحسب قرار ديوان الخدمة المدنية فإن القرار جاء "لتحقيقمبدأ العدالة، وللارتقاء بمستوى الأداء الحكومي" وفي هذا إقرار ضمني بأن هناكخدش بمبدأ العدالة، وعيب في مستوى الأداء الحكومي. ولا أدري كيف يمكن تطبيقالعدالة بإزعاج الكل.
النظرية المتبعة في الدوائر الحكومية نظرية تايلورية صارخة.نسبة إلى المهندس الأميركي فريدريك تايلور. وهذه النظرية الإدارة العلمية (كما صارتمعرفة) لاقت انتقادات واسعة واختلافات كبيرة مع نقابات واتحادات العمال من قبل 100سنة. هي بالتأكيد تساعد في الكثير من الظروف في زيادة الإنتاجية.. وهذا الذي جذبدول مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية مثلا على تبني نظرية الإدارة العلميةرغم أنها قادمة من خلفية رأسمالية! هنا تكمن المصيبة مثلما جاء في تصريح ديوان الخدمةالمدنية "الارتقاء بالمستوى الحكومي" ولكيلا أُفهم بشكل خاطئ. لا نريدأن يهبط مستوى الأداء، إلا أن النظرة المرتابة في جعل الخلل في الموظف في المرتبة الأولىهي مشكلة ديوان الخدمة المدنية ونظرية تايلور على حد سواء. لأن الموظف أو العاملمسؤول مباشر عن المستوى الوظيفي فالنتيجة الطبيعية للقيادات الوسطى والعليا أن يشكلواأنظمة صارمة لمراقبة الأداء. فعل منطلق من سوء ظن في الموظف، بل وفي الإنسان علىحد سواء.
-2-
يعتقد معظم الناس أن الإنسان سيء الطباع قبيح الخصال قذرالسريرة. سجلت مقطعًا قصيرًا عن الفلسفة السياسية قبل عدة أشهر على منصة الانستاغرامأرشح فيه مجموعة من كتب الفلسفة السياسية. ونسيت أن أذكر كتاب نيكولو ماكيافيليالشهير أو سيء الذكر"الأمير".. حاز المقطع على مئات آلاف المشاهداتوجاءتني مئات التعليقات تذكرني بذكر كتاب الأمير. وتتساءل لماذا غفلت عن ذكر كتابالأمير. وآخرين يستنكرون علي نسيان الأمير. مجموعة كبيرة قالت: نسيت أهمها وأكثرهاواقعية. الأمير. صحيح أنني نسيت ذكر الكتاب فهو فعلا من أهم ما كتب في الفلسفةالسياسية على الأقل في أصول الفلسفة السياسية. إلا أن الذي استغربته لماذا يريد كلهؤلاء الناس أن يتبنوا أو يسوقوا لكتاب يشير لهم بشكل مباشر بأنهم غير جديرينبالثقة والأولى بالحاكم أن يخيفهم ليستتب حكمه! ما الذي يجذبهم بفيلسوف يوصيأميرًا ما بأن يأخذ السلطة والقوة بلا حياء ويصفهمبأبشع الأوصاف. ولا أظن أن أحد الذين علقوا على منشوري على انستاغرام من الطبقةالحاكمة! لماذا هم منزعجين من عدم ذكر من يرى أنهم خلو من المبادئ والأخلاق وأنالغاية تبرر أي وسيلة لقمعهم؟ لماذا يؤمن الكل بآراء ماكيافيلي رغم أنه لم يجربهاأحد؟ لم تخضع للتجربة ولا البحث العلمي! لماذا يريد مئات الأشخاص أن يسمعوا سباباوشتيمة مباشرة في حقهم أنهم بالعموم جاحدين وناكري معروف منافقين وجشعين وجبناء؟
-3-
في كتاب البشر: تاريخ مفعم بالأمل للمؤرخ الهولندي روتجربريجمان، يورد تجربة قام بها أحد أساتذة علم النفس مع العديد من طلبته. يطلب منهم اختيارما إن كنا نعيش في عالم يكون فيه الإنسان أنانيًا لا يرى إلا مصلحته، وذكر بالتحديدلو كان هناك حادث أو طائرة على وشك السقوط.. كيف سيكون سلوك الركاب.. ففي أي عالمنعيش.. عالم يتدافع فيه الناس بلسان أنا ومن بعدي الطوفان. أم أن الناس سيساعدبعضهم بعضا. يداري قويهم ضعيفهم ويعطيه أولوية، بل وربما يضحي بنفسه. ما لا يقل عن97 بالمئة من الإجابات تشير إلى أن الناس يؤمنون بأننا نعيش في العالم القاسي الذييسكنه الأنانيون. إلا أن البيانات وأكثرمن 90 بالمئة من الحوادث السابقة التي حدثت بالفعل في عالمنا هذا، تشير إلى أننا نعيشفي العالم الثاني حيث يضحي الإنسان بنفسه لينقذ حتى الغرباء. ويورد برجمان فيكتابه عشرات الحالات والدراسات والشواهد التاريخية التي تدعم هذه الحقيقة فينقلعلى سبيل المثال شهادات الناجين من أشهر حادث غرق في التاريخ التايتنك. يشهدون بأنالفلم لم يعكس حقيقة ما جرى في السفينة بعد إعلام الركاب بأن سفينتهم آيلة إلى الغرق.حسب بعض الشهود أن الهدوء كان يعم بشكل غريب. السكينة غلبت على المشهد. وواجهتبشكل شخصي عندما ذكرت هذه القصة مع أحد الأصدقاء.. صرفنا ما يزيد عن نصف ساعة أنقلله شهادة الناجين.. ويحتج لي بأحداث الفلم ليثبت أن الإنسان في وقت الشدة يتحولوحشًا!
-4-
كتاب آخر في الفلسفة السياسية ربما حظي بسمعة أكبر منالأمير -وقد ذكرته بالمنشور المذكور أعلاه- وهو كتاب اللفايثان لتوماس هوبس. يصفهالعديد بأنه أهم وأعظم ما كتب في الفلسفة السياسية وشأنه شأن أمير ماكيافيلي شوهدفي مكتبات العديد من قادة العالم يصف فيه هوبس الإنسان في حالته الأصلية الطبيعيةقبل الدولة بأنه ذئب لأخيه الإنسان حيث كانت حياته قصيرة وقذرة! لم يضع هذهالبشرية الدنيئة على المسار الصحيح إلى القوة ذات السلطة المطلقة التي وحدها كفيلةبكبح شرور النفس الإنسانية!
-5-
منذ طرح تشارلز دارون نظريته في النشوء والارتقاء التيتنص على البقاء للأقوى. والوسط العلمي يقدم نظريات كثيرة تدعم بشكل غير خال من الأيديولوجيابأن البشر العاقل وصل ونجى للزمن الحالي بسبب أنانيته وشره وبطشه بالبشر الأوائل.إلا أن الآثار والأحافير الأركيولوجية لم تقدم دليلًا واحدًا على أية مجزرة!
-6-
ما الذي يجعل البشر يظنون ظن السوء بإخوتهم البشر؟
-7-
كتبت مجموعة من المقالات المطولة نسبيًا فيما سبق تحملطابعًا مشتركًا وجمعتها في كتاب قصير أطلقت عليه الكلبية السياسية في الكويت،ومنطلقي في ذلك الكتاب كان مختلفًا تمامًا سأتناوله الآن. إلا أن النتيجة واحدة.الكلبية بانتشار كبير في الكويت في الساحة السياسية بشكل خاص، والعامة انعكاسللطبقة السياسية ووسائل الإعلام في أغلب الأحيان. والذي يدفع الإنسان ليتخذ منالكلبية نظرية لكل شيء أمرين إثنين. الأخبار والمنصب.
تشير العديد من الدراسات السيكولوجية إلى ما يعرفبمتلازمة العالم القاسي. أعراض هذه المتلازمة مقترنة بمتابعة الأخبار اليومية. ويصف الخبراء أن الكلبية وكراهية البشر والتشاؤم. والمصابون بهذه المتلازمة أكثر جنوحا للإيمانبأن الإنسان أناني بطبيعته لا يلتفت إلا لمصلحته. وأننا كأفراد لا حيلة لنا لإصلاحهذا العالم، ويميلون للاكتئاب والقلق. وهذه المتلازمة غير مقتصرة على الحال عندنا بالكويت،بل أنها واسعة الانتشار في العالم بأسره، إذ يظن معظم البشر أننا متجهين لما هوأسوء في حين أننا نعيش في أغنى وآمن العصور على الإطلاق وأكثرها صحة ورخاء.
-9-
هناك تأثير سحري على من يتقلد المناصب أو من يحوز علىقوة وسلطة وإن كانت اعتبارية. يقول السيد بريخمان أن السلطة تفعل بالإنسان مايفعله البنج. وهذا أمر ليس تعبيرًا مجازيًا ولا صورة شعرية، بل إن البحث العلمييدعم مثل هذه الادعاءات إذ رأى باحثين أن مناطق في أدمغة أصحاب السلطة متعطلة. هذهالمناطق هي المسؤولة عن التعاطف التي يسمونها بميكانزم المرآة. نجنح نحن البشرالطبيعيين الذي لم يبتلنا الله بسلطة بعد إلى التأثر بالذي يجلس أمامنا فيكون بينمشاعرنا كالمرآة نحزن ونبكي مع من يشكي سوء حاله، ونضحك ونفرح لفرحه. إلا أن السادةالمدراء تتعطل عندهم هذه الآلية البشرية الخالصة. وهناك العديد من التجارب التيتدرس تأثير السلطة الحقيقية والاعتبارية على الأفراد. حيث وجدت دراسة تأثير السياراتالفارهة على سلوك أصحاب السيارات الفارهة، ولا داعي للتأكد من صحة هذه الدراسة فإننانرى أثرها بشكل يومي عما يستشعره أصحاب هذه السيارات من استحقاق فهم أكثر منيتساهل من الوقوف في المواقف المخصصة لذوي الإعاقة. وهذا الشعور بالاستحقاق يظهربتجربة أخرى فريدة يوردها بريخمان في كتابه يطلق عليها "كوكي مونستر"نسبة إلى الشخصية الشهيرة. وهذه التجربة يتم تشكيل مجموعة من الفرق وتعيين قائدلكل منها. تكون الفرق مكونة من ثلاثة أشخاص ويقدم لهم في صالات الانتظار خمسة قطعمن البسكويت "كوكيز" جميع المجاميع تركت قطعة واحدة لم يأكلها أحد بدافعالاتيكيت. إلا أن كل المجاميع يأكل القائد القطعة الرابعة! وهل يمكنك تخمين ماالذي تخلفه القوة والسلطة في نفوس أصحابها. الكلبية. هل هذا يعني أن جميع القيادينورؤساء الأقسام مبتلين بهذا الداء؟ طبعا لا. إلا أنهم كلهم حتما معرضين له ومن لا يملكوعيا بذاته ومراقبة حثيثة لتصرفاته لا يأمن على نفسه الانزلاق في سوء الظن والسماتالسوسيوباثية.
-10-
إن النظرة الكلبية المتوجسة من الإنسان هي من أدت إلى ظهورأسس الرأسمالية وروادها هم من قدموا لنا نموذج الإدارة الميكروبية التي تتدخل فيكل صغيرة وكبيرة. مسؤول عملت تحت إمرته وضع كاميرات عديدة في مقر عملنا بنظاممنعزل عن النظام الأمني العام. ولم يتحرج أن يبين أنه على اطلاع بكل صغيرة وكبيرة.ذات يوم اتصل على أحد الزملاء وقال له بطريقة دراماتيكية أنظر فوقك هذه الكاميرا..إني أراك من الشاشة. ما الذي يدفع رجل من القيادات الوسطى في الدولة بأحد المنشآتالحساسة الذي يفترض أن يكون مسؤولا عن أمر كبير جدا- توليد الكهرباء في هذه الحالة-أن تتكون لديه الإرادة والجرأة والفراغ الكافي ليراقب عامل يشرب الشاي في الورشةفي غير الوقت المخصص؟ هذه هي النماذج من المدراء والمسؤولين الذين يجلسون فيما بينهمليقولون لبعضهم أنهم يبلون البلاء الحسن! والميل واضح وكبير في المدراء أنهميتخندقون ضد الموظفين وإن كان الموظف ممن يعملون تحت مدير منهم إلا أنه سيكون فيصف المدراء. وهذا مما لمسته وأقوله بين زملائي تندرًا إلا أنه يبدو علميًا أكثرمما أتصور. وهذا التخندق لا يخدمهم في النيل من الموظفين بل يعزلهم عن العالم والحقيقة.(يوس دي بولك)
هناك فجوة كبير بين المدير والموظف الذي يباشر العمل والقيادات.وكلما صعدت في سلالم القيادة فإن هذه الفجوة تتفاقم أكثر فأكثر.
-11-
هناك أزمة ثقة بين مجلس الخدمة المدنية والموظف الكويتي.وهذه الأزمة لا تعدو كونها تشاؤم وكلبية ناشئتين عما بيناه أعلاه. وأزمة الثقة هذهللإنصاف تمتد لتصيبنا نحن لم نثق ببعضنا بعضًا. وكلنا مخطئون في هذا الأمر. نتفقونعرف جميعًا أن هناك تسيب وسوء استغلال للسلطة في العديد من الدوائر الحكوميةوتفنن الكثير من الموظفين من ابتكار وإبداع للتملص من الحضور لمقار عملهم.
يوس دي بولك أحد أشهر الأسماء في عالم الإدارة في القرنالحادي والعشرين ابتكر معادلة زادت إنتاجية مؤسسته الطبية وضاعفت مستويات رضا موظفيه.ما الذي عمله؟ ألغى المناصب الإدارية واستعاض عنها بفرق صغيرة تقوم بمهام محدودةوتتعاون فيما بينها. ويرى أنه من السهل أنتصعب الأمور، وإن تسهيل الأمور غاية في الصعوبة!
جان فرانسو زوبريست له فلسفة مميزة في مقر عمله. استراتيجيةبسيطة ومباشرة. إذا عاملت الناس على أنهم أهل للثقة فإنهم سيتصرفون على هذاالأساس.
الثقة. بعدها لا تهم إن كانت بصمة ثالثة أو تاسعة.


