ذكريات من معارض الكتب!
خلال حفل توقيع "كشكول الحياة" بعرض الدوحة للكتاب 2020
لمتكن معارض الكتاب بالنسبة إلي مجرد أسواق لبيع الورق، لكنها كانت عوالم صغيرة تفيضبالحلم والدهشة واللقاءات التي لا تنسى، أشبه بمواسم صيد الغزلان، حيث تنبت الكتبعلى الرفوف كما تنبت الأزهار في الحدائق، ويصبح الهواء أثقل بالمعرفة وأخف بالفرح.
أولالمعارض التي علقت في ذاكرتي كانت معارض القاهرة الدولية أيام دراستي بالقاهرة. كانتتلك السنوات محطات مهمة وشائقة من العمر، حملت منها رائحة الورق وأصوات الباعةوضحكات الأصدقاء، ورغبة عارمة في أن أمتلك الدنيا كلها بين دفتين.
كنتأتجول بين الأجنحة كما يتجول طفل في متجر حلوى، أضع ميزانيتي الصغيرة في جيبي،وأحاول أن أشتري بها ما لا يشترى. كانت المنحة تتأخر، والأسعار ترتفع، ورفوف الكتبتغويني كأنها كنوز من زمن غابر.أتذكر أول نسخة من ديوان أبي الطيب، ومن حديث الأربعاء لطه حسين، ومن القاموسالعملاق Longman Language Activator.
أتذكرتلك اللحظات كأنها عيد صغير، فقد كنت أراها بوابة إلى عالم جديد ومثير، أقلبصفحاتها كمن يتعرف على القارة الأولى في حياته.
وأتذكركيف أغرمت بدواوين نزار قباني، وخصوصاً الأعمال السياسية، تلك التي كانت تتنفسبمرارة زمنها وتمرد شاعرها. كانت قصائده تربكني وتحرضني وتشعل شيئاً في داخلي لمأكن أعرف له اسماً بعد.
ومنأجنحة دار الهلال خرجت محملاً بترجمات لأسماء كنت أتهجاها ببطء: دوستويفسكي،تولستوي، نوبوكوف... كنت أفتح كتبهم كما يفتح باب على قارة بعيدة، وأغلقها وقد تغيرشيء في نظرتي إلى الإنسان والعالم والمصير.
ثمهناك مرتعي ومجر عوالي، أي سور الأزبكية حيث الكتب المستعملة الرحيمة بجيوبنا نحنالطلبة، وفيها يجد الباحث مبتغاه وربما عدت بكتاب عليه إهداء أو عبارات حب ولعل شخصاباع كتبه لدواعٍ قاهرة كما عدت الضرورة الأديب الفالي إلىبيع كتاب الجمهرة فكتب أبياته الشهيرة:
أنست بها عشرينحولا وبعتهاوقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها
ولوخلدتني في السجون ديوني
ولكن لعجز وافتقار وصبية
صغارعليهم تستهل شؤوني
وقدتخرج الحاجات يا أم مالك
كرائممن رب بهن ضنين..ويقال إن تلك النسخة وقعت في يد الشريف المرتضى فأعادها إليه مع ثمنها.وفي سور الأزبكية ربما صادف المرء أشياء من هذا النوع.
وعندشراء الكتب المستعملة أشعر دائماً أن بين دفّات تلك الكتب أنين من مروا قبلي،وبصماتهم الخفية على الورق.
معرض الدوحة الدولي للكتاب 2020فكنتأعود من المعرض مثقلاً بالكتب وخفيفاً من الهم، كأنني اشتريت خلاصاً مؤقتاً من ثقلالعالم. أحياناً كنت أشتري الكتاب نفسه مرتين، وأقول في نفسي: “لا بأس، ستكونواحدة للقراءة، وأخرى للهدايا.”
معمرور السنوات صرت أضع خطة لكل معرض أزوره: يوم أول للاستطلاع، ويوم ثان للاقتناء،ويوم أخير للمساومات والصفقات الرخيصة، حين تحاول دور النشر التخلص من أثقالها قبلالرحيل. كانت تلك اللحظات في آخر يوم من المعرض تشبه وداع صديق قديم لا تعرف متىتلقاه من جديد.
زرتبعد تلك السنوات معارض شتى وأقمت حفلات توقيع لبعض دواويني ولكتاب كشكول الحياة، ولكلمعرض نكهته وسحره. غير أن القاهرة كانت شيئاً آخر، كانت كتاباً مفتوحاً علىالذاكرة، يختلط فيه عبق التاريخ بصوت الباعة ودفء الوجوه. هناك تعلمت أن الكتابليس سلعة تشترى، بل حياة تعاش.
فالكتبيا أصدقاء، ليست أوراقاً تقلب، لكنها مرايا تريك نفسك التي ضاعت منك، وتعيد إليكدهشة الأيام التي كانت تلمع مثل الحبر الطري على الورق.
محمد ولد إمام.


