مكاشفات شخصية: 4- في وداع (عبد الرحمن حسن)
كنت على سجادة الصلاة في المدرسة الابتدائية في الرياض حين تقدم مني (عبد الرحمن حسن). سأل وهو يشير بسبابته نحوي: انت أحمد الشمسي؟
هززت رأسي باستغراب، فقال بثقة: "استعد للمنافسة!".
كان الولد الأسمر العبقري الوافد الجديد إلى فصلي ونحن في الصف الخامس الابتدائي قد سأل – أول ما سأل – عن الذي يحصل على الترتيب الأول في الفصل، فقرر أن يتعرف إليّ على النحو الدرامي الذي يفضله.
هكذا انضم إلينا (عبد الرحمن) وصار زميلا، ولأنه كان أول سوداني أقابله، فقد تعرفت من خلاله لأول مرة على معنى كلمة "زول" التي كان يناديه بها مدرس الرسم. (ربما تكون هذه آخر مرة أصف فيها شخصا بأنه سوداني دون أن أتبعها بكلمة "جنوبي" أو "شمالي")
لكن الزمالة وحدها لا تليق بدخول درامي كهذا، سرعان ما اقتربت أكثر منه، ودخلت بيته بعد يوم دراسي، وهناك قدمني صديقي إلى "كومودور"! جهاز الكمبيوتر الذي قضينا أوقاتا كثيرة نكتب له برامج بلغة البيسيك. وربما يذكر (عبد الرحمن) برنامج "سراييفو".
شكلنا فريقا كمبيوتريا بامتياز. كان مدرس الكمبيوتر في المدرسة يطلب من كلينا أن نكتب برامج البيسيك على سبورة الفصل، كنا نتسكع في مول (الصالحية) بحثا عن برنامج جديد أو تقنية مختلفة، أدمنا قراءة الـ PC Magazine، وكنا نقضي يوما طويلا في انتظار السماح لنا بدخول معارض الكمبيوتر الكبرى في الرياض، التي جربنا من خلالها OS/2 Warp و Windows 95 لأول مرة. (الآن فقط ألتمس العذر للقائمين على هذه المعارض، لماذا سأسمح لأطفال في الإعدادية بدخول معارض الكمبيوتر في الوقت الذي ينشغل فيه أقرانهم بلعب الكرة في الشارع؟).
وبعد أن تعثر مصادفة بـ Visual Basic اتصل بي يخبرني في مكالمة تليفونية عن البرنامج العبقري، ثم حصلنا على نسخة منه ليصبح إدماننا الجديد، وكتبنا بعدها "مفكرة الواجبات اليومية لويندوز".
(عبد الرحمن) هو صديقي طالب الإعدادي الذي اتهمه أستاذ التاريخ بأن فكره "ملوث" حين واجهه بظلم المقارنة التي أجراها بين الفتوحات الإسلامية والغزوات الصليبية على سبورة الفصل، وهو الذي أحرج المدرس السوري الذي قال إنه جاء من سوريا ليربي أجيالا، فسأله بخبث: "هو سوريا ما فيهاش أجيال يا أستاذ؟".
(عبد الرحمن) هو صديقي الذي سيّر حياته على مزاجه، ولم يدعها تسيره هي على مزاجها، التحق بكلية الهندسة رغم أنه حصل على مجموع أعلى، وعمل في مجال البرمجة رغم أنه ليس تخصصه الدراسي، عمل في "اللي بيفهم فيه" على حد قوله، ولم يرغب في أن يعمل في الطب لأنه "ما ينفعش تبقى فيه حاجة في شغلي ما بعرفش اعملها، سواء لأني جاهل بيها، أو لأن الإيدز مثلا مالهوش علاج".
وهو الآن وبعد أن أعطاه القانون الجنسية المصرية مؤخرا، يترك لهم البلد ليعمل في بريطانيا، رغم أن البرمجة في مصر "سوقها ماشي" لكنه لا يمكن أن ينتظر أن تنهار كما ينهار كل شيء هنا، وهنا لن ينصلح أبدا لأن "تاريخ مصر عمره ما كان أحسن من كده"، وهو – كما يقول – لا يستطيع أن يدعي الوطنية لأنه "مواليد هناك، وعايش هنا، وجذوره تنتمي لحتة تانية خالص".
يسافر (عبد الرحمن) خلال أيام، ويترك عندي شعورا يماثل ذلك الذي كان عندي منذ عشرة أعوام حين تركت الرياض عائدا إلى مصر، شعور بأني أفقد أصدقائي، لكنني مصمم على أن أحتفظ به كصديق، و قد يجمع الله الشتيتين من خلال الهواتف والفيسبوك، وقد يجمعهما على أرض الواقع كما جمعهما منذ سنتين أمام (رابعة العدوية) حين احتضنني (عبد الرحمن) وهو يقول:
- 8 سنين! مش كده؟


