أثير - ما كتبت سعدية مفرح في دلع المفتي
!!...... دلع
عندما جلست معها لأول مرة في حياتي قبل عدة سنوات، قلت لمن عرفني بها بعد أن انتهت الجلسة إنها علبة كبريت على هيئة امرأة، ثم غيرتُ رأيي لاحقاً عندما توثقت علاقتنا وأصبحنا صديقتين؛ إنها قنبلة نووية على هيئة امرأة. لكن هذه المرأة المتفجرة ذاتيا عند اللزوم، ومعظم أوقاتها وظروفها لزوم، على صعيد آخر عبارة عن قلب كبير يكاد لا يسعه جسدها النحيل، وجمال آسر لا تنافسه سوى أناقة لافتة وذوق رفيع في كل شيء وحشرجة صوت تغالبه الدموع الدافقة والضحكات الفائرة.. وروح شجاعة.
أتحدث عن دلع المفتي المرأة المتشظية ما بين بياض الياسمين وزرقة البحر. هكذا تصف نفسها في حسابها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر لتفسر، ربما، لبعض متابعيها سر قلبها المتأرجح ما بين وطنها سوريا ووطنها الإضافي الكويت، مع أن قلب دلع يتسع لخريطة الوطن العربي كله ويفيض عنها ليسع الكرة الأرضية بأسرها.
قبل سنة تقريبا زرت دلع في المستشفى بعد عملية جراحية كانت قد أجريت لها لاستئصال ورم سرطاني من رقبتها الجميلة. لم تكن قد أعلنت خبر مرضها للآخرين بعد، ولم تكن تنوي فعل ذلك، حتى أنها أوصتني وأنا أستعد لمغادرة غرفتها في المستشفى ألا أخبر أحداً بالأمر. ورغم تفهمي يومها لطلبها إلا أنني تمنيت لو أنها استطاعت أن تواجه المرض وتواجه به الآخرين لتعيشه كحقيقة معلنة، فقد كنت مؤمنة أن دلع شجاعة بما يكفي لمحاربة السرطان والانتصار عليه أيضاً. ولم تخذلني شجاعتها. بعد أيام قليلة مرت على زيارتي لها خرجت دلع من المستشفى لتكتب أجمل مقالاتها الصحفية على الإطلاق بعنوان؛ "عزيزي السرطان"، وفيه قررت أن تعلن بشكل لا لبس فيه مواجهة من أصبح منذ تلك اللحظة عدوها الأول والأخير، فدلع امرأة بلا أعداء ولا عداوات على الإطلاق، وأنا كصديقة وزميلة لها أستطيع أن أوكد هذا بشكل تام. إن القنبلة النووية القابلة للانفجار في أي لحظة وبأي شخص تجده أمامها لسبب ما لا تكره أحداً أبداً، وحتى هذا الذي انفجرت للتو في جسده وحولته إلى شظايا بشرية سرعان ما تعود لتلملم شظاياه بابتسامة آسرة ولكن بلا ندم. ومن يتابع دلع المفتي في تويتر على سبيل المثال سيعرف نوعية ضحاياها، حيث سيلاحظ فورات الغضب المدمر التي تنتابها عندما تقرأ خبرا عن طفولة معذبة هنا أو إذلال تتعرض له امرأة هناك أو مسن لا يجد ما يحفظ له كرامة الشيب في أقصى بقاع الأرض.. وفي المقابل تجد من يهاجمها بسفالة وغباء لمجرد اختلافها معه في طريقة معيشتها وأسلوبها في الحياة بعيدا عن وصاياه ووصايا أمثاله من ذوي التفكير الإقصائي والعنصرية المتعددة الأشكال والألوان، فصحيح أن دلع عربية الهوى والانتماء قومياً وسياسياً، إلا أن إنسانيتها عابرة للقارات والمحيطات والأديان والطوائف والأعراق والجنسيات.
في مقالها الذي أزعم أنها كتبته بدمها ودموعها لا بالحبر أو لوحة المقاتيح واجهت "أم فهد" المرض الذي اختار غدة من غدد جسدها النحيل ليستقر فيه بقوة وشراسة؛ "عزيزي السرطان.. بداية وقبل كل شيء.. لعنة الله عليك. ربما حضرتك لا تعرفني جيدا، فلقد التقينا منذ مدة قصيرة فقط. انا لا أحب كثرة الحكي وأكره «اللت والعجن»، فدعني أقولها لك على بلاطة: لست مستعدة للرحيل بعد..". هكذا باغتت السرطان اللعين ساخرة من تسلله الجبان إلى جسدها في غفلة من ابتسامتها الطالعة من بين موجات الغضب كنيزك مضيء. وعلى سبيل التحدي مضت تعدد لهذا المرض الذي أسمته "سريطن" إمعانا في استهتارها بنواياه الخبيثة أحلامها وطموحاتها ومشاريعها التي ما زالت في طور العمل على تحقيقها.
عندما أغلقت دلع باب مكتبي في جريدة القبس علينا لتسر لي أنها تأكدت قبل قليل فقط من إصابتها بالسرطان بعد ظهور نتائج الفحوصات في ذلك اليوم، لم أعرف لحظتها ماذا أقول لها، فلست ممن يجيدون المواساة ولا التخفيف عن المرضى. كنت متأكدة أنها تعرف كل العبارات التقليدية التي تقال في مثل هذه الظروف عادة، وهي تنفر كما أنفر من كل تقليدي معتاد، فلم أجد سوى الصمت المعطر برائحة فنجاني قهوة ساخنين ودمعة عصية وحضن كنت أحتاجه أكثر من حاجتها له. غيرتُ بعدها مجرى الحديث كله لأسألها سؤالي المشاكس الأثير: "ومتى تعلنين اسمك الحقيقي للقراء؟ يعني مو معقول المفتي يسمي بنته دلع"! فانفجرت القنبلة النووية في وجهي لحظتها، وهي تقول: "أي روحي يبعتلك حمى..!". وكانت أحلى دعوة أسمعها في حياتي:)
نشر في 27/01/2015
http://www.atheer.om/Article/Index/9105
عندما جلست معها لأول مرة في حياتي قبل عدة سنوات، قلت لمن عرفني بها بعد أن انتهت الجلسة إنها علبة كبريت على هيئة امرأة، ثم غيرتُ رأيي لاحقاً عندما توثقت علاقتنا وأصبحنا صديقتين؛ إنها قنبلة نووية على هيئة امرأة. لكن هذه المرأة المتفجرة ذاتيا عند اللزوم، ومعظم أوقاتها وظروفها لزوم، على صعيد آخر عبارة عن قلب كبير يكاد لا يسعه جسدها النحيل، وجمال آسر لا تنافسه سوى أناقة لافتة وذوق رفيع في كل شيء وحشرجة صوت تغالبه الدموع الدافقة والضحكات الفائرة.. وروح شجاعة.
أتحدث عن دلع المفتي المرأة المتشظية ما بين بياض الياسمين وزرقة البحر. هكذا تصف نفسها في حسابها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر لتفسر، ربما، لبعض متابعيها سر قلبها المتأرجح ما بين وطنها سوريا ووطنها الإضافي الكويت، مع أن قلب دلع يتسع لخريطة الوطن العربي كله ويفيض عنها ليسع الكرة الأرضية بأسرها.
قبل سنة تقريبا زرت دلع في المستشفى بعد عملية جراحية كانت قد أجريت لها لاستئصال ورم سرطاني من رقبتها الجميلة. لم تكن قد أعلنت خبر مرضها للآخرين بعد، ولم تكن تنوي فعل ذلك، حتى أنها أوصتني وأنا أستعد لمغادرة غرفتها في المستشفى ألا أخبر أحداً بالأمر. ورغم تفهمي يومها لطلبها إلا أنني تمنيت لو أنها استطاعت أن تواجه المرض وتواجه به الآخرين لتعيشه كحقيقة معلنة، فقد كنت مؤمنة أن دلع شجاعة بما يكفي لمحاربة السرطان والانتصار عليه أيضاً. ولم تخذلني شجاعتها. بعد أيام قليلة مرت على زيارتي لها خرجت دلع من المستشفى لتكتب أجمل مقالاتها الصحفية على الإطلاق بعنوان؛ "عزيزي السرطان"، وفيه قررت أن تعلن بشكل لا لبس فيه مواجهة من أصبح منذ تلك اللحظة عدوها الأول والأخير، فدلع امرأة بلا أعداء ولا عداوات على الإطلاق، وأنا كصديقة وزميلة لها أستطيع أن أوكد هذا بشكل تام. إن القنبلة النووية القابلة للانفجار في أي لحظة وبأي شخص تجده أمامها لسبب ما لا تكره أحداً أبداً، وحتى هذا الذي انفجرت للتو في جسده وحولته إلى شظايا بشرية سرعان ما تعود لتلملم شظاياه بابتسامة آسرة ولكن بلا ندم. ومن يتابع دلع المفتي في تويتر على سبيل المثال سيعرف نوعية ضحاياها، حيث سيلاحظ فورات الغضب المدمر التي تنتابها عندما تقرأ خبرا عن طفولة معذبة هنا أو إذلال تتعرض له امرأة هناك أو مسن لا يجد ما يحفظ له كرامة الشيب في أقصى بقاع الأرض.. وفي المقابل تجد من يهاجمها بسفالة وغباء لمجرد اختلافها معه في طريقة معيشتها وأسلوبها في الحياة بعيدا عن وصاياه ووصايا أمثاله من ذوي التفكير الإقصائي والعنصرية المتعددة الأشكال والألوان، فصحيح أن دلع عربية الهوى والانتماء قومياً وسياسياً، إلا أن إنسانيتها عابرة للقارات والمحيطات والأديان والطوائف والأعراق والجنسيات.
في مقالها الذي أزعم أنها كتبته بدمها ودموعها لا بالحبر أو لوحة المقاتيح واجهت "أم فهد" المرض الذي اختار غدة من غدد جسدها النحيل ليستقر فيه بقوة وشراسة؛ "عزيزي السرطان.. بداية وقبل كل شيء.. لعنة الله عليك. ربما حضرتك لا تعرفني جيدا، فلقد التقينا منذ مدة قصيرة فقط. انا لا أحب كثرة الحكي وأكره «اللت والعجن»، فدعني أقولها لك على بلاطة: لست مستعدة للرحيل بعد..". هكذا باغتت السرطان اللعين ساخرة من تسلله الجبان إلى جسدها في غفلة من ابتسامتها الطالعة من بين موجات الغضب كنيزك مضيء. وعلى سبيل التحدي مضت تعدد لهذا المرض الذي أسمته "سريطن" إمعانا في استهتارها بنواياه الخبيثة أحلامها وطموحاتها ومشاريعها التي ما زالت في طور العمل على تحقيقها.
عندما أغلقت دلع باب مكتبي في جريدة القبس علينا لتسر لي أنها تأكدت قبل قليل فقط من إصابتها بالسرطان بعد ظهور نتائج الفحوصات في ذلك اليوم، لم أعرف لحظتها ماذا أقول لها، فلست ممن يجيدون المواساة ولا التخفيف عن المرضى. كنت متأكدة أنها تعرف كل العبارات التقليدية التي تقال في مثل هذه الظروف عادة، وهي تنفر كما أنفر من كل تقليدي معتاد، فلم أجد سوى الصمت المعطر برائحة فنجاني قهوة ساخنين ودمعة عصية وحضن كنت أحتاجه أكثر من حاجتها له. غيرتُ بعدها مجرى الحديث كله لأسألها سؤالي المشاكس الأثير: "ومتى تعلنين اسمك الحقيقي للقراء؟ يعني مو معقول المفتي يسمي بنته دلع"! فانفجرت القنبلة النووية في وجهي لحظتها، وهي تقول: "أي روحي يبعتلك حمى..!". وكانت أحلى دعوة أسمعها في حياتي:)
نشر في 27/01/2015
http://www.atheer.om/Article/Index/9105
Published on January 28, 2015 07:41
No comments have been added yet.
لكلٍ هويته
مجموعة من المقالات التحقيقات واللقاءات التي نشرت لي في القبس الكويتية.
- دلع المفتي's profile
- 138 followers

