What do you think?
Rate this book


280 pages, Paperback
First published October 8, 2010
"استحوذت عليّ حقيقة أن كل ما يشتريه لنا أبي كان بفضل الموت وحتى ما نأكله كان الموت هو الذي يشتريه لنا."
كنا نستقبل الحروب كمن يستضيف زائرًا يعرفه تمام المعرفة فيهيئ له كل ما يمكن لتكون إقامته خفيفة.

و قال لى بصوت بدا كأنه قادم من بعيد: قم يا جواد و اكتب الأسماء كلها. استغربت انه يعرف اسمي. نظرت إلى عينيه الغائرتين و كانتا بلون سماوي غريب. كان وجهه يزدحم بالتجاعيد كأن عمره مئات السنين. سألته: من أنت و أسماء من؟ فابتسم اجابني بسؤال: ألم تعرفنى بعد؟ هات ورقة و قلما و اكتب الأسماء كلها يا جواد و إياك أن تنسى اسما. انها أسماء الذين سأقطف أرواحهم غدا و أترك لك أجسادهم كي تطهرها.
كنت على وشكّ أن أقول لها إنّها على حق، نوعاً ما، لأني بدأْتُ أكره الجميع بالتساوي؛ شيعة وسنّة، وأنّ كل هذه المفردات تخنقني كأنها مسامير صدئة في رئتي: شيعي، سنّي، مسيحي، صٌبّي، يزيدي، كتابي، رافضي، ناصبي، كافر، يهودي. لو أن بإمكاني أن أمحوها كلّها أو أفخخ اللغة وأعرّيها كي يستحيل استخدام هذه المفردات. لكن حتى حقّ هذا لن يغيّر ما تحمله المفردات وتُشير إليه. وها أنذا أيضاً استخدام لغة التفخيخ والذبح.
قال انه حاول أن يتصل من عمان لكن الهاتف كان ميتا. فقلت له انه ما زال ميتا ينتظر البعث. فقال لى و هو يضحك: ماكو بعث بعد. و ضحكنا.
⭐️⭐️⭐️⭐️
رصاصة في الجبين، خطوط حمراء حول الرقبة، طعنات سكين في الظهر، جسد مقطّع بمنشار كهربائي، جسد بلا رأس، تفنّت في انفجار و و و و. وكان كل اسم يهوي إلى أعماقي ويظلّ صداه يتردد. ولا شيء يمحو الوجوه حتى صارت ذاكرتي دفترًا لوجوه الموتى. أدركتُ ذات يوم وأنا أعود إلى البيت بأنه، باستثناء مَهدَي وأمّي، فأنني كنتُ أعيش أيّامي مع الموتى.
بدأت عشرات الجثث تأتي من كل مكان. دخل بعضها من الباب الرئيسي و البعض الأخر من الباب المفضي إلى الحديقة. و من المخزن أيضا. كان بعضها عاريا إلا من خرقة حول وسطه. البعض الأخر كان مكفنا و يحاول نزع الكفن من حول جسمهو هو يمشي نحو الدكة. و بدأت الجثث تغسل بعضها البعض و تصطف في دوائر حول الدكة تنتظر دورها. ازداد عددها و ملأت المغيسل حتى انه لم يعد هناك مكان لي. فخرجت من المغيسل إلى الشارع لكنني رأيت جموعا حاشدة من الجثث الحية تحيط بالمكان كله تملأ الشوارع والأرصفة.


كانت هناك في الماضي خطوط بين السنة بين الشيعة و بين هذه المجموعة و تلك يسهل عبورها و قد لا نراها و الأن بعد الزلزال تشققت الأرض و أصبحت الخطوط أخاديد ثم أصبحت الأخاديد وديانا امتلأت بالدم يغرق فيها من يغامر بالعبور. و تشوهت صورة من هم على الجانب الأخر من الوادي. و ظهرت من هذه الوديان مخلوقات كانت قد انقرضت أو ظننا بأنها انقرضت. و عادت أساطير قديمة لتغطي الشمس بظلامها ثم لتهشمها حتى صار لكل فرقة و ملة شمسها و قمرها و عالمها الخاص. ثم ارتفعت الجدران الكونكريتية لتختم المأساة.
الفنان العراقي جواد سليمإذا نحن أيضاً تماثيل لكننا لا نفتأ نهشّم بعضنا البعض باسم الذي خلقنا فلربما آن له أن يهشم ما خلق. تماثيل متحفها الدائمي التراب.
⭐️⭐️⭐️⭐️
عجيبة هذه الشجرة. تشرب ماءَ الموتِ منذ عقود، لكنها تظلّ تورق كلّ ربيع وتزهر وتثمر. ألهذا كان أبي يحبّها كثيرًا؛ كان يقول إنّ في كل رائحة حبّة من حبّات الجنّة. لكن الجنّة، لا، بل الجنات كلها، دائمًا هناك، في مكانٍ آخر، والجحيم كله هنا، يكبر يومًا بعد يوم. جذور شجرة الرمان هذه، مثلي، هنا في أعماق الجحيم. يا ترى هل تبوح الجذور بكل شيء؟
للأغصان ام أنها تخبيء عنها ما يوجع؟ ترتفع أغصانها وتبدو حين تداعبها الريح، كأنها تحاول أن ترفرف لتطير. لكنها شجرة. قدرها أن تكون شجرة، وأن تكون هنا.
⭐️⭐️⭐️⭐️
تقول النكتة أن شخصا أسقطته طائرة في مكان به حربا أهلية فتصادف سقوطه أمام أحد الفريقين فبادره أحدهم بسؤال: انت معانا و الا مع التانيين؟ فرد مرعوبا: أنا معاكم طبعا. فقالوا له: بس احنا الناس التانيين. و قتلوه.
انتهت النكتة و لكن لم ينته الواقع العراقي الذي تمدد ليفرد أجنحة الموت على عدة دول أخرى لم يتخيلها سنان أنطون أو ربما تخيلها و كره أن يزيد الألام
" اكاد أسمع الموت يقول : أنا أنا ، لم أتغير أبداً .لست إلا ساعي بريد.
إذا كان الموت ساعي البريد فأنا واحد من الذين يتسلمون رسائله كل يوم. أنا من يخرجها برفق من ظروفها الممزقة المدماة .وأنا الذي يغسلها ويزيل عنها طوابع الموت، ويجففها ويعطرها متمتماً بما لا يؤمن به تماماً ، ثم يلفها بعناية بالأبيض كي تصل بسلام إلى قارئها الأخير : القبر .
لكن الرسائل تتراكم كل يوم يا أبي ؟ أضعاف ما كان يمر عليك حتى في أسبوع كامل يمر علي في يوم أو اثنين ."
"لقد تعبت معظم القلوب فهربت من أجساد أصحابها و تركت خلفها كهوفا تنام فيها الوحوش"
"أما قلبي فقد صار رمانة يابسة تنبض بالموت و تسقط مني كل لحظة في هاوية بلا قرار ..
لكن لا أحد يعرف .. لا أحد
وحدها شجرة الرمان ... تعرف"