يقول الراوي، وهو يلخص علاقته بالضيعة: “الضيعة وأناسها وينابيعها وتلالها وأوديتها وطيورها وطرقها وازدهارها وأشواكها وأحزانها وأفراحها شرشت في نفسي. لا أحد، لا شيء يقتلعها من نفسي. وكلما ذبلت شجرة حياتي، كلما نبتت شجرة أخرى من جذورها العميقة”. أما عن اكتشاف الجنس الآخر، وبمقدار ما تختلس الفتيات النظر إلى الصبية وهم يسبحون في النهر عراة، فإن الصورة التي ترتسم في ذاكرة الفتيان أشد سطوعاً: “حين تسبح الفتيات في النهر بثناياهن وتبتل تلك الثياب، تبزغ خيرات الأرض فعلفه بضباب شفاف” فيتولد الحنين إلى الاكتشاف ويحلق الخيال وهو يصرخ: “ما أجمل غموض الجسد”، وهذا ما يجعل الالتقاء الالتحام يوماً، أمراً حقيقياً لأن “حدس الجسد لا يخون”. “طائر لحوم” رواية متفردة بالغة الرقة والحساسية، إضافة إلى مرآتها في التصدي لعدد من القضايا الشائكة التي تكاد تكون حرمة. هذا عدا عن معمارها الفني الجديد والمتميز. وبقدر ما توغل هذه الرواية في الماضي. بحيث تبدو أقرب إلى سيرة الطفولة، فإنها شديدة الحضور من الراهن، في الهموم المعاصرة، كما لا تغفل عن التنبيه لأخطار المستقبل. لذلك ليس من السهل تضيفها ضمن العناوين السائدة، أو حصرها في إطار ضيق، إنها تذكر وبوح وتأمل، وتصل في أحيان كثيرة إلى مستوى الشعر الخالص، دون أن تنسى خطها الدرامي الذي يجعلها إحدى أبرز الروايات التي صدرت في السنوات الأخيرة.
عالم اجتماع واستاذ جامعي وروائي سوري. ولد في الكفرون في سورية عام 1933 توفي والده عندما كان بسن العاشرة فانتقلت عائلته للعيش في بيروت حيث نشأ. عملت أمه وكافحت لتعيل العائلة وتعلم أبناءها. حصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في علم الاجتماع من الجامعة الاميركية في بيروت ثم دكتوراه في علم النفس الاجتماعي من جامعة متشغن في الولايات المتحدة ( آن آربور) 1966 . له العديد من المؤلفات والمقالات المنشورة.
رواياته القمم الخضراء (1956) الصمت والمطر (1958) ستة أيام (1961) عودة الطائر إلى البحر (1969) الرحيل بين السهم والوتر (1979) طائر الحوم (1988) إنانة والنهر (1995) المدينة الملونة (2006)
دراساته النازحون: نفي واقتلاع (1968) المجتمع العربي المعاصر (1984) حرب الخليج (1992) المجتمع العربي في القرن العشرين (1999) المجتمع المدني في القرن العشرين (2000) الهوية أزمة الحداثة والوعي التقليدي (2004) الاغتراب في الثقافة العربي (2006)
إنتهيت من قراءة رواية طائر الحوم لعالم الاجتماع و الروائي السوري حليم بركات , وهي الرواية التي صنفها اتحاد الكتاب العرب من أفضل مائة رواية عربية و تحديدا في المركز ال51 , بداية العمل لا يصف بالروائي , فهذا الكتاب عبارة عن شذرات من حياة الكاتب مكتوبة بصيغة ادبية متفاوتة ( بعضها مبدع و آخرى شديدة التكلف ) , شذرات تقص مواقف متفرقة من حياته , معظمها تبدى لي وكأنه بكاء على الماضي و استجداء لزمن غابر , و هذه الشذرات , تتدرج في الزمن , و يمكن ان نصفها بأنها محاولة كتابة سيرة ذاتية بإسلوب جديد , فنحن نذهب مع الكاتب في رحلته في هذه الحياة منذ وفاة والده و هو صغير في العمر , و اضطرار والدته للإرتحال الى المدينة , إلى زواجه و هجرته إلى الولايات المتحدة الامريكية , خلال هذه الرحلة , يحمل الكاتب على ظهره كل ذكرياته مهما كانت ذكريات بسيطة و صغيرة , و يظهر للقارىء منذ السطور الأولى مدى ثقل تلك الذكريات على الكاتب , و يرافق الكاتب و القارىء في هذه الرحلة الى الماضي زوجة الكاتب , التي كانت تضفي على حوارات الكاتب الشخصية , بعداً مميزاً , فالزوجة هنا , كانت فائقة الحكمة , و شديدة الواقعية , و كم كنت أتمنى , لو أن الكاتب أزاح أفكاره أكثر لكي نرى أفكار زوجته بوضوح أكبر , ما عاب العمل من وجهة نظري , نقطتين , الاولى كانت مدى تعلق الكاتب الطفولي بذكرياته في قريته و تململه من حياته في الولايات المتحدة الامريكية ( رغم انها ملاذه و خياره ) و نقده الشديد الغير مبرر للمجتمع الذي استقبله و أمن له مستقبله و اعطاه ترف الوقت لكتابة مثل هذا العمل , اما الثانية , فكانت الاجحاف والسطحية في التفسيرات السياسية والتاريخية التي قدمها , والتي كانت شعبوية إلى حد كبير , لدرجة أنك قد تتخيل نفسك تتابع قناة نظام عربي هزيلة تستخف على الدوام بعقل المشاهد , اما ما ميز العمل و سوف اصفه بالسيرة الذاتية , هو الزوجة التي كانت دوماً تجذب الحوار إلى سطح الارض و كانت تصفع الكاتب كلما جال في خاطره بعيداً في عالم الوهم و التململ خاصة حين قالت له " طالما تصر أن تجعل الكفرون ( قرية الكاتب ) المرجع , لن تتمكن أن تبدأ علاقات جديدة وترى نوعا آخر من الجمال , ولو كنت منصفاً ستقودك مقارنتك إلى إعادة النظر ! " , هذا من جهة , من جهة اخرى , تميز العمل بطرح تساؤلات عدة تجعل القارىء يقف عندها متسائلاً عن ما قد يجيب هو نفسه عنها من مثل : أهم ما يجب أن يتعلمه الانسان هو ان يعرف متى و كيف و لماذا يموت , هل أعرف كيف أموت في المستقبل ؟ في اي مستقبل أريد أن اموت ؟ هل ادرك متى يحين وقت الرحيل بأناقة و كرامة و طمأنينة ؟ هل سأتمكن من الوصول الى قرار قبل ان اجتاز ذلك الخط الفاصل فلا أعود أميز بين الخيال و الواقع ؟ , ختاماً تقيمي للعمل 2/5 , ولا أعلم حقيقية لماذا وضع هذا الكتاب في خانة الروايات , ولماذا أقحم اتحاد الكتاب العرب هذا الكتاب على قائمته .
مقتطفات من كتاب طائر الحوم للكاتب حليم بركات ------------ -لماذا تنظر إلي هكذا ؟ - أنظر إلى نفسي فيك . - لم أكن أدري أنني مرآة - أرى نفسي جذع شجرة في وجنتيك المائيتين - جذع شجرة عتيقة تحولت مسكناً للنمل - بل غضن صفصافة يتكون ---------- إسمع زهقت من هذه العيشة , شغل , نوم , قراءة الجريدة , مراقبة التلفزيون , دفع الفواتير , عزائم , طبخ , جلي , إلى متى تستمر هذه العيشة ؟ ما معناها ؟ متى نتمتع بما نملك ؟ غداً لن نملك حياتنا ---------- أحلم أن نتحرر من كل المسؤوليات بما فيها العمل ونسافر الى مختلف انحاء العالم , ولكننا لا نفعل شيئا يستحق الذكر , ننهض صباحا , نشرب القهوة , نقرأ الجريدة , نمضي الى العمل فنغرق في دهاليزه وتفاصيله , ونعود مرهقين فنشرب كأساً , نأكل , نراقب التلفزيون , وننام في مقاعدنا قبل ان نذهب إلى الفراش ---------- حياتنا , مزيد من المآسي , من التفتت حتى يتقاتل الانسان مع نفسه اذا لم يجد من يتقاتل معه , من الكفاح العبثي , من الانهزامات التاريخية , من الانحدار الى مستويات من الهزال لم نكن نتصور انه يمكن الوصول إليها ---------- الانسان هو المسؤول عن انقاذ الآلهة كما كان مسؤولا عن خلقهم ---------- أهم ما يجب أن يتعلمه الانسان هو ان يعرف متى و كيف و لماذا يموت , هل أعرف كيف أموت في المستقبل ؟ في اي مستقبل أريد أن اموت ؟ هل ادرك متى يحين وقت الرحيل بأناقة و كرامة و طمأنينة ؟ هل سأتمكن من الوصول الى قرار قبل ان اجتاز ذلك الخط الفاصل فلا أعود أميز بين الخيال و الواقع ؟ ---------- ندم أنه لم يتزوج , ولكنه من ناحية اخرى يشعر بالارتياج لانه لم يتسرع و يتزوج لمجرد انه سافر ليتزوج , ادك ان هناك خطأ ما , فقد وجد نفسه في جو غير طبيعي , يبحث عن عروس كما يبحث عن شقة يستأجرها , ليس هذا ما يريده لنفسه , اراد ان يكون زواجه عفوياً , ان يقع في الحب اولا , لا ان يقع في الزواج فجأة و دون مقدمات ثم يحاول ان يخلق الحب خلقاً ---------- الموت هو نهاية الذين ماتوا وليس الذين مايزالون أحياء ---------- رائع ان نشرف على المدينة من هذا العلو الشاهق , كفانا الغرق في التفاصيل والاجزاء , رائع ايضاً , بل من الضروري , ان نراقب الشكل العام , ان نكتشف العلاقات بين الاشياء , و كيف تلتقي و تكون صورة مذهلة فتتحول الى كائن جديد هو ابدع من الاجزاء و اهم , الحقيقة ليست العناصر منفردة بل العلاقات فيما بينها , طبعا مثل هذا القول ينطبق على الافراد و المجتمع . ---------- نستهضم نحن العرب الاجنبي اذا ما حاول ان ينطق بالعربية ولو جاءت كلماته مشوهة , و نحاسب انفسنا بقسوة فنسخر من احدنا اذا اقترف خطأ صغيراً عندما يتكلم الانجليزية او الفرنسية ---------- - لن نتوقف عن الحب , لن نترك انفسنا تتجاوز الحدود التي لا يمكن بعدها ان نسيطر على حياتنا اتمنى الا نترك أنفسنا - كيف ندرك اننا نقترب من الحدود ؟ - ارجو ان ندرك , لم نختر ولادتنا , على الاقل يجب ان يكون بإمكاننا ان نختار موتنا - أرى حوارنا غريباً - انت على حق - من ناحية اخرى نكبت دائما تساؤلاتنا الحرجة - نعيش حالة شعرية عابرة , وطالما نعيشها لا اجد ضرورة للعودة الى الواقع و التحليل , لنتمتع بها فقط ,كم مرة في العمر نفلت من دورة الواقع - في حالتك يجب أن تسأل كم مرة تعود الى الواقع - الحلم الواقع , ما الفرق بينهما , ليس هناك حدود فاصلة , ربما كلاهما وجه للحقيقة ---------- اعتدنا ان نسلك الطريق السليمة , نتجنب المغامرات حتى تفرض علينا فرضاً ---------- أكاد أصل إلى شفير البكاء , وضع محزن حقاً , بالنسبة لي , لم أبك منذ زمن بعيد , أظن أنني تجاوزت مرحلة البكاء , آه من القهر , ان تكون في حفرة رطبة وحدك ودون وعد بالخلاص شيء يمزق قلبي , أحس بألم داخل دماغي و في صدري و معدتي , تعبنا من الهجرة ---------- طالما تصر أن تجعل الكفرون ( قرية الكاتب ) المرجع , لن تتمكن أن تبدأ علاقات جديدة وترى نوعا آخر من الجمال , ولو كنت منصفاً ستقودك مقارنتك إلى إعادة النظر ! ---------- هم إقتلعوا أنفسهم من مجتمعاتهم السابقة ولم يلتفتوا إلى الوراء , فأصبح بإمكانهم أن يبدأوا انقياء ----------- أفكر منذ مدة ان في المجتمع الامريكي نزعة قوية للتأكيد على اهمية الكيف او البسط , ولكنه كيف دون سعادة , إنه مجتمع كيف دون سعادة , وهو مجتمع كيف بمعنى آخر , لان الامريكي يسأل دائما كيف يفعل شيءا ما وليس لماذا يفعله , تنتهي كلمة لماذا في الطفولة و تحل محلها كلمة كيف , كيف تصبح غنيا ؟ كيف تنجح ؟ كيف تتمتع بالجنس ؟ كيف تغازل زوجتك ؟ كيف تكون سعيداً ؟ ----------- كيف أجرؤ أن أغضب وسط كل هذا الفرح الشاسع , وسط هذا الجمال الساحر , وسط هذه الطمأنينة الكلية , لماذا انا مسكون بالقضايا مأخوذ بها , منذور لها حتى في وسط هذه الروعة ؟ لماذا استدعي المسحوقين من سكينتهم بقدر ما اتمتع بالفرح والجمال والطمأنينة ؟ ليست الحياة فرحا و جمالا وطمأنينة ما لم اشاركها الآخرين , عبثا احاول ان اتحرر من الاهتمامات , امتلئي يا نفسي بالقضايا , مثلك يا طائر الحوم رحيلي الدائم وولادتي بعد كل موت -----------
رواية، أو السيرة الذاتية الروائية لحليم بركات، طائر الحوم، هي رواية مدهشة، تستحق فعلاً قراءةً متمعّنة، حيث أنها فعلاً مدهشة.. حلیم بركات ھنا یتجول في واشنطن مع زوجته أو كما سماھا حبیبته، بدایةً من تمثال جورج واشنطن وما وراءه، من مبنى الكونغرس وجميع الرمزيات التي تتصل بالتاريخ الأمريكي وبالقادة الأمريكان من عقود طويلة، وصولًا إلى المناظر الجميلة، حيث يمر على نهر "البويتمك"، مالئًا جولته بالحوارات العمیقة والحمیمة التي یخوضھا مع حبيبته، متأملًا - بل شاعرًا- بجمالیات ما حوله، مستذكرًا بذلك كله الذاكرة الطويلة الملیئة بعبق عروبته وكما یقول “جذوره” التي لم يتمكن من التخلي عنھا في قريته "الكفرون"، والتي یقدمھا بلغة شاعرٍ مرھف، ومصورٍ یتقن موسیقى الكلمات كي یقدم لوحةً فنیةً ملیئةً بكل شيء.. لغته هنا تتجاوز اللغة الروائية كي تصل إلى دمجٍ بين القصيدة والرواية، وتوهمك، لشدة دقتها وإتقان مفرداتها، أنك تعيش بداخل صورة فوتوغرافية متقنة، يحلّق من خلالها حليم بركات إلى خيالٍ بعيد، مرتبط كل الارتباط برومانسيته وجمالية نصه.. یستلھم حلیم بركات ھنا رومانسیته وإنسانیته واعتراضه على كل مظاھر الحداثة الزائفة التي تقصي القیم العليا التي یؤمن بھا.. معترضًا على بربریة من تتھم الآخرین بالبربریة، غیر آبهٍ بكل التاریخ الذي أمضاه فیھا متنعمًا بخیراتھا، وذلك من خلال الكثير من البوح الشاعري والروائي الذي يستلهمه من المشاهد التي يعيشه في حاله هناك، متّخذًا من الطيار الذي أسقط القنبلة النووية على هيروشيما، وتصريحه غير النادم والمزعج، رمزًا لمظاهر الزيف الحضارية والوطنية هذه التي باعت القيَم.. حليم هنا حالم، ويعرف بحلمه، حيث ينتهي بعد كل هذا النقد مخاطبًا نفسه: "أهنئك على هذه الانتصارات الوهمية يا دون كيشوت"، وهو يعرف من هو دون كيشوت جيّدًا.. يتخذ حليم في هذه الرواية رمزيّةً فائقة الجمال، تتمحور حولها الرواية، وهي صورة طائر الحوم الذي عاش معه لحظات الحالم والشاعر المرهف حين يرسم سربه لوحاته على مرأىً من حليم، في حين أن هذا الطائر مرمىً للصياد، في قريته التي تضج بمظاهر البدائية، "الكفرون"، حيث يعيش مع بدائية أمه وغناءات قريته البسيطة، ويقارن ذلك كله بحضارية أميركا، بمثاليّة مفرطة، وجميلة جدًا بإفراطها.. حلیم بركات، والذي اشتهر مفكرًا – أو هكذا أظن -، وعالمَ اجتماع، ھنا ھو الصوت المتمرد على كل أصوات الواقعیة العقلانية، مقدمًا في آخر الثمانینات ( 1988) تحفة روائیة رائعة، تتجاوز القوالب المجهّزة لأشكال الرواية، وتقدّم روايةً مميزةً مختلفةً عن غيرها.. كما قال أدونيس، وكما قال الكثير من قرّاء الرواية، هذه الرواية تشجّع على كتابة الرواية بالفعل!
لا أعتقد أنه يمكن تصنيف هذا الكتاب على أنه رواية، فهي سيرة ذاتية للكاتب مع بعض الآراء الثقافية والسياسية من هنا وهناك. كانت جيدة في بعض الفصول ولكن مملة وبلا هدف في فصول أخرى.
هذه الرواية تمثلني ، هذا النوع من الروايات أحبه جدا ، صادقة عفوية جريئة و واقعية ، ولا تلتزم بسياق محدد للأحداث ... هذا ما حاولت أن أفعله في روايتي (صوت الغريب) و أرجو أن أكون وفقت في ذلك
حليم بركات المتعب من الغربة والبعد، المتعب من الغرب بسياساته وظلمه وفجاجته في تأويل الحقائق واستباحة الشعوب، ينسج من ذكرياته في الكفرون أجنحةكأجنحة طائر الحوم، يملأ نسيجها بأمه وأبيه وإخوته وسيرة الفقر والتشرد والجوع والحاجة، يربطها بشخصيات من جيله ومن جيل أبويه، بحوادث ومعالم طبيعية من قريته .. مغلفة بشذرات العتابا والميجنا ، بالكثير منها..
في البداية لم تجتذبني أدواته السردية شعرت بها جافة حادة، ثم وحالما بدأ حنينه وحنانه يطغيان على السطور بعد النصف الأول.. تبيّن أن غضبًا عارمًا كان يقود مسيرة ذكرياته. حالما أنهكه تنفيس غضبه صارت جمله أرق، وأكثر ملامسة للقلب والروح.
مابين ذاكرة أمه التي غارت، وسياسات الرؤساء والحكومات الأمريكية المتعاقبة من مجازر الهنود الحمر مرورًا باضطهاد السود، ثم حرب فيتنام، وليس أخيرًا مساندة إسرائيل في اعتداءاتها واحتلالها لأجزاء من الدول العربية دونما رادع، يتنقل وعيه رغم أنه في رحلة المقصود منها الاستجمام في حضور معالم طبيعية آسرة في أمريكا.
"حياتنا؛ مزيد من المآسي، من التفتت، حتى يتقاتل الإنسان مع نفسه إذا لم يجد من يتقاتل معه، من الكفاح العبثي، من الانهزامات التاريخية، من الانحدار إلى مستويات من الهزال لم نكن نتصور أنه يمكن الوصول إليها."
📖 طائر الحوم – حليم بركات
هذه ليست رواية، بل شذرات من سيرة الراوي من طفولته في الكفرون بسوريا، مروراً بحياته في بيروت، وصولاً إلى المهجر؛ يعني مزيج من الذكريات، التأملات، والمواقف السياسية والاجتماعية.
الذكريات كانت عفوية ومتفرقة، بعضها من الطفولة، وبعضها من تجاربه في الغربة. بعضها كان صادماً جداً، واستغربت جرأته في عرضها، خاصة ما تعلّق ببعض تصرفات الطفولة التي كانت "فضائحية"😬، جعلني هذا أتأمل تصرفات أطفال اليوم في ظل الانفتاح الرقمي وغياب الأهل، خاصة مع ضغوط الحياة وكثرة الانشغال.
أما آراؤه السياسية إلى جانب انتقاده للسياسة الأميركية التي لا تتغير عبر السنوات، فعربياً، هي مرآة لمتاهاتنا: نكرر أخطاءنا، ندور في نفس الدوامة، ولا نتعلم..
ومن أكثر ما أثّر بي في هذا العمل حديثه عن أمه، عن حياتها الصعبة ومرضها في أواخر أيامها، وعن موت أبيه المبكّر وآخر لحظاته، وأبيات العتابا التي أضافها منحت النص حميمية وصدقاً.
استمتعت بقراءة هذه المذكرات، لكنني بصراحة استغربت تصنيفها ضمن أفضل 100 رواية عربية، وهي ليست رواية أصلاً 🤔.
تتكاثر في هذه الفترة، بعد الربيع العربي وموجات الهجرة التي أعقبته، روايات هجرة لا يتصالح شخوصها مع مقامهم في عالمهم الغربي بل ويزدرونه، المأزوم بدوره والذي كان غياب دوره واحدة من العقبات الكبرى لهذا الربيع. ليست بالروايات البوست كولونيالية. ولا بالروايات الأنتي إمبريالية. هي روايات الربيع العربي بوصفه كاشف لقصور وهشاشة المنظومة الديموقراطية الليبرالية. هذه الرواية هي على ما أعتقد الأب الروحي لهذه الظاهرة.
تبدأ الرواية بمقتطفات من حياة الكاتب العادية حيث أنه من الممكن القول بأن الرواية هي سيرة ذاتية مجسدة لحياة الكاتب بمختلف مراحلها تدرجا مذ أن كان طفلا حتى عمره الحالي.يتأسى فيها على سنين صباه التي قضاها في الضيعة وعلى رفاق دربه الذين نشأ وتربى بين أظهرهم . يحمل الكاتب كل هذه الذكريات بين طيات قلبه ويرتحل بها مسافرا من بلد إلى بلد ومن رحلة إلى رحلة مستنشقا عبير هذه الذكريات بين الوديان والجبال والدروب التى يقصدها بهدف الاستمتاع ومشاهدة أماكن جديدة تعيد له ذلك الحنين وتلك الذكريات.
بين الكفرون وما حولها ومدن أمريكا.. يقارن بين طبيعتها ويتذكر تاريخه ويحاول ربط الحاضر بماضي البلادين وجوهر القضايا العربية. وكذا وجود أمه وطائر الحوم بين كل ذلك.
لغة سردية سلسلة… كنت كلما رجعت اليه بعد انشغالي بالحياة أستسيغ سرده
طائر الحوم الصورة الاولى التي ارتسمت في ذاكرة حليم وذكرياته في كفرون, الحنين الى الطفولة والى الامكنة الاولى, وطفولته بين الانهار والينابيع والاشجار وسرب الطيور وبين اهل كفرون تلك الصورة الاولى شرشت في نفسه ومضت معه يحملها في غربها, لم يستطع احد او اي ظرف واي شيء ان يقتلعها من نفسه فكلما ذبلت شجرة حياته كلما نبتت شجرة اخرى من جذورة العميقه الممتده بنفسه, فهذ هي الارض التي اغرقت جذورها متسربلة لاعماقه ودواخله كما في البحيرة المفقودة التي تسكن رؤية طائر فيها كما يقول نيرودا
"الطيور حين تهوى, حين تنظر الى البشر حواليها فانها لا تلتمس عونا ولا تنتظر مساعدة القتلة, فقط تنظر وتظل تنظر وكانها تدين وتتحدى , والطفل الذي يرقب المشهد ويحاول المساعدة وحين يعجز وتنتهي تلك الطيور الى مصيرها المحتوم تتبدى له الكفرون على شكل واد عميق ومع ذلك لا تتوقف الطيور الموسمية عن المجيء ولا تخلف مواعيدها ابدا وكانها تختبر البشر مرة بعد اخرى لتتأكد ما اذا بقوا كما في المواسم السابقة ام هبت عليهم رياح جديدة غيرتهم جعلتهم بشرا من نوع جديد!