"ليس التفكير في الحقيقة كالتفكير في تاريخها لأنّ التفكير في الحقيقة والبحث عنها والكشف عن الطرق المؤدّية إليها شأن يختصّ به أصحاب الديانات والمذاهب الفلسفيّة، أمّا التفكير في تاريخ الحقيقة والبحث في تمظهراتها وأشكال التعبير عنها فعمل يقتضي تحليلا دقيقا لكلّ خطاب يعتقد أنّه يقول الحقيقة أو يكشف عنها. يحاول هذا الكتاب أن يقدّم تحليلا لخطابات عديدة نشأت حول القرآن تريد الكشف عن حقيقته، وهي خطابات تنتمي إلى حقول معرفيّة متنوّعة، بعضها ينتمي إلى الفقه وأصوله وبعضها إلى الكلام والفلسفة وبعضها إلى الحديث والتفسير وبعضها إلى اللغة والبلاغة. وهي أيضا خطابات ظهرت في لحظات تاريخيّة متفاوتة، بعضها يعود إلى القرون الإسلاميّة الأولى، وبعضها إلى ما بعد عصور الازدهار، وبعضها إلى العصور الحديثة. كلّ هذه الخطابات الناشئة حول القرآن يعتقد أصحابها أنّهم يمتلكون المفاتيح اللازمة والضروريّة لاكتشاف ما ينطوي عليه النصّ القرآني من حقائق وأسرار ومنافع وفوائد.
أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحي بن سعيد المعروف ببديع الزمان الهمذاني ، (358 هـ/969 م - 395 هـ/1007 م)، كاتب وأديب من أسرة عربية ذات مكانة علمية مرموقة استوطنت همذان وبها ولد بديع الزمان فنسب إليها، (wiki)
" .. ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعان كأنها قلب عان، ألفاظ استعارت حلاوة العتاب بين الأحباب، واسترقت تشاكي العشاق يوم الفراق .. ألفاظ لها من الهواء رقته و من الماء سلاسته، ومن الشهد حلاوته .. كلام كبُرد الشباب، وبرد الشراب، كلام يهدي إلى القلوب روح الوصال، ويهب على النفوس هبوب الشمال . ألفاظ حسبتها لرقتها منسوخة من صحيفة الصبا وظننتها لسلاستها مكتوبة من إملاء الهوى .. كلام كما هب نسيم السحر على صفحات الزهر، كلام يقطر صرفا و يمزج الراح لطفا، كلام هو سمر بلا سهر، و صفو بلا كدر .."
ربما الوصف أعلاه ينطبق على كلام الهوى والعشق، ولكن أليست اللغة العربية عشقا وهوى ؟ عندما تقرأ المقامات، وترحل مع الجمال وبين الجمال، وتسمع إلى حكايا عيسى ابن هشام، ومغامراته بأسلوب ممتع جدا ولغة لا أملك إلا أن أقف وأسكت، لأنه شتان بين لغتي ولغتهم، وبياني وبيانهم، وصوري وصورهم .. بعد كل قراءة لهذه المقامات ازداد حبا وعشقا لهذه اللغة.
من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي. أنا باكورة اليمن، وأحدوثة الزمن. أنا أدعية الرجال، وأحجية ربات الحجال. سلوا عني البلاد وحصونها، والجبال وحزونها، والأودية وبطونها، والبحار وعيونها، والخيل ومتونها. من الذي ملك أسوارها، وعرف أسرارها، ونهج سمتها، وولج حرتها.
سلوا الملوك وخزائنها، والأغلاق ومعادنها، والعلوم ومواطنها، والخطوب ومغالقها، والحروب ومضايقها. من الذي أخذ مختزنها، ولم يؤد ثمنها. ومن الذي ملك مفاتحها، وعرف مصالحها.
أنا والله فعلت ذلك. أنا والله شهدت حتى مصارع العشاق.
صاحب المقامات ومبتكرها هو أبو الفضل أحمد بن حسين بن يحيى، ولقبه بديع الزمان. ولد في همذان، عام 358 هجرية.
عاني بديع الزمان الهمذاني كثيراً في حياته حتى قال لنفسه متألماً: يا أبا الفضل، ليس هذا بزمانك، وليست هذه بدارك، ولا السوق سوقك. بئست الكتب وما وسقت، والأقلام وما نسقت، والمحابر وما سقت، والأسجاع إذا اتسقت، واللوم ولا هذي العلوم.
والمقامة هي قصة تدور أحداثها في مجلس واحد، لها راوي هو عيسى بن هشام، ولها بطل، هو أبو الفتح السكندري وأبرز میزاته أنه واسع الحيلة ذو مقدرة في العلم والدين والأدب، وهو شاعر وخطيب، يتظاهر بالتقوى ويضمر المجون، ويتظاهر بالجد ویضمر الهزل، وهو يبدو غالباً في ثوب التاعس البائس إلا أنه في الحقیقة طالب منفعة.
يتنكر البطل أبو الفتح السكندري في كل مرة من أجل أن يحتال وينصب ويغدر، يرتدي أقنعة عديدة تخدع أقرب الناس إليه فهو ناقد أديب كما في المقامة القريضية.
ولو شئت للفظت وأفضت. ولو قلت لأصدرت وأوردت. ولجلوت الحق في معرض بيان يسمع الصم وينزل العصم.
وأحياناً نراه بائع دواء كذاب كما في المقامة السجستانية
ولابد لي أن أخلع ربقة هذه الأمانة من عنقي إلى أعناقكم. وأعرض دوائي هذا في أسواقكم. فليشتر مني من لا يتقزز من موقف العبيد .
أو هارب بدينه من بلاد الكفر كما في المقامة القزوينية.
وقد تركت وراء ظهري حدائق وأعناباً. وكواعب أتراباً. وخيلاً مسومة. وقناطير مقنطرة. وعدة وعديداً. ومراكب وعبيداً. وخرجت خروج الحية من جحره. وبرزت بروز الطائر من وكره. مؤثراً ديني على دنياي. جامعاً يمناي إلى يسراي.
أو محترف شتائم كما في المقامة الدينارية.
“يا وطأ الكابوس. يا تخمة الرؤوس. يا ثقل الدين. يا سمة الشين. يا منع الماعون. يا سنة الطاعون. يا بغي العبيد. يا آية الوعيد.
أو مجنون متنبيء كما في المقامة المارستانية
أنا ينبوع العجائب .. في احتيالي ذو مراتب .. أنا في الحق سنام .. أنا في الباطل غارب .. أنا إسكندر داري .. في بلاد الله سارب .. أغتدي في الدير قسيساً.. وفي المسجد راهب”
قال الإمام محمد عبده عنه “فقد عرف الناظرون في كلام العرب. وشهد السالكون في مناهج الأدب. أن الشيخ أبا الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني قد طبّق الأفاق ذكره. وسار مثلاً بين الناس نظمه ونثره. فله الرسائل الرائقة. والمقامات الفائقة. والقصائد المؤنقة. وله المعاني العالية. في العبارات الحالية. والأساليب الساحرة. للألفاظ الباهرة”.
فن ادبي صاغه بديع الزمان الهمذاني قبل الف عام، وتتميز المقامة بانها قصة نثرية مسجوعة ومليئة بالعبارات المنمقة ولكنها صعبة الفهم كما لا تخلو من قصائد شعرية رائعة النظم، وكل مقامة تقع في حاضرة من الحواضر الاسلامية وركز الكاتب على مدن ايران والعراق.
اما عن محتوى المقامات فهي اشبه بنوادر جحا والحكايات التي كانوا يعتبرونها طريفة ومسلية، ويكثر فيها الحديث عن قصص الاحتيال والمكر، من اكثر ما يلفت في هذه المقامات هو اهتمام كاتبها بالادباء والشعراء السابقين فيتذاكر ويراجع اشعار امرئ القيس وطرفة وجرير وغيرهم وكذلك اصحاب النثر مثل الجاحظ وابن المقفع، وتظهر من خلال هذه المقامات صورة بانورامية لحياة الشارع والاسواق في القرن الرابع الهجري، وجدير بالذكر ان الكتاب يعرفنا بانه لم تكن هناك ثمة مشكلة كبيرة بين الفرس والعرب حيث يستغرب القارئ ان هناك حياة وثقافة متصلة ومعايشة طبيعية من اقصى خراسان الى الاسكندرية.
وتوجد شخصيتين رئيسيتين في هذه القصص، اولها عيسى بن هشام وهو الراوي والبطل الاساسي ، وثانيها ذلك الشيخ الغريب وهو شخصية غريبة وذكية وماكرة، يتخفى ويقوم بخداع الناس والحصول على مايريده ، فلا يعرفه عيسى بن هشام الا في نهاية القصة حيث يدقق في ملامحه ويتبدى له فيعرف انه شيخه ابو الفتح الاسكندري.
يحطم الكتاب الصورة الملائكية للازمان القديمة بأنها ازمان تدين وتقوى فقط ، هذا الكتاب لا يذكر اللهو والخمور فقط بل يتبناها فعيسى بن هشام وابو الفتح كلاهما يتجولان بين المسجد والحانة، ويذكر هذا الصراع بين المتدينين والفساق، ونستطيع ان نقول ان الكاتب من حزب ابو نواس،
خيب املي هذا الكتاب فكنت اتوقع ان الكاتب لديه حديث يعرج بالروح، او فلسفة او اي حكمة يريد ايصالها، بالعكس فقد هبط بنا الكتاب الى المحسوسات بشكل فج، بالغ الكاتب في الحديث عن الاكل واحتيال الاموال والمفاخرة والمشاجرات والكلام السوقي الهابط ولم يعف الكتاب عن الكلام البذيء، كان المضمون اقل من عادي ولكن تم زخرفته في تراكيب وعبارات جميلة الوزن والقافية وفي اشعار منظومة باتقان، ولكن ما الفائدة اذا كان الاناء جميلا وداخله ماء آسن.
المقامة البحرينية حدثنا عيسى بن هشام انه عندما وصل بي المطاف الى المنامة واردت الايدامة فذهبت لاحد المطاعم وقلت للبائع انني جائع، فاعطني لحم ولاتكثر الشحم ، فلما تحسست جيبي لم اجد نقودا، ورأيت حولي فاذا بشيخ حسن السيماء يخطب في الناس قد انشأ يقول:
قل للفقير ما انا براحل وما لي من الان الا تضرعي
فقال له الناس ماذا تريد، فقال لهم انا اجمع التبرعات لاولي العبرات، فهلموا وغوثوا المساكين والا فتصبحوا على مافعلتم نادمين، فاذا به قد اخذ دنانيرا كثيرة، ثم خرج متلثما فلحقته وقلت له اخبرني سرك او لاكشف سترك، فازاح لثامه فاذا هو شيخنا ابو الفتح الاسكندري ، وحينها اعطاني مالا يكفيني غدائي وافترقنا. --
مقامات الهمذاني، يمكننا القول أنها أحد الأشكال المبكرة لـ القصص القصيرة، وهي عمل ممتع وعامر بالسجع وذا لغة جزلة ومحكمة مع الكثير من الظرف. في قراءاتي الثانية لها يمكنني القول، أنها مثل كل كتب تراثنا الغنيّ؛ مهما قرأتها أو أعدت قراءتها لن تملّها ولأنها كتبت لتدوم. ~ فجر الإثنين الموافق الثالث من رجب 1445هــ.
كتاب ممتع ممتع ممتع لكنني قرأته على مدار 3 أشهر حذفت منه نجمة فقط لطول الشرح بلا داعي في بعض المقامات و المقامات التالية هي التى أعجبتني أكثر من غيرها المقامة السجستانية : تحكي عن شحاذ حلو اللسان عذب الكلام المقامة الأصفهانية : تحكي عن بطء الأئمة في الصلاة و تسببهم ف المشقة للناس المقامات البغدادية والمجاعية والنهيدية و الأرمنية : تشبه إلى حد كبير قصص جحا و كان يمكن أن ندرس إحداها في المرحلة الثانوية و بالمناسبة المقامة البغدادية تدرس بسوريا المقامة الحلوانية : سبق دراستها في المرحلة الثانوية و كانت غير كاملة و بقيتها لا قيمة لها و لم تضر بالمقامة في شئ المقامتان العراقية و الشعرية : تحكيان عن غريب أبيات الشعر و عجيبها و تحسهما أنهما مقامة واحدة لكن راويهما مختلف المقامة الصيمرية : أطول المقامات ، وأعتقد أنها حقيقة تاريخية و هى لرجل يدعى محمد بن إسحاق المعروف بأبي العنبس الصيمري المقامة الدينارية : شحاذان يتنافسان على أموال الناس فقرر الراوي أن يختبرهما و أمرهما بسب كل منهما الآخر و المجيد منهم سيعطية الدينار
بديعة من بدائع الفصاحة وا��بلاغة، اخترعها بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وهي حكايات لطيفة ممتعة بأسلوب قصصي سردي، تنبني في مغزاها على الجداء والحيلة في اكتساب المال عن طريقه، ويُمزج فيها بين الشعر والنثر.
��قد استمعت إليها صوتياً عبر تطبيق منطوق، بصوت أحد الفصحاء المجيدين، بأداء وإلقاء عالي الجودة.
وكنت قديماً قرأت مقامات أبي القاسم الحريري وشغفت بها حتى أعدتها مراراً، وهي إن كانت الأجود عند المقارنة، غير أن لبديع الزمان قصب السبق، وفضل التقدم، كما قيل: ولو قبلُ مبكاها بكيتُ صبابةً * بسُعدى؛ شفيتُ النفسَ قبلَ التندُّمِ ولكن بكت قبلي؛ فهيّج لي البُكا * بُكاها؛ فقلتُ الفضلُ للمتقدِّمِ
هذا الأثر الرائع بلا شك يستحق الإشادة و بلاغته الفائقة التي عبرت العصور مدعاة للدهشة حقيقةً.
تدور أحداث هذه المقامات - و التي هي عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة المتميزة بأسلوب بلاغي و أدبي رفيع - تدور أحداثها حول قصص تقصها شخصية “عيسى بن هشام” حيث يلعب دور المُحدّث في جميع هذه المقامات و هو كذلك بطل هذه المقامات جميعها ، فهو الراوي و هو من يعيش الأحداث و هو بطل المُقامة و عليه تدور فصول المقامة.
و في الطرف المقابل شخصية بطولية أخرى هي في الغالب “أبو الفتح الاسكندراني” ، هذه الشخصية الفكاهية التي تتميز بالفكاهة و توظف الحيلة في سبيل الوصول لمآربها و غالباً ما تكون تلك المآرب هي الحصول على المال. حيث يلعب أبو الفتح الاسكندراني دور الشخصية الغامضة غير المعروفة سواء بلثام يضعه على وجهه متخفياً و يقوم باستعطاف الناس بلهجة تميزها أدوات البلاغة و الأدب حتى إنهم ليعجبون من متانة أسلوبه وبلاغة عرضه ، فيقدمون له المال و هم راضين بذلك. إلا أن “عيسى بن هشام” يكون هو من يميط اللثام و يكتشف أبو الفتح الاسكندراني في جميع هذه المقامات و يطرح عليه التساؤل عن الذي جعله يقدم على هذا الفعل ، فتكون ردود أبو الفتح الاسكندراني تبرر الحيلة و أهميتها بأسلوب ساخر فكاهي.
و طبعاً اتخذت أسماء المقامات أسماء المدن و الأقاليم التي كانت واقعة جغرافياً تحت حكم الخلافة الاسلامية آنذاك.
و في واحدة من القصص على سبيل المثال : يركب عيسى بن هشام البحر متوجهاً لوجهة بعيدة و تأتي الأمواج تباعاً و الريح شديدة جداً ، فيخشون الغرق و يهلعون ، إلا واحداً من الركاب يرونه هادي البال و عندما يسألونه عن السبب يقول لهم بأن لديه حرزاً يأمن من يلبسه و لكن شرطه أن يعطونه ديناراً الان و ديناراً عند وصول السفينة سالمة حتى يكتب لهم تلك الأحراز فيلبسونها ، و بالفعل ينزلون عند طلبه و يعطونه النقود و عندما تصل السفينة سالمة يعطونه الجزء الباقي - و كمثل كل القصص يكتشفه عيسى بن هشام فيقول له ما الذي حمله على هذا الفعل فيجيب بأبيات شعرية:
ويك َ لو لا الصبر ُ ما كنـــتُ ملأتُ الكيس تبرا لن ينال المجد من ضاق بما يغشاه صدرا ثم ما أعقبني الساعة ما أعطيت ضرا بل به أشتد أزراً و به أجبر كسرا و لو أني اليوم في الغرقى لما كلفت عذرا
حيث يبين بالبيت الأخير أن حيلته كانت قائمة على ذلك الأمل بنجاة السفينة ، و لو غرقت لم يكن هناك من لومه لسبيل لأنها ستغرق بالجميع.
المقامات تمزج بين الشعر و النثر و تنتقل بين الأسلوبين بسلاسة و خفة. و رغم بساطة القصص و كونها تميل للطرافة و الحيلة ، إلا أن يبقى أهم ما يميز هذه المقامات هو الأسلوب الأدبي و البلاغي المتقدم جداً.
من كتب التراث, الجميل فيه انه بيثبتلك ان احنا بنتكلم لغة تانية غير العربي, كتاب متعب جدا المقامة الواحدة على قصرها كنت بقراها مرة و اتنين و تلاتة بالتذييل بتاعها عشان استوعب جمالها فعلا كتاب جميل جدا و مفيد جدا
"دع من اللومِ ولكن أيَّ دكّاكٍ تراني أنا جبّارُ الزمانِ لي من السُّخفِ معاني أنا من يعرفهُ كلُّ تَهامٍ ويماني أنا من كلّ غبارٍ أنا من كلّ مكانِ ساعةً ألزمُ مِحراباً وأخرى بيتَ حانِ!"
لله أنت يا ابن الإسكندرية والثغور الأموية، وليتك تدري كم أغبطك على هذه الحرية، حينما خلعت عنك عذار كلّ غاية وقضية، إلا السعي للأصفر ذي الوجهين، الذي يرقص على الظفر ولا يقرّ في اليدين، أو الناضج الشهيّ المدورّ، سليل العجين الأبيض المكوّر.
لا أدري لماذا تأخرت قراءتي لمقامات بديع الزمان إلى اليوم. قراءة المقامات فريضة على كلّ متأدب، وإنها بلا ريب أنفس مجموعة قصصية عربية أنشأها أديب من الأقدمين! وأشكر من سوداء قلبي كيليطو، الذي ما انفكّ يذكر مقامات البديع في كتبه ولقاءاته حتى استفزني لقراءتها.
كنت مستثقلاً لفن المقامات ولا أرى فيه ما استحقّ من عناية الأولين والآخرين. سجع وإغراب وقصص سامجة في الكُدية والشحاذة، مستمدة في الغالب من بخلاء الجاحظ وأخبار الطفيليين والمُكدّين.
ولكن كما تقول العرب: ليس الخبر كالعيان. ما حسبته تصوراً صحيحاً عن المقامات أحقّ أن يوصف بأنه تقدير الغبي ومعاداة الجاهل. المقامات فنّ من أجمل ما قرأت في التراث العربي، وهي في بنيتها وأسلوبها وغايتها مختلفة تمام الاختلاف عن قصص "كليلة ودمنة" "وأخبار الأغاني" "وأسمار ألف ليلة وليلة" لأنها قصص تضرب بجذورها في المجتمع الإسلامي القديم، وتنطق عن ضمير شعوب الإسلام-الشرقية خصوصاً- في اليمن ومكة وسبل الجزيرة العربية، والبصرة والكوفة وسواد العراق، وهمذان وباقي بلاد الجبل، وسجستان وسائر خراسان، ومراغة وأذربيجان، ودمشق وبغداد. تنطق عن هؤلاء جميعاً، بلسان شخوص ساخرة دوماً، سخريةً تتحفك، وستمسّ شعورك وتثير تفكيرك إذا كنت عالماً بحال هذه الشعوب وما ابتيلت به من جور الجائرين واختلاف المصلّين في القرن الرابع زمن كتابة هذه المقامات.
البديع لا يحاول أن يُخفي عنك تأثره بمن تقدمه، فيُجري على لسان أبطاله أمثال عرب الجاهلية ومفاخرهم، ولا يفوته أن يستهزئ بالمتكلمين-كما في المقامة المارستانية-الذين بلغوا في القرن الرابع مبلغاً ضجرت منه نفوس الأدباء، وإذا قرأت المقامة الجاحظية، وأتبعتها بالمقامة الوصية، علمت علم يقين أن الرجل سبر تراث أبي عثمان الجاحظ وانتقد ذوقُه منه ما لاءم طبيعة أدب القصة الساخرة المبهرج. لقد صبّ ما قرأه من أدب كثير في قوالب نفسه، ثم مضى على سجيته، وأبدع فنّ المقامة، فحقٌّ على أبناء العربية أن يدعونه بديع الزمان.
أعلم أن الزمخشري ومن بعده السيوطي كتبا مقامات أدبية، وبين هٰذين رام السباق في مضمار البديع أُناس كَبَوا لأذقانهم جميعاً إلا الحريري، فهل كلّت أذهان أدباء العربية أن تنطلق من المقامات إلى ما يسمو عليها أو يماثلها في جودتها على الأقل؟ لا جرم قالها الحريري أبو محمد: هيهات أن يدرك الظالع شأو الظليع!
تحقيق محمد عبده وشرح محمد محيي الدين من بعده-عفا الله عنهما-من أفظع ما أنت مُلاقٍ في باب تحقيق التراث، أعني ما قاما به من حذف مقاطع في بعض المقامات وحذف المقامة الشامية بأسرها، صيانةً لأبصار الشباب أن تقع على ما يشين الخلق ويجرح العفاف-زعما-كأن الشباب وقتها لم تهتك عذريته بانفتاح الوطن العربي على الثقافة الغربية بما فيها من كفر وفجور واستهانة بأعراق الشرق ودينه ورثاثة أحواله. ولكن فلنمض معهما ونسلّم أن فيما قاما به صيانة صحيحة لخلق الشباب الضعيف، فما ذنب الباحث المسكين والأديب الناقد والقارئ العارف؟ من لهم بتصور سليم وانطباع تامّ ومعرفة دقيقة عن المقامات ومُبدعها بدون الاطلاع على هذه المحذوفات؟ ما هذا المنطق المعوجُّ الذي استولى-وما زال مستولياً وإن بقلة-على بعض ناشري كتب التراث؟ لا أدري ما هي الطبعة العلمية الكاملة للمقامات التي يرضى عنها البديع ويضع عليها اسمه لو عاش بيننا اليوم!
المقامات أكدت لى فكرة أن حكمة وعقل الإنسان لا تتغير عبر العصور, وإنما الذى يتغير هى الماديات وظاهر الأشياء. لسان حالى وأنا أقرأ... I feel like :D أُعجبت كثيرا بحكمة هؤلاء الذين قص علينا عيسى بن هشام من أنباءهم ونوادرهم, فبجانب تلك المتعة الجمة, لاتخلو المقامات من الدروس والعبر, التى لاشك, استفدت منها كثيرا. كما أبهرتنى تلك المقامة الأخيرة (المقامة البشرية), التى كادت تكون من ملاحم العرب لولا قصرها...
ـــــــ الأسلوب:
ليس فى الكتاب صعوبة تتوهمها, أو مشقة تتجشمها, بل على النقيض, وعلى عكس ما ظننتنى ملاقيه, سهل اللفظ مرسلها, رقيق العبارة مجزلها. فقراءة واحدة لكل مقامة (حتى بدون الشرح أحياناً) تكفى لأن تفهم النص وتستمتع به أيضاً لطرافته ونوادره, فعلى رغم غرابة بعض الألفاظ إلا أنه يمكنك أن تفهمها بحدسك وتعرف الموضوع العام بسهولة, وفى قراءة ثانية يمكنك أن تفهم هذه الألفاظ وما تواريه بقراءة الشرح, لكن هذا لا يعنى السهولة المفرطة التى تخلو منها الكتب التراثية بطبيعتها, فبعض المقامات الأخرى فيها من الغموض ما يجعلك تجهل مايدور فيها كأنك لا تقرأها, هذا بجانب فرط استخدام الهمذانى للكنايات والاستعارات التى تجلَت بشدة فى (المقامة الرُّصافيَّة) التى يستحيل فهمها بدون الشرح.. ـــــــ
اللغة:
لغة الهمذانى هى من آيات البديع, ولا سيما فى الوصف الدقيق الذى يجعلك تعيش البيئة زمانياً ومكانياً, وهو كنز لغوى ضخم لمن يبحث عنها.. وعلى رغم الهوة السحيقة بين لغة عصرنا الحاضر ولغة الهمذانى, إلا أننى أزعم أن لغة عصرنا (لغة الأدب أقصد) تتميز عن لغة الهمذانى بعدم اكتفاءها بالوصف المادى وتجاوزها ذلك إلى الوصف النفسى المعقد, وهذا أشدّ ماتفتقر إليه مقامات الهمذانى. من عيوب مقاماته أيضاً, أن الكثير منها لامبرر له إلا الاستعراض اللغوى والبيانى البحت, وتكرر هذا فى أكثر من مقامة, وتكاد تخلو من موضوع ذى مغزى.. وكثير من المقامات تدور حول نفس القصة: شحاذ يحصل على المال من الناس بحيله فى إيهام الناس بحسن حديثه واستعراض بلاغته, هو أبو الفتح الإسكندرى. ــــــــ
الشرح:
الكتاب حجمه 330 صفحة بالشرح, وبدونه يكاد يصل لل 100 صفحة, فالشرح أكثر من المقامات, وكثيراً ماتجد صفحات تخلو من المقامات لإفساح المجال للشرح المسهب, وهذا فى رأيى, وإن ساهم فى توضيح كثير من الأمور المبهمة, إلا أنه يثقل كاهل القاريء بمعلومات لم أقرأ الكتاب لأجلها, كأن يتوسع فى الترجمة لكثير من الشعراء؛ نسبهم وحياتهم وأشعارهم, لمجرد ذكر أسماءهم بصورة عابرة فى المقامة, وكذلك أيضا مع بعض الأحداث, كحرب البسوس, التى خصص لها المحقق مايقرب من أربع صفحات خلت منها ذكر المقامة, ورغم هذا فإن كلامه عن الحرب كان أكثر غموضا من مقامات الهمذانى نفسها, فكانت تحتاج لشرح هى الأخرى, لاستعماله اللغة التراثية العتيقة !
كما أن المحقق اقتصّ من بعض المقامات بعض الأجزاء بحجة أنها يندى لها وجه الأدب, فكان ابتساراً لمجرى القصّ ولمعرفة الأحداث وما انتهت إليه المقامة, وهذا فى رأيى خيانة للتراث وللهمذانى, ومؤكد أن المحقق لم يستوعب هزة الحداثة ولم يواكب عصر الأدب المستبيح الذى لا يندى له وجه, كما أنه لم يبدِ هذا التحفظ فى بعض المقامات التى كانت تتغنى بالخمر والغوانى, وتمتدحهما, بل أنه لم يتحرج من عرض أشهر أشعار العرب فيهما... تناقض غير مفهوم ! ـــ لكن تظل مقامات الهمذانى لها من الحضور ما تمّحى تحتها عثرات ووقعات لا تنال من عبقرية وبلاغة الهمذانى ... ـــــــــــــ
للي عاوز يقرا عربي او يعرف عربي من غير قواميس او معاجم يقرا الكتاب ده للي عاوز يعرف ازاي تلعب باللغة و تركب كلام على كلام يدي اكتر من معني يقرا الكتاب ده للي فاكر العربي لغة سهلة او يقدر يكتب بيها او يفهم معانيها بسهولة يقرا الكتاب ده مجموعة من المقامات ولا اروع في اللغة و الوصف و الاستمتاع اعتقد ان الكتاب ده من افضل ما كتب باللغة العربية خصوصا مجموعة من المقامات اللي كأنها بتتكلم علي احوال مصر الحالية كالمقامة الرصافية
انتهيت فقط من نصف الكتاب واكتفيت. لطيف جدا، دافئة وألفاظ نورت ذكريات الطفولة مع الراديو وسماع قصص ألف ليلة وليلة. لكن كالعادة صعب على الاستمتاع باللغة من الشعر والنثر بدون رواية.
عندما درست المقامة البغدادية في الثانوية علمت أن هذا كتاب يجب أن يُقرأ. يومها سألت الأستاذ عن الكتب التي صدرت في فن المقامة، اليوم أنا أعرف بعض الكتب التي صدرت في هذا الفن: أولها هذا الكتاب (مقامات بديع الزمان الهمذاني) _وهو أبو الفضل أحمد بن الحسين وهو صاحب الفضل في وضع أسس فن المقامة_. أما أشهر كتب المقامة _أو أشهرها بعد مقامات الهمذاني على الأقل_ هو (مقامات الحريري) كذلك يوجد (مقامات اليازجي) وكتب أخرى.
المقامة باختصار شديد هي قصة طريفةمسجوعة فيها من الحنكة والبلاغة الشيء الكثير.
ما لم يعجبني في مقامات الهمذاني والذي أراه عيبا في الكتاب _وأتحدث هنا عن المقامات التي بقيت وجمعت في هذا الكتاب لا الأربعمائة مقامة المندثرة_ أن الكثير من المقامات تناولت نفس القالب القصصي مع بعض الاختلاف في السرد أو الحوارات والمكان والزمان، ففي أكثر من مقامة نجد أبا الفتح السكندري متلثما يتحدث عن حاله وتحولها فيرق عيسى بن هشام لحاله ويعطيه شيئا فتنهال الأعطيات على الرجل حتى يذهب، ثم يتبعه عيسى بن هشام ويزيح لثامه فإذا به شيخنا أبو الفتح السكندري. لكن ربما الزمان غير الزمان أو ربما لأن المقامات غرضها التعليم وإبراز المهارة اللغوية والقصة شيء ثانوي فيها أو ربما هذا ما بقي منها لسوء الحظ.
في المجمل الكتاب جميل وقد يساعد في زيادة الحصيلة اللغوية، ولغته _أي الكتاب_ ليست صعبة بالمناسبة فقد لا تعرف معنى بعض الكلمات لكن الحكاية والجمل تكون واضحة مفهومة في المجمل. يظل الكتاب لا يناسب الجميع، وأي كتاب يناسب كل الناس؟
من المقامات الجميلة والتي علقت في ذاكرتي من الكتاب: المقامة التي دلتني عليه (المقامة البغداذية)، كذلك (المقامة الأصفهانية) و(المقامة الحرزية) و(الجاحظية) ولا بأس (بالمقامة الدينارية) إن أردت.
فن المقامات من أقرب الفنون الأدبية لنفسي ، أحب إيقاع الجمل السريعة و الكلمات المتناسقة فيها ، و لعلّ الهمذاني أشهر من أبدع في هذا الفن .
مقامات الهمذاني شهيرة براويها "عيسى بن هشام" و بطلها "أبو الفتح الاسكندري" الذي اشتهر بتحايله على البسطاء ، و عادة ما يختار ضحاياه من الأعراب أو الغرباء عن المدينة .
يأخذ البعض على الهمذاني اعتناؤه الشديد بتخير ألفاظه أكثر مما يعتني بجوهر النص ، و للحقيقة فانا أختلف مع هذا الرأي ، فجلّ مقاماته طرائف و ملح أدبية مصاغة برشاقة محببة ، و أحب جداً أسلوب مزجه لأبيات شعرية مناسبة لجو المقامة .
لفت نظري كثرة الهوامش لتفسير الألفاظ الواردة في النصوص ، و أغلب الظن أنه لو قدّر للهمذاني أن يطلع على أحد الطبعات الحديثة لمقاماته لهاله أن يكتشف أن الهوامش تحتل أكثر من نصف الصفحة و لربما غشيه من الهمّ ما غشيه .
فن المقامات من الفنون التي اندثرت أو تكاد في وقتنا الحالي ، و أظن أنه لا بد من تجديد صلتنا به لئلا نفقد فناً رفيعاً مختلفاً تماماً عما سواه .
أبدع بديع الزمان... إن أدمنت مطالعته ستكسب لغة ومفردات أدبية.. مقدمته أيضا جيدة وتعطيك ملمحا عن حال القوم ذاك الزمان زمن اتساع رقعة الخلافة وكثرة ديار الإسلام واندماج الثقافات ببعضها من الشرق للغرب... جميل جميل جدا.
هذا الفنّ يتملّكني كلما قاربته، المرة تلو الأخرى، وما زاد في جماليّة تلقّيه هذه المرة حنجرة المسرحي الجميل محمّد الصفّار. على أنّ استماعه - للمرة الأولى - قد يكون مخادعًا إذ لا بدّ أن يشفع بشروحات معجم الهمذاني الغريب جدًّا.
أتوقّف عند إشكالية حذف تفاصيل من متن النصوص - المطبوعة خاصة؛ نظرًا لعدم مواءمتها الذوق العام، المقامة الرصافية والشيرازية - مثالًا لا حصرًا. وهو أمر لا أستطيع تقبّله البتة. كيف يعقل حذف متن النصّ اعتمادًا على ذائقة محقق / شارح / ناشر. هذا النص ملكٌ لنا، للقارئ.
فن المقامة أحد الفنون التي تجاهلها العرب لمدة طويلة للأسف لدرجة أنك لا تجد لها ذكر، شخصيًا أول معرفة لي لهذا الفن كان عن طريق هذا الكتاب البديع، الذي فيه من الفصاحة و الفن الكثير، يحكي قصص بديعة مرت على عيسى بن هشام و الشخصية الغريبة الأخرى أبو الفتح الإسكندري. تأخذنا هذه القصص بين المدن العربية و الفارسية، تصاحبها الكثير من الأحداث و النقاشات، و مايميز هذه الأحداث بالنسبة للقارئ المعاصر هو كونها تصف الجو العام لتلك الحقبة دون تقديس أو تشويه، فمرة تجد تعايش كبير بين الفرس و العرب، و مرة تجد شخصيات تسخط على تقاليد الفرس و تنبذهم و العكس أيضًا. رويت الأحداث بطريقة السجع البديع إضافة للشعر، و لم يكذب من سمى أبو الفضل ببديع الزمان، فكانت مقاماته بديعه تحديدًا تلك التي تناولت مناقشة الشعر و الشخصيات التاريخية. لكن لكل شخص يريد أن يتعلم جمال اللغة العربية و سجعها و سردها العذب يجب أن يمر على هذا الكتاب. لكن مما ساءني حقيقة هو حذف بعض الأجزاء و المقامات تحت ذريعة أنها غير مهذبة أو لا تناسب الذوق العام رغم مروري ببعض الألفاظ التي لم تناسب الذوق العام أيضًا، و للأسف هذه تعبر خيانة بحق النص فنحن عندما نقرأ يجب أن نقرأها بكاملها دون محاولة تهذيب أو محاولات بطولية من دور النشر أو الشرَّاح أو حتى المترجمين فهذه وصاية سيئة.
أشعر بأني أعجمية، لم أفهم أغلبية المقامات 😧 و لكن استمتعت بالإستماع إلى كتاب صوتيا، كان السجع و لحن الكلمات جميل جدا. التعليق الوحيد أن في المقدمة قيل أن هناك شرح لكن لايوجد فقط المقامات.
الكتاب يمثل مرحلةً هامةً في تاريخ السرد العربي .. وفي رأيي يجب ألا نُغفِلَ قيمةَ المقامة كعتبةٍ يمكننا الوقوفُ عليها للاطّلاع على كثيرٍ من تفاصيل تراثِنا الثقافي، كما يجبُ ألاّ نُبالِغَ في الوقتِ ذاتِه في قيمتها، وهو ما ينزلقُ إليه كثيرٌ من دُعاةِ الأصالةِ - بدافعٍ من عدم التحقُّقِ في المجال الثقافي الحالي - فيقولون ما مضمونُهُ إنّ المقامةَ وحدَها من بين فنون السَّرد تعبّر عن روحِنا العربية (الإسلامية)، متملّصين بذلك أو محاولين التملُّصَ من سحرِ الرواية والقصة القصيرةِ وغيرهما من فنون السّرد التي استقرّت تقاليدُها الإبداعية في أرضٍ غير عربيةٍ ثم انتقلَت إلينا ضمنَ ما انتقلَ بأفعالِ المُثاقَفة المختلفة .. لا يُمثَل هذا الرّأيُ حَجرًا على محاولات إحياة هذا النّوع السّرديّ، فمن حقّ الجميعِ أن يحاولَ تحقيقَ ما يراهُ جديرًا بالتحقيق والمحاولة!
كثيرٌ من المحاور الرئيسة للقَصّ في المقامات الخمسين للهمذانيّ مازالَ يترددُ في فنوننا السردية الأخرى، فالمقامةُ الغيلانية مثلاً تتناولُ حالةَ الفنان متوسط الموهبة/ المبدع غير العبقري، متمثلاً هنا في (ذي الرّمّة) حيثُ يزدريه الفرزدقُ الشاعرُ ذائعُ الصّيت .. كأننا نقرأُ روايةَ (القمر وستة بنسات) لسومرست موم، عن (بول جوجان) التشكيليّ العبقريّ ومعاصريه متوسطي الموهبة .. لا يختلفُ إلاّ حواشي الفكرة، أمّا الفكرةُ فهي هي!! كذلك يتردد محورُ التجارةِ بأحلام البسطاء وبالعاطفة الدينية للمتدينين في أكثر من مقامةٍ وهو الشيءُ اللافتُ للانتباه، فنجدُهُ في المقامات الأصفهانية والموصلية والحرزية .. تشعرُ أن لا جديدَ تحتَ الشمس!! ونجدُ أحاجيَّ شِعريةً متتاليةً تردُ على لسان البطل أبي الفتح السكندريّ في مقامتَين هما (العراقية) و(الشِّعرية) .. وهو ما يمثلُ هوسًا ثقافيًّا لدى العرب عبر تاريخهم .. فالشِّعرُ تكادُ وظيفتُهُ تختلفُ بالنسبة للإنسان العربي عنها بالنسبةِ لغيره .. إنهُ علامةُ وجودِ هذا الإنسان .. ظاهرةٌ صوتيةٌ تحتاجُ في تشريحِها إلى مجهوداتٍ بحثيةٍ جبارة! كذلك نجدُ في المقامة الخمرية (أبا الفتح السكندريَّ) إمامَ مسجدٍ وسِكٍّيرًا في الوقتِ ذاته، مما يُذكٍّرُنا بقصةٍ لـ(يحيى حقّي) ضمن مجموعته (الفِراش الشاغر) .. أمّا المقامةُ الأخيرةُ (البِشريةُ) فهي واحدةٌ من المقامات القليلة التي ليس بطلُها (أبا الفتح السكندريّ)، فالبطلُ هنا (بِشرُ بنُ عوانةَ) الشاعرُ الصعلوك .. وهي مقامةٌ خارجةٌ من الوعي الجمعيِّ العالميِّ قبلض العربيّ، فنجدُ فيها ذلك البطلَ الخرافيَّ الذي يلتقي الأسدَ والحيّةَ فيقتلهما ليأخذ طريقَهُ إلى مَهر ابنة عمه المُغالَى فيه (وهو بالمناسبة ذاتُ المَهر الذي طُلِبَ في عبلةَ ابنة عم عنترة بن شدّادٍ بحسب الأسطورة (ألف ناقة حمراء) ..
المقاماتُ ممتعةٌ على الجُملة، خاصةً لمن كان مهتمًّا باستكشاف التراث العربي ومولَعًا بخباياه .. أرشّحها لهؤلاء، كما أرشحها للمهتمين بفنون السّرد على الجملة .. استمتعوا.
ساقني البحث ع اليوتيوب إلى أن وقع أمامي مسلسل مقامات بديع الزمان الهمذاني، فأستغربت وجود مثل هذا، وشاهدت الحلقة الأولى؛ أعجبني، ثم غبت مدة ثم عدت لمشاهدة كامل المسلسل الذي شوقني لقراءة الكتاب، ولجمال المسلسل وبراعة ممثليه وقوة لغتهم وجدت نفسي أقرأ المقامات بصوتهم وأتخيل بهم المقامات، بل أستعذبتها وذقت حلاوتها، لا أظن أني لو لم أشاهد المسلسل قبلها لوجدته ، أطلت الحديث عن المسلسل لكن تجربة نادرة فى الدراما العربية تستحق أن تُشاهد وهي تحقيق لأمنيتي ف نقل التراث للأجيال الشابة من نوافذ مختلفة منها نافذة الدراما والفن عموما، أما الكتاب فتغني شهرته وشهرة راقمه عن الحديث عنه وكذلك أهميته المركزية في التراث والأدب العربي، لكن جدير بالإشارة إليه أنه من المشهور أن مبتكر فن المقامات هو الهمذاني لكن هناك من يذكر خلاف هذا ،يقول الحصرى صاحب زهر الآداب ص٢٧٣: ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدى أغرب بأربعين حديثاً،وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره،واستنخبها من معادن فكره،وأبداها للأبصار والبصائر،وأهداها للأفكار والضمائر فى معارض أعجمية،وألفاظ حوشية.. عارضها (أى بديع الزمان الهمذانى) بأربعمائة مقامة فى الكدية ،تذوب طرفا وتقطر حسنا..إلخ. يعلق زكى مبارك قائلاً: مؤدى هذا الكلام أن بديع الزمان ليس مبتكر فن المقامات،وأنه حاكى ابن دريد فى أحاديثه؛وقد استغللت هذا النص في كتابى "النثر الفنى".. ولكنى من جانب آخر لم أر مثل هذا الكلام ف غير زهر الآداب،ولا أزال أتلمس له مصدرا آخر،ولم أعثر على شئ إلى اليوم،ويزيد فى الدهشة أن صاحب زهر الآداب يروى المسألة على أنها مقبولة ومعروفة لم تمس بنقض ولا تكذيب،وقد نقلها عنه ياقوت فى معجم الأدباء.
المقامات فنٌّ من فنون النثر، أصلُهُ فنّ وصف المطر، فإن الأعراب كانوا إذا وصفوا المطر جعلوا له قالبًا وبدءًا ونهاية يلتزمونها، ثم توسّع هذا الفن فصار في غير وصف المطر، وهو ما نسمّيه المقامة. تبدأ المقامة برواية خبر، يرويه بديع الزمان -رحمه الله- عن عيسى بن هشام، وهو شخص من نسج خياله، فيذكر ما حدث له، وغالب المقامات تكون فيه شخصية المتسوّل الذكي، الذي يخلب الناس بحديثه، فيُعطونه مالهم، وهو عند البديع اسمه أبو الفتح الإسكندري. غير أن البديع أورد مقامات لم يكن بطلها أبو الفتح، كالمقامة الصيمرية، والغيلانية، والبشريّة. قرأت هذه النسخة، طبعة دار الانتشار، وهي مفرغة على هيئة كندل، اشتريتها من أمازون لأني لم أجدها ورقية. هذه الطبعة فيها تتميم لما حُذف من التحقيق المشهور لمحمد عبده -رحمه الله- فقد حذف بعض الفقرات ومقامة لأن فيها إسفافًا لا يليق. سجلت المقامات كلها على قناة مداك العروس على اليوتيوب والحمد لله، وكنت إذا استشكلت شيئًا عدت لتحقيق محمد عبده وشرح محيي الدين عبد الحميد رحمهم الله- لأن تحقيقهم مَشكول مَضبوط.
قبل قراءتي للمقامات بحثت عن نسخة سلِمت مما يسمى "تهذيب" وهو في الواقع عبث وخيانة. فوجدت نسخة دار الانتشار العربي. فقد قامت بإضافة المقامة الشامية وهي مما أسقطه الشيخ محمد عبده في شرحه الشهير، وكذلك نشرت المقامات التي تصرف فيها كاملة دون نقص. وأثناء القراءة حمدتُ الله على حصيلة لغوية جيدة جداً ومعرفة بمعاني المفردات؛ فشرح الشيخ فيه تطويل يجعل تكرار النظر للهامش مفسد لمتعة القراة، خصوصاً قراءة المقامات. وعلى كل حال تبقى المقامات التي بين أيدينا ناقصة، وفي مقال سبق نشره في مجلة الفيصل يتضح أن هذه النصوص الإبداعية تعرضت على مدى السنوات للنقص والإضافات مثلما تعرضت للتحريف. رابط المقال https://www.alfaisalmag.com/?p=5601
"فإذا هو والله شيخُنا أبوالفتح الإسكندريّ" بهذه الجملة تنتهي أغلبُ مقامات الهمذاني التي يرويها على لسان عيسى بن هشام .ولكن من يكونان هذان ؟سواء عيسى أو الإسكندري ؟ هما الشخصيتان الرئيسيتان في معظم المقامات ؛ فعيسى هذا كثير الأسفار لا يكاد يقرُّ في بلد حتى يفزَع إلى أخرى وبتعدد أسفاره وانتقالاته وما يخوضه من تجارب وما يتبدّل عليه حاله من أطوار تتعدد المقامات. وفي كل مصرٍ يدخله يُفاجئه أبوالفتح بتواجده فيها يمارس الشحاذة واحتلاب جيوب الناس بخلق الحِيل وحياكة الخدع،وله في ذلك أحوال طريفة عجيبة شتى تنبئ عن عقل وقاد خبير بشأن عوام الناس وسذاجة أذهانهم وسهولة بلوغ القصد منهم والاحتيال عليهم إن سلك منهم مسلَك صاحب ديانة أو كشف وكرامة،أو دالٍّ على ثراء لا عناء فيه إذ سرعان ما يسلمون له قِيادهم له مذعنين لاغين ما مُنحوه من عقول، وفي هذا المعنى يقول أبو الفتح الأسكندري في نهاية المقامة الأصفهانية: النَّاسُ حُمْرٌ فَجَـوِّزْ *** وابْرُزْ عَلَيْهِمْ وبَرِّزْ حَتَّى إِذَا نِلْتُ مِنْهُـمْ *** مَا تَشْتَهِيهِ فَفَرْوِزْ ومقامات بديع الزمان صفتها من اسم مصنفها آية من آيات الإبداع والقول الفصيح والبيان الساحر،ارتقت في سماء البلاغة مُرتقا صعبا شاهقا ، حينما تقرأ واحدة منهن فكأنك ترى لؤلؤًا يتدحرج على الورق أو تبرا ينثال بين يديك. ومما زاد المقامات حُسنا على حسنها تعليقات الأستاذ الإمام محمد عبده النفسية الفريدة الكاشفة عن تفرد الإمام وموسوعيته وتبحره في مختلف العلوم. كما قلت سابقا أنها آية من آيات البلاغة إلا أن تلك المقامات التي سأذكرها كانت هي الأجمل والأفضل في تقديري ومع هذا فلا يجب أن تفوت قراءة المقامات جميعها: المقامة الأسدية المقامة الأسودية المقامة الأصفهانية المقامة الخمرية المقامة الصيمرية المقامة الغيلانية المقامة القريضية المقامة الكوفية المقامة الموصلية المقامة الوعظية المقامة البِشْرية