إنهار عالم كامل من الوقائع والأحلاف والمسبقات والمفاهيم والمبادئ والأوهام. ولن يمكن الخروج الآن من هذه النكبة إلا بمراجعة فكرية جذرية للخطط والسياسات والمثل والعقائد والأفكار التي بلورت هذا الإخفاق وقادت إليه. ولا يمكن لممارسة جديدة أن تنشأ اليوم ما لم يستوعب دروس الماضي. ولن يتمكن النقد من القيام بدوره وتحديد أسباب الإخفاق وظروفه ما لم يضع نصب عينيه هدف تحقيق حركة جديدة وممارسة جديدة. وهذا يتطلب التزاماً أولياً بمبادئ ومثل لا يمكن أن يتجنب الانطلاق منها أي نقد جذري. فالتاريخ يخلق باستمرار وقائع جديدة ويعطي للمفاهيم ذاتها معاني جديدة وللحركة آفاقاً جديدة، ويقتضي في كل منعطف تاريخي مراجهة جديدة للأفكار والممارسات، إذ إن العالم العربي اليوم لا علاقة له بالعالم العربي منذ عشرين أو ثلاثين سنة وهو يحتفظ في الوقت ذاته بوقائع عميقة، بمشكلات وتناقضات جوهرية لم تتغير أو لم تجد حلاً بعد. وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات متعددة، يربط بينها هدف واحد وموضوع واحد: مراجعة الوعي العربي نفسه في ميدان محدد هو ميدان الثقافة. ولكن نقد الثقافة، كما يظهر من خلال هذه الأبحاث، لا يشكل إلا لحظة من لحظات النقد الاجتماعي ولا يتحقق إلا به.
مفكر سوري ولد في مدينة حمص أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بالعاصمة الفرنسية باريس، خريج جامعة دمشق بالفلسفة وعلم الاجتماع، دكتور دولة في العلوم الاجتماعية والإنسانية من جامعة السوربون يعتبر من أبرز المعارضين لنظام بشار الأسد يشغل حالياً منصب رئيس المجلس الوطني السوري
من أفكار هذا الكتاب الجميل، تولّدت لدي هذه الأفكار، فصغتها على عجالة
النّهضة لا كجوهر بل كصيرورة دائمة ومتغيّرة باستمرار، ليست غاية في حدّ ذاتها بل هي نتيجة مكلّلة للجهود المبذولة تجاه تمدين المجتمع وتحديثه وتطويره على كافّة الصّعد الثّقافية والإجتماعية والماديّة والأخلاقية..
يتم طرح موضوع النّهضة الآن ( بالأخص في التلفاز رمضانيّاً ) بصورة شكلانيّة وبرّانية جداً، وكأنّها مجموعة من المواصفات والمعايير والأنشطة الماديّة التي يجب أن يتحلّى بها المجتمع كي يصل إلى مرحلة مزدهرة من الرّخاء والتّمدن على الصّورة الأوروبية الحاليّة، بحيث يتمّ اختزال هذه المرحلة النّهائية في صورة مباشرة تستحضر النّموذج الغربي وتقدّمه الماديّ والأنيق متمثّلاً بالنّظافة والنّظام والإبداعات التقنية.
مشكلة هذا الطّرح أنّه يختزل النّهضة بإجراءات بسيطة تكمن في انتزاع التّجربة الغربية من حاضنتها الرّئيسية أوروربا و إعادة "تبيئتها" وإنتاجها وأسلمتها أيضاً ضمن البيئة العربية المغايرة تماماً. وهذا الطرح إذن يهمل الشّرط التّاريخي الكامن في التّجربة الحضارية الأوروبية -وأي تجربة حضارية أخرى بالطّبع- و بالضّرورة الأحداث العنيفة التي ولّدت تناقضات أدّت إلى تفاعلات كثيرة عبر مئات السّنين شكّلت صيرورة مستمرّة و بنية حضارية دائمة التّشكل والتغيّر. وهذا يعطّل بالتّالي، بالنّتيجة، العقل العربي عن مزاولة حقّه المشروع في الإبداع والتّجربة، بعد أن يعاد تأطيره بأطروحات الغرب المتفوّق مادياً وحصرياً.
ليس هناك من مخرج ما لم يرقى طرحنا الثّقافي المتداول الآن عن الطّرح الحالي المختزل المشوّه للنّهضة والحضارة، وما لم يتمّ الكفّ عن الدّوران في فلك إنجازات الغرب المادّية بمعزل عن سياقاتها الفكريّة أولاً، والتّاريخية ثانياً، والإمبرياليّة ثالثاً.
لا نريد برامج تعيد تشويه العقل العربي (كبرنامج الشقيري وغيره)، بل برامج تكون على قدر من الهدف المنشود نحو تحرير العقل العربي من التّبعية للآخر، وفتح آفاق الإبداع الكامنة في فهم التّاريخ وفهم الحداثة، وفهم وتطوير الثّقافة الأصيلة للشّعوب العربية والإسلامية واعتبارها القاعدة الأساس لأي انطلاقة حضارية حقيقية.
وعندما نكتشف ذلك، فقط، سنخطو خطوتنا الأولى والصّحيحة نحو النّهضة المنشودة منطلقين من ذواتنا بعد أن هضمنا التّراث واستوعبنا الآخر وأنتجنا بديلنا المحليّ الخاص بنا كأمّة تستحق أن تكون شامة بين الأمم.
جمع برهان غليون في هذا الكتاب مجموعة مقالات متعددة في فترة السبعينات والثمانيات, تطرح موضوع مراجعة الوعي العربي في ميدان الثقافة, ولكن نقد الثقافة كما يرى غليون, لا يشكل إلا لحظة من لحظات النقد الإجتماعي ولا يتحقق إلا به, إنه بحاجة دائما الى أن يفتح إشكاليات ومشاكل لن تجد إجاباتها إلا في تحليلات سياسية وإجتماعية جدية.