نبذة موقع النيل والفرات: يقول الدكتور زكي نجيب محمود في أحد نصوص هذا الكتاب: يتحدث الناس عن حقوق الإنسان حديثاً لا ينقطع، وتنعقد من أجل ذلك مؤتمرات وتصدر قرارات، ولست أعتزم القول في هذه الحقوق إن كان الحديث عنها من قبيل الجد أو المزاح، وإنما الذي أريد أن أثبته هنا هو أن هنالك حقاً عزيزاً على قلوب أناس يعدون بالمئات إن لم يعدوا بالألوف... وأعني به حقا لإنسان في أن يخلو إلى نفسه حيناً بعد حين.... وإنني لأزداد استمساكاً بهذا الحق لمن أراده لنفسه، كلما رأيت المجتمع الحديث ممتعاً في سيره نحو أن يحوّل أفراده إلى قوائم من أرقام، فالفرد الواحد بالنسبة إلى أولي الأمر في المجتمع، هو من ولد في التاريخ الفلاني، ويحمل بطاقة شخصية رقمها كذا، ويسكن منزلاً نمرته كيت،... أقول أنني كلما رأيت إمعاناً في هذا الاتجاه الرقمي الحديث، أشفقت على ذاتية الفرد أن تتفكك إلى مجموعة منوعة من أعداد ولا شيء، غير ذلك، وازدرت بالتالي مطالبة للإنسان بحق الخلوة إلى نفسه... فكم نبياً جاءته الرسالة في خلوته؟ كم عالماً وفيلسوفاً لمعت في رأسه الفكرة وهو في عزلته؛ بل قد تكون تلك العزلة في غيهب السجن: أنا ثمرات الحضارة الإنسانية هي في الأعم من نتاج أفراد تهيأت لهم العزلة وكانت لهم القدرة فتفاعلت هذه مع تلك تفاعلاً أنتج. ورحم الله الإمام الشافعي الذي كان يطفئ السراج ليضيف إلى عزلته وهو يفكر ظلمة تساعده على تركيز فكره، حتى إذا ما نضجت الفكرة في رأسه أضاء سراجه وخطها على الورق ثم عاد فطفأ السراج ليستأنف العمل". يبدو من خلال هذا الطرح الذي يبدو للوهلة الأولى فلسفياً، بأن للكاتب توجهات اجتماعية تسعى إلى بناء مجتمع ناضج ومعطاء. وهكذا هو الدكتور زكي نجيب محمود في كل طروحاته التي ضمها هذا الكتاب، يسعى من خلال نقده إلى بيان الخطأ لتجاوز لتقصير الحاصل في المجتمع المصري بصورة خاصة والعربي بصورة عامة. وذلك على جميع الأصعدة: الأدبية، الثقافية (الفكرية)، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية. لذا فقد عمد إلى ترتيب مواضيع مقالاته تحت عناوين جاءت كالتالي: سيرة عقلية، من تحولات العصر، في سبيل يقظة عربية، من وحي الحضارة الجارية، لقطات على الطريق. وتجدر الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من قدم زمن تأليف هذا الكتاب إلا أن مواضيعه لا تزال تأخذ حيزها في عالمنا اليوم، لذا لا يزال الإقبال على هذا الكتاب واسعاً وكأنه لم تُسطّر مقالاته بالأمس.
ولد زكي نجيب محمود عام 1905، في بلدة ميت الخولي عبد الله، بمحافظة دمياط. تخرج من كلية المعلمين العليا بمصر، عام 1930. في عام 1933 بدأ في كتابة سلسلة من المقالات عن الفلاسفة المحدثين في مجلة الرسالة. وفي عام 1936 سافر إلى إنجلترا في بعثة صيفية لمدة ستة شهور. وفي عام 1944 سافر إلى إنجلترا للدراسات العليا. وبعد عام واحد حصل على البكالوريوس الشرفية في الفلسفة من الدرجة الأولى من جامعة لندن (وكانت تحتسب في جامعة لندن آنذاك بمثابة الماجستير لكونها من الدرجة الأولى). عام 1947 حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن (كلية الملك) في موضوع (الجبر الذاتي)، بإشراف الأستاذ هـ.ف. هاليت. (وقد ترجم البحث إلى اللغة العربية الدكتور إمام عبد الفتاح بنفس العنوان عام 1973).
عاد إلى مصر عام 1947 والتحق بهيئة التدريس بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول آنذاك). سافر عام 1953 إلى الولايات المتحدة أستاذاً زائراً ومحاضراً في جامعتين بها حيث قضى فصلاً دراسياً في كل منهما. وبعد عام اختير مستشاراً ثقافياً لمصر بالولايات المتحدة لمدة عام. في عام 1956 تزوج من الدكتورة منيرة حلمي، أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس. سافر إلى الكويت أستاذا بقسم الفلسفة بجامعتها لمدة خمس سنوات (حتى 1973). عام 1973 بدأ كتابة سلسلة المقالات الأسبوعية في جريدة الأهرام.
نال جائزة التفوق الأدبي من وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن)،عام 1939. نال جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة من مصر على كتابه الصادر بعنوان "نحو فلسفة علمية" عام 1960. نال جائزة الدولة التقديرية في الأدب من مصر عام 1975، وفي عام 1984 نال جائزة الجامعة العربية "للثقافة العربية" من تونس.1985 حصل على درجة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأميركية بالقاهرة.
هناك بعض الكتاب الذي يكفي أن تقرأ لهم مقالا واحدا فقط لتتغير نظرتك لبعض الأمور في الحياة أو تتفتح عيناك على أفقٍ جديدٍ لم تكن تراه من قبل زكي نجيب محمود من صفوة هؤلاء الكُتاب تنقسم الأفكار ومواقفها لعدة أبواب :- 1- سيرة عقلية : جزء من التحولات الفكرية والعقلية في حياة الكاتب على مر السنون 2- من تحولات العصر : الأفكار في العصور السابقة لنا وكيف تغيرت النظرة إليها في القرن العشرين 3-في سبيل يقظة عربية : محاولة استنعاض همة العرب للعودة لمجدهم التليد 4-من وحي الحياة الجارية : المواقف اليومية الحياتية التى نتعرض لها في مجتمعنا 5- لقطات على الطريق : (لقطات بالفعل) يركز عليها الكاتب ويجلوها لنا بنظرة أخرى
أظنه «جيته» هو الذي قال عن نفسه إنه كنجوم السماء، تسير في غير عجلة، لكنها تسير سيرًا دءوبًا لا يعرف السكون. وبهذه العبارة نفسها أُجيب طالبي الذي أرسل إليَّ يسألني كيف أُتيح لي أن أُخرِج حتى اليوم أكثر من ثلاثين كتابًا تقع في عشرة آلاف صفحة، فأنا أسير في عملي سيرًا وئيدًا لكنه دءوب. هل يعلم صاحب السؤال أنه لو كتب في اليوم الواحد صفحتَين كان له في آخر العام مُجلَّدٌ ضَخمٌ من جُزأَين؟
هذا الدأب الوئيد الذي لا يعرف السكون هو الطابع الذي يُميِّز الحياة النامية في شتى صورها: فانظر إلى الشجرة كيف تنمو. إنها لا تكتمل نماءً بين عَشيَّة وضحاها، بل تسير في طريق النماء قليلًا قليلًا حتى ليستحيل على أيِّ عينٍ أن تُدرِكها متحركةً في نموها، لكنها تَدأَب دأبًا موصولًا، فإذا هي الشجرة الوارفة الظليلة. وانظر إلى الإنسان تنمو مداركه من ألفاظٍ قليلةٍ يُتمتِم بها حتى يُصبِح الرجل الناضج صاحب العلم الغزير والخبرة الواسعة، بل انظر إلى دخيلة نفسك: إلى هذه الأنفاس شهيقها وزفيرها تتعاقب الهُوينا تعاقُبًا لا يقف إلا مع نهاية الحياة. إنني لو استَثنيتُ أمثلةً قليلةً من الطبيعة كالسيل الدافق في عجلة وكالمطر المنهمر في سرعة الملهوف، وكالعاصفة الهوجاء، جاز لي أن أقول إن الطبيعة بأَسْرها تكره التسرُّع ولا ترضى عن السكون؛ فهي تُفضِّل لظواهرها أن تسير في بُطءٍ سيرًا دءوبا … فحبَّذا لو سار الإنسان في حياته العملية على غِرارها.
كي تصل المياه إلي الأرض المزروعة هناك عملان، إما أن تشغل الماكينات التي تضخ المياه، أو تقوم بتطهير مجري الماء مما يسده حتي تصل المياه بدون عوائق، في مجال الفكر الامور متشابهة تماما، فحتي يصل العلم إلي العقول فهناك عملان متضافران، أحدهما أن تضخ العلوم في العقول، والآخر أن تطهر هذه العقول مما يعيق عملية التفكير السليم ويعيقها عن تلقي العلم. الدكتور زكي نجيب محمود من النوع الثاني، هوا واحد ممن يكتبون لتطهير لعقول من فسادها، يكتب لتطهير العقول مما يسد ويعيق منهج التفكير السليم. قراءة مقالاته هي قراءة في تصحيح مناهج التفكير وتقويمها لا يكتب الدكتور زكي نجيب محمود معلومات عامة ولا قصص وحكايات مسلية بل يكتب كي تتعلم كيف تدير إمكانياتك العقلية وتكف عن هدر مواهبك وعقلك. رحم الله الدكتور زكي نجيب محمود فقد خسرنا بوفاته عقلا قويا شديد الكفاءة كان ليحدث أثرا كبيرا في حياتنا لو انتبهنا له واستفدنا منه
أفكار ولغة هذا الكتاب تفيض جمالا وعذوبة، يتكون من عدة مقالات قصيرة في نحو 200 صفحة تتناول مواضيع فكرية واجتماعية وفلسفية و قضايا لا زالت تشغلنا حتى اليوم. بداية مشجعة بالنسبة لي لقراءة ما سطره هذا الكاتب
page 87 ومع ذلك، فلنعترف بأن ثَمَّةَ من الموضوعات الثقافية الهامة ذات التأثير الفعلي العميق في حياة الناس، ما لا يُستطاع إخضاعه للحساب الرياضي في دقته وموضوعيته، اللفظي وسيلته الأساسية أو الوحيدة؛ فنحن « النقاش » وما يستلزم بالضرورة أن يكون في هذه الحالة نطالب بأن يكون المتناقشون على يقينٍ بأنهم يستخدمون اللفظة الواحدة بمعنى واحد عندهم جميعًا، وإلَّا كان كلٌّ منهم في حكم من يتحدث في موضوع غير الموضوع الذي يتحدث فيه زميله. كنت ذات يوم عُضوًا في لجنةٍ رسمية تبحث في شئون فأسرع زميل «. الثقافة الرفيعة كذا وكذا » فقال قائل في غضون حديثه إن ،« الثقافة » فقل لي — أيها القارئ — ولك عند لله … «. ليس في الثقافة ما هو رفيع » : بالاعتراضقائلًا « رفيعًا » عند أحدهم وألَّا يكون « رفيعًا » ثواب هداية الحيران، ما هذا الذي أمكن أن يكون بمعنًى واحدٍ قبل « ثقافة » عند الآخر؟ وهل يمكن أن يكون ذلكما المتحدثان قد فهما كلمة أن يدخلا معًا في نقاش؟ سجناء الكهوف عندنا كثيرون، كلٌّ ينضح من ذاته الخاصة، ويريد أن يفرض ما ينضحه على الآخرِين، وليس في ذلك بأسٌ إذا كان الأمر أمر ذواق ومزاج. وأمَّا إذا كان المطروح موضوعًا عامٍّا، ويُراد فيه كلمة الحق التي لا شأن لها بشجرة الأنساب؛ بحيث يزداد وزنها إذا جاءت من الوجهاء ذوي النسب الشريف، ويخف وزنها إذا جاءت من عابري السبيل. أقول إنه حيثما يُراد في موضوعٍ عامٍّ كلمة حقٍّ موضوعي، تستطيع أن تكون أساسًا للبناء، فلا مندوحة لأوُلي الشأن عندئذٍ عن الخروج من ظلام الكهوف التي هم سُجناؤها.