يظهر هذا الكتاب عظمة عمر بن الخطاب وعبقريته، ويتناول منهج عمر في التشريع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاة عمر بن الخطاب، ومن ذلك رسالتي القضاء المشهورتين المنسوبتين له، ومنهج عمر في إثبات نصوص السنة وتدوينها وروايتها، وموقفه من المؤلفة قلوبهم، وإحياء الأرض الموات وإقطاع الأرض، والأرض المحمية، والصوافي، وصرف خمس الغنائم، وتخميس السلب، وقيمة الدية كما تناول الكتاب فلسفة عمر في العقوبة في الإسلام ؛ فتناول مسائل : حد السرقة، وحد الزنا، وعقوبة شرب الخمر، وقتل الجماعة بالواحد، والعفو عن جزء من الدم وغيرها، كما ناقش مسائل نكاح المتعة والطلاق الثلاث بلفظ واحد، والتزوج من الكتابيات، ومسائل الميراث ومتعة الحج، وجمع الناس في قيام رمضان وإجلاء غير المسلمين من شبه الجزيرة العربية، وأمهات الأولاد، وجمع القرآن والتاريخ الهجري، وضريبة عشور التجارة، وموقفه من النصوص الملزمة في الكتاب والسنة وموقفه من رأي أبي بكر واجتهاده، وموقفه من الإجماع والاجتهاد والقياس والمصلحة والتعزير وسد الزرائع والحكم بالقرينة القاطعة وحدها، ويؤكد الكتاب أن لمنهج عمر بن الخطاب وتجربته التشريعية ما جعله مثالاً متفردًا حتى بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من الفارق الزمني بين القرن السابع الميلادي عصر عمر وبين القرون التالية له حتى القرن العشرين لا نجد خطة تشريعية تطاول خطة هذا الرجل من حيث تحرر الفكر من قيود التقليد الضيقة والالتزام الحرفي بظواهر وأشكالها، ومن حيث النظرة لمصالح الناس ومقاصد التشريع وأهدافه العامة وأسسه ومقرراته .
هذا الكتاب من أمتع الكتب التي طالعتها في حياتي، و هو خير بداية لقراءات هذا العام. عشت من خلاله مع لمحات من سيرة سيدنا أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب، هذا الرجل العظيم رضي الله عنه و أرضاه و جزاه عنا و عن الإسلام خيراً. الكتاب أصله رسالة علمية حصل بها مؤلفها د.محمد بلتاجي على درجة الماجيستير، و الرسالة بعد التنقيح مكتوبة بلغة سلسة و سهلة تجعل القاريء لا يشعر بالوقت و هو يطالع الكتاب. يبدأ الكتاب بمقدمة منهجية عن فكرة الاجتهاد و النص، ثم المجال الزمني لاجتهاد سيدنا عمر، و الذي لا يقتصر على فترة خلافته، بل يرجع حتى إلى عهد الرسول صلى الله عليه و سلم، و إن كان اجتهاد عمر و غيره من الصحابة في العهد النبوي بمثابة نوع من التمرين العقلي لما سيواجهونه من مستجدات بعد انقطاع الوحي بوفاة رسول الله. يتناول الكتاب بعد ذلك موقف سيدنا عمر من اثبات نصوص السنة و تطبيقها، و أنه حتى لو اجتهد في أمرٍ لعدم معرفته بأن فيه نص ثم راجعه أحد المسلمين بأنه سمع رسول الله يقول كذا أو رآه يفعل كذا بما يخالف هذا الاجتهاد، فإن عمر لا يتوانى في الرجوع عن رأيه و الالتزام بفعل رسول الله، طالما تأكد من صدق و صحة الحديث. استفاض الكتاب بعد ذلك في عرض الآراء الفقهية و التشريعية و التنظيمية التي اتخذها سيدنا عمر، و قسمها لعدة أقسام، فقسم الأموال تكلم فيه عن الأرض المفتوحة و الفرق بين الغنيمة و الفيء و الرأي الذي استقر عليه سيدنا عمر في التعامل مع هذه القضية من واقع فهمه لنصوص السنة و القياس على أفعال رسول الله. و تكلم كذلك عن مسألة المؤلفة قلوبهم، و إحياء الأرض الموات، و الإقطاع، و الخمس، و زكاة عروض التجارة، و زكاة النحل..و غيرها. بعد ذلك تكلم عن الحدود و العقوبات، و المسألة الشهيرة المتعلقة بإيقاف حد السرقة في عام المجاعة و التي يوضح الكتاب أن لها أساسًا من السنة و أن فعل سيدنا عمر ليس أكثر من التطبيق العملي لقول النبي صلوات الله و سلامه عليه. و تكلم كذلك عن منهج التعامل مع غير ذلك من الحدود كحد الزنا، و عقوبة شرب الخمر، و القتل. القسم الذي يلي ذلك متعاق بالأحوال الشخصية و الزواج و الطلاق، يليه قسم يختص بالميراث. يلي ذلك قسم مختص باجتهادات سيدنا عمر فيما لم يرد فيه نص، و أولها و أبرزها جمع القرآن الكريم، و أغلب ما ورد بعد ذلك هو من الأمور التنظيمية للدولة كإنشاء الدواوين، و تعيين التاريخ الهجري، و فرض العطاء و التزام الدولة بأرزاق الناس....إلخ. أهم ما في الكتاب هو الرحلة التي يعيشها القاريء ليس مع اجتهادات سيدنا عمر فقط، بل مع فكرة الاجتهاد بشكلٍ عام، و تفاعل الصحابة مع قضايا عصرهم و تطبيقهم لنصوص الكتاب و السنة و اجتهادهم فيما لا نص فيه في إطار المقاصد العامة للشريعة و بقياس المصالح و المفاسد. و هذا الكتاب ردٌ على من كل من يهرف بما لا يعرف و يتعامل باستهانة مع نصوص الشريعة و يذكر على سبيل الإفحام أن سيدنا عمر قد أوقف سهم المؤلفة قلوبهم، أو أوقف حد السرقة في عام الرمادة، في حين أن سيدنا عمر في الحالتين لم يفعل أكثر من تطبيق النص. أما من يضرب هذه الأمثلة فهو يضربها بغرض إلغاء النص أصلاً! رضي الله عن سيدنا عمر، و جزى الله كاتب هذا الكتاب خيراً، و جزى خيراً من دلني عليه
كتاب عظيم! أنصح بقراءته ودراسته بشدة فكرة طموحة تلك التي انطلق منها المؤلف محاولا الوصول إلى تصور لخطة عقلية اتبعها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في كل ما صدر عنه من تشريعات أكد المؤلف أنها لم تخرج أبدا في منطلقاتها وتفاصيلها عن إطار الشريعة الإسلامية والحكم بما أنزل الله، أقسام الكتاب كانت كافية لشرح ما أراد المؤلف توضيحه خاصة مع أسلوبه السلس وأمثلته المتعددة وتعليقاته كانت موضوعية وغير متكلفة وساهمت في زيادة الفهم وإزالة أي لبس وغموض، أجمل ما في الكتاب أنه قدم لي إجابة مرضية عن سؤال طالما شغلني وهو : كيف يمكن تطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتنا رغم عمومية كثير من التشريعات وتنوع وقائع الحياة وأحداثها ومستجداتها في كل مجتمع وزمان ومكان ، وكيف يمكن لهذا التطبيق ان يكون واقعيا وحقيقيا متفاعلا مع الحياة وليس مجرد أحكام وتفصيلات تزخر بها كتب الفقه؟، إن النموذج العمري في التشريع "في السياسة والحكم والإدارة والحدود والعبادات والأموال والعلاقات الأسرية وغير ذلك" هو الرد الحاسم على كل من يحاول استبعاد الشريعة الإسلامية من الحكم بدعوى تجاوز الزمن لها أو عموميتها أو تعارضها مع روح العصر كما يزعمون، إنه النموذج الذي يتجاوز النظرية ويندفع إلى التطبيق بإيمان عميق وزهد حقيقي وجرأة عقلية وسعة أفق ونية سليمة دون غرض ولا غاية إلا طاعة الله ورسوله ومصلحة الأمة، إنه حجة الله علينا في كل زمان ومكان. لقد أحسست طوال قراءتي بمعنى السعة في هذا الدين ، السعة والعدل والإحسان والحرية بمعانيها الحقيقية لا المصطنعة التي تتخذ كشعارات وحسب فشكر الله للمؤلف صنيعه وجزاه عنا خير الجزاء وشكر الله لمن دلنا على هذا الكتاب ورضي الله عن عمر في كل حين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وصفه : "فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه"
هذه رحلة في شخصية عمر رئيس الدولة ورأس الأمة، وزادت إعجابي بابن الخطاب كلما تقدمت في القراءة، فكيف لرجل أن يخطو كل هذه الخطوات نحو المثالية مظهرا إياها بسهولة بينما لا نجد واحدًا ممن نعدهم فطاحلة في إدارة الدول الآن- أو حتى عبر الزمن الحديث- لا يقارب عمرًا أبدًا ولو شيئًا يسيرًا في نجاحه الباهر! هذا كتاب فضلا عن كونه أغنى عقلي بما لم يعلمه قبلا كان أيضا سبيلي لفهم كيف يفكر عمر، وكيف ينفذ، وواحدًا ممن بصّرني بعبقرية الرجل وتفوقه على من سواه.