نبذة النيل والفرات: يعد هذا الكتاب، خير كتاب في التوطئة لدراسة مجلة الأحكام العدلية -القانون المدني العثماني القديم- وهو إلى ذلك دفاع مجيد عن عظمة الفقه الإسلامي، وقد نقل لنا مؤلفه ثلاثة نصوص دولية خطيرة تشيد بمزايا فقهنا القرار الأول: اتخذه مؤتمر الحقوق المقارنة المنعقد بمدينة لاهاي في شهر آب من عام 1937 وهو يتضمن ثلاثة مبادئ: 1-"اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام، 2-اعتبارها حية قابلة للتطور، 3-اعتبارها تشريعاً قائماً بذاته ليس مأخوذاً من غيره".
القرار الثاني: اتخذه مؤتمر المحامين الدولي عام 1948 وهذه ترجمته: "اعترافاً بما في التشريع الإسلامي من مرونة وما له من شأن، يجب على جمعية المحامين الدولية أن تقوم بتبني الدراسة المقارنة لهذا التشريع وبالتشجيع عليها".
القرار الثالث: اتخذه مجمع الحقوق المقارنة الدولية المنعقد في باريس 1952 وإليك ترجمته: "إن المؤتمرين، بناء على الفائدة المتحققة من المباحث التي عرضت أثناء "أسبوع الفقه الإسلامي" وما جرى حولها من المناقشات التي تخلص منها بوضوح: أ-أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة لا يمارى فيها. ب-وأن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقيقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات، ومن الأصول الحقوقية، وهي مناط الإعجاب وبها يتمكن الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها.
ويأمل المؤتمرون أن تؤلف لجنة لوضع معجم للفقه الإسلامي يسهل الرجوع إلى مؤلفات هذا الفقه فيكون معلمة فقهية تعرض فيها المعلومات الحقوقية الإسلامية وفقاً للأساليب الحديثة".
..وكأن الأستاذ الزرقا قد استجاب لهذا الأمل، حين ألف كتابه هذا في الفقه الإسلامي على الأسلوب الحديث!
حيث بدأ كتابه بتعريف الفقه الإسلامي، ثم ذكر مصادره الأولى الأربعة الأساسية: الكتاب والسنة والإجماع والقياس ومصادره التبعية: الاستحسان، والمصالح المرسلة والعرف، ثم بحث في أدوار (أو أطوار) الفقه الإسلامي، فجعلها ثمانية أولها عصر النبوة وآخرها العصر الذي نعيش فيه اليوم. ثم توقف عند موضوع استمداد التقنين المعاصر من الفقه الإسلامي، فتحدث عن الاتجاه العصري للاستفادة من الفقه وضرورة اختلاف الاجتهادات وقيمته، مزية الصفة الدينية في الفقه الإسلامي، مشكلات يواجهها تطبيق الشريعة، القوانين المدنية وفصل بنائها من الفقه الإسلامي، وفي ملاحق هذا الفصل تم الحديث عن حكم الفوائد المصرفية، وتوحيد التشريع في البلاد العربية، وعقوبة الزمن، والفرق بين مدرستي أصل الحديث وأصل الرأي...
ثم دخل في صميم موضوعه، وهو: "النظريات الفقهية الأساسية" كنظريات الملك، والعقد والأهلية، ونظرية العرف ونظرية المؤيدات الشرعية... الخ.. لم ينسج فيها على منوال من سبقوه، من شراح المجلة، الذين جعلوا الفقه "فتاوى" و"قضايا" و"جزئيات"... و إنما حاول أن يدرس المجلة كما يدرس الأساتذة الفرنسيون في كلية الحقوق بباريس مادة القانون المدني، فجمع من أحكام القرآن والحديث وآراء الفقهاء، من مختلف المذاهب، ما يؤلف نظريات عامة تشبه النظريات الأوروبية الحديثة، وقد وفق في محاولته توفيقاً كبيراً، فمن قرأ كتابه خرج منه بفائدتين: النظريات الفقهية الجديدة، وله فضل إخراجها، وآراء الفقهاء التي لخصت للقارئ فأغنته عن قراءة عشرات من كتب الفقه.
هو الشيخ مصطفى بن أحمد بن محمد الزرقا، ولد في مدينة حلب سوريا عام 1322هـ - 1904م. في أسرة علميةٍ معروفة. فوالده هو العلامة الشيخ أحمد الزرقا الذي شرح قواعد مجلة الأحكام العدلية، وجده هو الشيخ محمد الزرقا أحد العلماء المعروفين.
درس على والده في حلب وعلى غيره من العلماء الذين يلقون دروسهم في المساجد، حيث بدأ دراسته على طريقة المتقدمين من طلاب العلوم الإسلامية، كما دخل مدرسة الفرير الفرنسية لتعلم مبادئ اللغة الفرنسية، دخل المدرسة الخسروية الشرعية وتقدم إلى شهادة الثانوية ونجح فيها فجمع بين الدراسة الشرعية والدراسة العامة، إلتحق بعد ذلك بجامعة دمشق في كليتي الحقوق والآداب معاً، يدرس في الأولى نهاراً وفي الثانية مساءً، وتخرج فيهما بتفوّق، تأثر الشيخ بعددٍ من المشايخ وكان من أهمهم والده الشيخ أحمد الزرقا، وكذلك الشيخ محمد الحنفي، كما تأثر بالشيخ محمد راغب الطباخ،
عيّن الشيخ أستاذاً في كلية الحقوق عام 1363هـ - 1944م لتدريس القانون والشريعة الإسلامية، كما قام بالتدريس في كلية الشريعة عام 1373هـ - 1954م.
رشّح الشيخ نفسه لعضوية مجلس النواب عن مدينة حلب لعام 1373-1377هـ - 1954-1958م. وفي المجلس شكّل الجبهة الإسلامية مع الدكتور مصطفى السباعي والأستاذ محمد المبارك رحم الله الجميع.
في عام 1375هـ - 1956م. تولى وزارتي العدل والأوقاف لفترة محدودة، ثم جاءت وزارة الدواليبي ليعود فيها الشيخ الزرقا إلى نفس الوزارتين حتى قيام الانقلاب العسكري.
لقد كان الشيخ الزرقا يجمع بين العلم الشرعي العميق، وبين الإدراك التام لمشكلات العصر مما أهّله لإعطاء حلول عمليةٍ نابعة من الشريعة الإسلامية للنوازل الفقهية.
حصل الشيخ على جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية عام 1404هـ - 1984م. على كتابه المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي.
للشيخ مؤلفات عديدة منها: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد. أحكام الأوقاف. عقد التأمين وموقف الشريعة منه.
توفي الشيخ مصطفى بن أحمد الزرقا في 19/3/1420هـ - 3/7/1999م. في مدينة الرياض. رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.
هذا الكتاب جاء مرتب ترتيباً منطقياً: فالقسم الأول منه يتكلم عن الفقه ومصادره والترتيب التاريخي لهذه المصادر، وتطور الفقه والأدوار التي مرّ بها ومميزاته في كل دور. والقسم الثاني يتناول النظريات الأساسية العامة : نظرية الملكية وما يدخل تحتها من أسباب الملكية وتقسيم الملك وخصائص الملكية، ونظرية العقود وما يدخل تحتها من تكوين العقد والإرادة وشوائبها وآثار العقود والفسخ والبطلان وغير ذلك مما تتناوله عادة الكتب القانونية، ثم نظرية الأهلية والولاية.. إلخ وهكذا يسير الكتاب من نظرية إلى نظرية فلا يترك نظرية حتى يوفيها حقها من البحث ويوفي ما يدخل تحتها من فروع حقها من البحث. ومؤلف الكتاب لا ينسى أن يذكر بجوار المصطلح الإسلامي المصطلح القانوني ليبيّن الفرق بينهما في دقة التسمية، وليوسع بذلك معلومات القاريء، وينبه ذهنه إلى الموازنة والتعمق في الفهم. والمؤلف الجليل الذي بذل هذا المجهود العظيم وأخرج هذا الكتاب الكريم هو الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الزرقا أستاذ الحقوق المدنية والشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بدمشق.
الكتاب في الحقيقة دراسة للمجلة العدلية(القانون المدني العثماني القديم) يقول الدكتور منير العجلاني عن هذا المدخل: (إنما حاول أن يدرس المجلة كما يدرس الأساتذة الفرنسيون في كلية الحقوق بباريس مادة القانون المدني، فجمع من أحكام القرآن والحديث وآراء الفقهاء، من مختلف المذاهب، ما يؤلف نظريات عامة تشبه النظريات الأوروبية الحديثة، وقد وفق في محاولته توفيقاً كبيراً، فمن قرأ كتابه خرج منه بفائدتين: النظريات الفقهية الجديدة، وله فضل إخراجها، وآراء الفقهاء التي لخصت للقارئ فأغنته عن قراءة عشرات من كتب الفقه)
الكتاب يستحق صاحبه أبلغ الثناء وأعظم التقدير، وهو كتاب قوي بمادته، وصاحبه رجل متوقد الذكاء، جمع بين الثقافتين الدينية والقانونية ؛ قوي بلغته، فالأستاذ الزرقاء فقيه أديب، وأسلوبه في الكتابة يكاد ينسيك صعوبة المادة وجفافها...
دقة فذة في التعبير بقلم عالم كبير من علماء الفقه والقانون والكتاب ألف في الثلاثينات من القرن الماضي وخضع لمراجعات مستمرة من المؤلف فلا تجد فيه إلا التبسيط العميق لكبرى النظريات الفقهية