What do you think?
Rate this book


127 pages, Paperback
First published January 1, 2010
ذلك الصباح كان غير اسود، كان بردا، وكنا شموعا صغيرة. أعقاب شموع صغيرة تنوس وتوشك ان تنطفئ، كان يكفي أن تغلق امنا الباب، وتأتي الينا، وتضطجع مثلنا، تاركة للغيمة ان تغمرها، وللراحة ان تشملها، وللبيت الطيني ان يوارينا، حتى يفطن الينا من يوارينا الثرى
الأطفال استسلموا لقدرهم، الموت نوم ثم لا شيء، والنعاس فاتحة النوم، وذبول الجسوم الصغيرة أوصل هذه الجسوم إلى الخدر النعاسي، ولم يبق إلا أن يطبق الأطفال جفونهم ويناموا، مع أمهم، النوم الأبدي. لكن الأم، وهي جائعة، ومريضة، ومغمورة بضبابية غازيّة مسمّمة، شُلّت فيها القدرة على الحركة، تنتفض فيها روح الأمومة، فتحاول النهوض وتسقط، وتحاوله من جديد وتسقط من جديد، وبعد عدد من المرات تفلح أن تقوم، هي الميتة، من بين الأموات، فتتحامل على نفسها، وتجرجر قدميها لتبلغ أي بيت أو ترى أيّ مخلوق تستنجد به لإنقاذ أطفالها
مطر، مطر، مطر، جو رمادي، والسماء، على مدى البصر، فضاء عبوس، كأن لا شمس، بعد، ولا قمر، مطر، ولا شيء غير المطر. سيور من ماء، صبيب غربال لا حد لسعته، وحقول جرداء من كل الأطراف، ومطر، وأنا، في الاصباح، في الأصائل، أراقب المطر. أتابع، وسط الوحول، كيف تتشكل فقاعات الماء وتمضي، وتنطفئ، لتتشكل، وتنطفئ، ومن الأغصان العارية تنقط دموع، وتنطفئ، وشيء ما، كالأغنية ذات الأنين، كالنواقيس البعيدة، يوقع لحناً خاصاً رتيبا وحزيناً!
مطر، مطر، مطر، ولا شيء غير المطر، والأم، حول الموقد، تحكي عن الله والبشر، عن نوح وسفينته والطوفان.
فإنها تكافح ببسالة نادرة، بمفاداة قدسية، بنكران ذات تعرفه هي وحدها، كي تحمل صغارها، في فلك من صنع حنانها هذه المرة، وسط طوفان الخوف والفقر والمذلة، إلى يوم تتلامح في أفق حياتها تلك الحمامة وفي منقارها بشارة الخلاص.
سيداتي سادتي !
في سفري الطويل "أنا الجناح الذي يزهو به السفر" أحاول في ذاتي أن أهرب من ذاتى، ظنا منّي أن في الهرب من الذات، أجد خلاصي من دورة الفكر التي تلوبُ في دماغي، منقبةً عن المستور فيه، وعن المسكوت عنه، لتظهرهما إلى الناس، فوق كل ما عرف الناسُ عنّي في رواياتي، وفي المقابلات الصحفية التي أقول فيها الحقيقة ولا أبالي!
إنني عند نفسي، صفحةٌ بيضاء، لكنني، في خبث اللاشعور ، لستُ كذلك.
إنني لستُ ممن يضعون أقدامهم في البحرِ ، ويدعون أنهم عَرفُوا البحر، ولستُ من الذين يتأنقون في الكلم لوجه السفسطة، بل من الذين يعتصرونَ الكلمة، ينقبون عنها، كما يفعلُ الصيادون في الماء المتجمد، حتى أعثر عليها، لأنه، في شرعي، أن للمعنى الواحد كلمةً واحدةً، إذا لم نجدها علينا أن نتوقف عن الكتابة حتى نعثر عليها، وفي سبيل العثور عليها، قضيت ليلةً كاملةً، وفي الغَدِ، وفي طقوسي عندما أكتب، وجدتُ الكلمة الضالةَ، فوضعتها حيثُ يجب أن توضع، ثم خرجت من المكتب إلى الشوارع يدي في جيب بنطالي، وشفاهي تُرسل صفيرًا منغما، لأغنية نسيتها الآن.