ولأن الكتاب قامت فكرته على رصد قصائد لم ينشرها أصحابها فتم وأدها في مهدها، أو لعلهم محوها قبل موتهم، أو أنهم أسمعوها لأهل الثقة الذين أخذوا عليهم العهود ألا ينشروها فأنت حينئذ تجري وراء السراب. ولأن الكاتب أقام بناء كتابه على قصيدة وحيدة كاملة أوردها الطبري، ونصّ باللفظ على أنها (مما كان يكتّم) ولم يجد الكاتب بعد ذلك إلا نتفًا يسيرة ، وشذرات غير مكتمة لشعراء رآهم أولى بالتكتيم لظروف سياسية فإنه أراد مما ظهر أن يستدل على ما خفى، ورصد للغائب سمات فنية فجاء الحديث ملتويا ، والأحكام ظنية. وعد الكتاب بالكثير ولم يستطع الوفاء بالعهد ، حسبه أنه اجتهد في البحث عن مجهول غاب عنا للأسف كان أولى به أن يخرجه في صورة بحث يُنشر في دورية أو ينتظم ضمن مجموعة لا أن يفرده في كتاب حاول أن يملأ صفحاته بما لا غناء منه.
عندما كان المؤلف يقرأ تاريخ الطبري، قروقع على نص علق به ابن جرير الطبري على قصيدة لأعشى همدان في رثاء جماعة من الشيعة الخارجين عن الدولة الأموية في أعقاب مقتل الحسين بن علي، وهو قوله: (وهي من المُكتَّمات، كُنَّ يُكتمن ذلك الزمان)
فقال في المقدمة: كانت هذه الإشارة والحادثة والقصة والقصيدة، بل والعصر، مثيرا لا يقاوم، دفعني بشوقٍ عارم إلى البحث في بطون عشرات من الكتب عن (المكتمات) وكنتُ لا أظفر عادة بشيء، ولكن القليل الذي ظفرت به كان كافيًا لإيضاح القصة وإبراز الصورة الجديدة للحياة السياسية والاجتماعية والأدبية في هذا العصر المفعم بالإثارة.
يبدو حماسيا بعض الشيء، ولكن يحسب له إقتحامه ميدانًا لم يتصدّ له أحدٌ من قبل، وهذا الميدان شائك للغاية، فهو يقرر منذ البدء أن المكتمات يصعب الاستدلال عليها، فربما هي تُقرأ الآن دون حجر فلا نعرف إذ كانت في زمان نظمها من المكتمات أم لا!، وأيضًا بسبب طبيعة المكتمات فهي معرضة للضياع لأنها كانت تنتقل شفويًا بين الخاصة والأصدقاء، وهذا يترتب عليه نتيجة أنها معرضة للتشويه والتحريف، وقد تنقلها إلينا كتب التاريخ والأدب القديمة دون إشارة إلى أنها من المكتمات، ولكننا قد نعرفها بقرائن أخرى مثل الموضوع الذي تتناوله وظروف ومواقف عصرها، إذن فالأمر كله كما قال المؤلف كـ(البحث عن إبرة ضائعة في كومة قش في حجرة مظلمة)
هل وُفّق المؤلف!، لا أدري!، ولكنني كثيرًا أحسست أنه يستطرد من الفراغ ويحاول إيجاد المزيد ليقوله، فقصائد المكتمات في هذه الدراسة قليلة، وفي خضم الكتاب ترك العصر الأموي ليتحدث عن قصيدة معاصرة اعتبرها من المكتمات أيضًا، وهي قصيدة (رسالة في ليلة التنفيذ)، لهاشم الرفاعي، ويتناولها بالدراسة ويصحح بعض الأقاويل المغلوطة التي تحدثت عنها وعن موقف نظمها.
لا يهم!، ولكن في الكتاب قد نعتبر أن معظمه يتحدث عن مكتمات الشيعة، وخاصة القصائد التي قيلت في الحسين وشهداء كربلاء عليهم رضوان الله تعالى أجمعين، وقصائد مراثي أهل البيت الشريف، وحول الوضع السياسي في العصر الأموي وأحوال الشيعة فيه، يدور – كما أسلفت – جلُّ هذا الكتاب، وتدور بعض الصفحات في أشياء جانبية، مثل مَن هو أول من رثى أهل البيت، وما هي تراجم أشهر شعراء الشيعة مما قصائدهم كانت تُكتم في عصرها ولا تتناولها الألسن خوفًا من بطش الخليفة الأموي! ولا يخفي أن من المكتمات بطبيعة الحال القصائد التي قالها الشعراء الشيعة في الانتقاص وذكر مسالب بني أمية، وفي هذه القصائد وجد المؤلف وجبة دسمة من المكتمات.
ويذكر في الكتاب منوّعات أدبية، لا أستسيغ أبدًا أن أعتبرها من المكتمات، وإنما أتى بها المؤلف للاستطراد، مثل قصة كتاب الأغاني عن قيس لبنى عندما سعى (ابن ابي عتيق) في رد لبنى عليه، فال يمدحه: جزى الرحمن أفضل ما يجازي على الإحسان خيرًا من صديقِ
فقد جربت إخواني جميعًا فما ألفيتُ كابن أبي عتيقِ
سعى في جمع شملي بعد صدعٍ ورأي حدت فيه عن الطريقِ
واطفأ لوعةً كانت بقلبي أغصتني حرارتها بريقي
.. فقال له ابن أبي عتيق: يا حبيبي!، امسك عن هذا المديح فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا!! ، وكذلك قصة جرير، التي أوردها كتاب الأغاني أيضًا – وهو من أبرز مصادره هنا – لما أتى له نعي الفرزدق، فقال جرير من فوره: مات الفرزدق بعدما جدّعته ليت الفرزدق كان عاش قليلا
فقال له المهاجر بن عبد الله: بئس لعمر الله ما قلت في ابن عمك!، اتهجو ميتًا!، أما والله لو رثيته لكنت أكرم العرب وأشعرها! فقال جرير: إن رأى الأمير أن يكتمها عليَّ فإنها سوءة!
.. فحتى لو قال جرير كلمة (يكتمها) فإن هذه الأحداث وما شابهها لا تدخل في طبيعة المكتمات على الإطلاق كما فسرها المؤلف في الفصل الأول!، فليس كل شاعر يقول لآخر: استر ما قلتُ يسترك الله!، يعتبر ما قاله من المكتمات!
وأعجبني تواضع المؤلف، فهو يقول في نهاية الكتاب:
وليست هذه هي الكلمة الأخيرة في المكتمات، ولكنها فاتحة، ونأمل أن يمكننا البحث الدقيق فيما بعد، من العثور على مزيد من المكتمات ومعرفة موسعة عنها.