يقترب القطار حاملاً وفود الشعر من كل قطر عربي... أبواب المقصورات مشرعة ومنها ينتقل شباب الكلمة والصحفيون من واحدة إلى أخرى حيث مجالس سحر الكبار يطارح فيها الشعر والشوق والذكريات...غداً مهرجان المربد. وكنت كعهدك دائماً "سامر الحيّ" الذي يتلفت حوله المحبون... يتباطأ السير، فينهض العديد ليطلوا برؤوسهم من النوافذ، ومن بعيد تلوح حشود آلاف البصريين بلافتاتهم الحاملة كلمات الترحيب الحلوة بالضيوف. يقترب القطار أكثر... كانت هذه التظاهرة تهزج بفرح وحماس ينقطع صخب جرير العجلات فيسمع القادمون الأصوات الهادرة بوضوح... غالبية الوافدين لا تتحرك من أماكنها قرب النوافذ ترقب بانفعال هذا المشهد.. أحد الضيوف يتسمر مشدوهاً على عتبة سلم العربة، ويلتفت إلى جاره بعينين تغرورقان بالدموع منصتاً: "جواهري أهلاً بيك شعب العراق يحييك، جواهري أهلاً بيك كل البصرة تفرح بيك".
وها هو الجواهري بديوانه يطل صادحاً بأحلى المعاني التي صاغها الجواهري في لحظات فرح الوطن وحزنه، وفي لحظات حضوره وغيابه وفي لحظات التنائي، وفي لحظات يهدر شعره معبراً عن خفقات قلب أضناه الاغتراب وعذابات نفس طالت عليها ليالي الألم.
وفي لحظات ينساب شعر انسياب قطر الندى في فجر عطر الحب أنفاسه، معبراً عن الحياة وعبق الحياة، وفي لحظات يتبختر شعره صفحات كأنها تلك المنسوجة في عصر الشعر الذهبي.. قصائد ومعاني، أغراض ومناسبات، موسيقى وإيقاعات يفترّ عنها ثغر ديوان هو للجواهري وهو للجواهر أقرب.
هذا وأن أهم ما يميز هذه الطبعة أنها تزينت بمقتطفات عن رحلة حياة الجواهري كتبها نجل الشاعر الدكتور كفاح محمد مهدي الجواهري، مع خاطر هي بوح نفس نقدت أثيرها، وهو حين قرر طبع هذه المجموعة الكاملة لشعر أبيه، بذل جهداً في جمع كل ما طبع ناقصاً من القصائد في الطبعات السابقة، بعد عثوره على ما يكملها في أوراق الشاعر، هذا فضلاً عن القصائد والمقطوعات التي تنشر في هذه الطبعة لأول مرة وقد اشتملت هذه الطبعة على 432 قصيدة ومقطوعة. ولهذه الطبعة ميزة أخرى هي المعلومات المهمة التي تتحدث عن المناسبات أو الظروف التي قيلت بها بعض القصائد.
ولد الشاعر محمد مهدي الجواهري في النجف في السادس والعشرين من تموز عام 1899م "تختلف الروايات في ذلك" ، والنجف مركز ديني وأدبي ، وللشعر فيها أسواق تتمثل في مجالسها ومحافلها ، وكان أبوه عبد الحسين عالماً من علماء النجف ، أراد لابنه الذي بدت عليه ميزات الذكاء والمقدرة على الحفظ أن يكون عالماً، لذلك ألبسه عباءة العلماء وعمامتهم وهو في سن العاشرة.
تحدّر من أسرة نجفية محافظة عريقة في العلم والأدب والشعر تُعرف بآل الجواهر ، نسبة إلى أحد أجداد الأسرة والذي يدعى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر ، والذي ألّف كتاباً في الفقه واسم الكتاب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام " . وكان لهذه الأسرة ، كما لباقي الأسر الكبيرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية .
قرأ القرآن الكريم وهو في هذه السن المبكرة وتم له ذلك بين أقرباء والده وأصدقائه، ثم أرسله والده إلى مُدرّسين كبار ليعلموه الكتابة والقراءة، فأخذ عن شيوخه النحو والصرف والبلاغة والفقه وما إلى ذلك مما هو معروف في منهج الدراسة آنذاك . وخطط له والده وآخرون أن يحفظ في كل يوم خطبة من نهج البلاغة وقصيدة من ديوان المتنبي ليبدأ الفتى بالحفظ طوال نهاره منتظراً ساعة الامتحان بفارغ الصبر ، وبعد أن ينجح في الامتحان يسمح له بالخروج فيحس انه خُلق من جديد ، وفي المساء يصاحب والده إلى مجالس الكبار .
أظهر ميلاً منذ الطفولة إلى الأدب فأخذ يقرأ في كتاب البيان والتبيين ومقدمة ابن خلدون ودواوين الشعر ، ونظم الشعر في سن مبكرة ، تأثراً ببيئته ، واستجابة لموهبة كامنة فيه .
كان قوي الذاكرة ، سريع الحفظ ، ويروى أنه في إحدى المرات وضعت أمامه ليرة ذهبية وطلب منه أن يبرهن عن مقدرته في الحفظ وتكون الليرة له. فغاب الفتى ثماني ساعات وحفظ قصيدة من (450) بيتاً وأسمعها للحاضرين وقبض الليرة .
كان أبوه يريده عالماً لا شاعراً ، لكن ميله للشعر غلب عليه . وفي سنة 1917، توفي والده وبعد أن انقضت أيام الحزن عاد الشاب إلى دروسه وأضاف إليها درس البيان والمنطق والفلسفة.. وقرأ كل شعر جديد سواء أكان عربياً أم مترجماً عن الغرب .
وكان في أول حياته يرتدي العمامة لباس رجال الدين لأنه نشأ نشأةً دينيه محافظة ، واشترك بسب ذلك في ثورة العشرين عام 1920م ضد السلطات البريطانية وهو لابس العمامة ، ثم اشتغل مدة قصيرة في بلاط الملك فيصل الأول عندما تُوج ملكاً على العراق وكان لا يزال يرتدي العمامة ، ثم ترك العمامة كما ترك الاشتغال في البلاط الفيصلي وراح يعمل بالصحافة بعد أن غادر النجف إلى بغداد ، فأصدر مجموعة من الصحف منها جريدة ( الفرات ) وجريدة ( الانقلاب ) ثم جريدة
يا دجلةَ الخير: قد هانت مطامحنا حتى لأدنى طماحٍ غيرُ مضمونِ يا دجلة الخير والدنيــــا مُفارَقةٌ وايُّ شرٍّ بخيرٍ غـــــــيرُ مقرون. وايُّ خيرٍ بلا شرٍّ يلقِّــــــحُهُ
......
لم يبق عندي ما يبتزه الألم ُ حسبى من الموحشات الهم والهرم ُ لم يبق عندى كفاء الحادثات أسى ولا كفاء جراحات تضج دم
.....
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا تَجري على رِسْلِها الدُنيا ويتبَعُها رأيٌ بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد
.......
رُدُّوا إلى اليأسِ ما لم يَتَّسع طَمَعا شَرٌّ من الشرِّ خوفٌ منه ان يقَعا شَرٌّ من الأمَلِ المكذوبِ بارقُه ان تحمِلَ الهمَّ والتأميلَ والهَلَعَا قالوا " غدٌ " فَوَجَدتُ اليَومَ يفضُلُه و " الصبر " قالوا : وكان الشَهمُ من جَزعاً ولم اجدْ كمَجالِ الصَبرِ من وَطَنٍ يَرتادُه الجُبْنُ مصطافاً ومُرتْبَعَا وأنَّ من حَسَناتِ اليأس أنَّ له حَدّاً ، اذا كَلَّ حَدُّ غيرهُ قطَعَا وأنَّه مُصحِرُ الارجاءِ لا كَنَفاً لمن يَلَصُّ ولا ظِلاً لمنْ رَتعا وَجَدْتُ أقتَلَ ما عانَت مصايُرنا وما التَوَى الشَيبُ منه والشَبابُ معا أنَّا رَكِبِنا إلى غاياتِنا أمَلاً رَخواً إذا ما شدَدْنا حَبلهُ انقطعا نسومُه الخَسْف ان يَطوي مراحلَنا وإن تشَكَّى الحَفَا ، والأينَ ، والضلعا هذا هو الأمَلُ المزعومُ فاقتَرِعُوا واليأسُ أجدَرُ لو انصَفْتَ مُقتَرعا
كنتُ دوماً أقول لمن حولي .. كنز المكتبة الأدبية في المنزل مجلدات الجواهري .. هذا العراقي المعتّق بالحزن و المتفرّد بالبلاغة .. و لا يعجبني درويش في عموم شعره .. لكن يكفيه إبداعاً بوصفه الجواهري قائلاً أن في العراق ثلاثة أنهار دجلة و الفرات و الجواهري ..