إن أثر الدين الصحيح هو إصلاح القوم الذين خوطبوا به، وانتشالهم من حضيض الانحطاط إلى أوج السمو على نحو مراد الله من الدين ومن الأمة المخاطبة به، ولما كانت دعوة الإسلام تخالف ما سبقها مخالفة بينة من جهة كونها ديناً عاماًّ، ومن جهة اتساع أصول الدعوة، ومن جهة امتزاج الدين فيها مع الشريعة، فقد ضبط للأمة أحوال نظامها الإجتماعي في تصاريف الحياة كلها تكملة للنظام الديني الذي هيأ أفراد الناس للاتحاد والمعاشرة، ثم ألزم متبعي عقيدته ما خطط لهم من قوانين المعاملات، فجاء هذا الكتاب ليرصد من كتب السنة والسيرة النبوية وكتب الأخبار الصحيحة أخلاق أفاضل المعلمين ومحاسن هذا الدين ومجتمعه بقوانينه وأسسه التي ثبتها المولى عز وجل في تشريعه ودينه.
محمد الطاهر بن عاشور عالم وفقيه تونسي، أسرته منحدرة من الأندلس ترجع أصولها إلى أشراف المغرب الأدارسة، تعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته.
كان على موعد مع لقاء الإمام محمد عبده في تونس عندما زارها الأخير في رجب 1321 هـ الموافق 1903 م. سمي حاكما بالمجلس المختلط سنة 1909 ثم قاضيا مالكيا في سنة 1911. ارتقى إلى رتبة الإفتاء وفي سنة 1932 اختير لمنصب شيخ الإسلام المالكي، ولما حذفت النظارة العلمية أصبح أول شيخ لجامعة الزيتونة وأبعد عنها لأسباب سياسية ليعود إلى منصبه سنة 1945 وظل به إلى ما بعد استقلال البلاد التونسية سنة 1956. من أشهر أقرانه الذين رافقهم في جامعة الزيتونة: شيخ الأزهر الراحل محمد الخضر حسين، وابنه محمد الفاضل بن عاشور كان بدوره من علماء الدين البارزين في تونس.
كان أول من حاضر بالعربية بتونس في القرن العشرين، أما كتبه ومؤلفاته فقد وصلت إلى الأربعين هي غاية في الدقة العلمية. وتدل على تبحر الشيخ في شتى العلوم الشرعية والأدب. ومن أجلّها كتابه في التفسير "التحرير والتنوير". وكتابه الثمين والفريد من نوعه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، وكتابه حاشية التنقيح للقرافي، و"أصول العلم الاجتماعي في الإسلام"، والوقف وآثاره في الإسلام، ونقد علمي لكتاب أصول الحكم، وكشف المعطر في أحاديث الموطأ، والتوضيح والتصحيح في أصول الفقه، وموجز البلاغة، وكتاب الإنشاء والخطابة، شرح ديوان بشار وديوان النابغة...إلخ. ولا تزال العديد من مؤلفات الشيخ مخطوطة منها: مجموع الفتاوى، وكتاب في السيرة، ورسائل فقهية كثيرة.
كتاب فريد يهدف إلى تقديم تصور فلسفي عن ضرورة قيام إطار مجتمعي (دولة) يمكن فيه تطبيق المبادئ والتشريعات التي تضمن الحرية والمساواة والعدل بين أفراد المجتمع.
هذا الملخص لا يمكن أن يكون بديلا عن قراءة الكتاب بأي حال من الأحوال؛ فالكتاب فيه فوائد لا يمكن تحصيلها إلا بقراءة كل صفحة فيه، ويحتاج كذلك إلى صبر، فالفوائد موجودة في ثنايا الكتاب، ولغة المؤلف، وعباراته ليست يسيرة.
أنصح أن يقرأ هذا الكتاب المهتمون بالفكر، أو الفلسفة، أو السياسة، أو علم الاجتماع، أو الدراسات الإسلامية.
ويقوم الكتاب على أسس فكرية متينة وعميقة وجديرة بالدراسة، منها: الفطرة هي المشترك الإنساني بين جميع البشر، وهي الجامع بينهم، وما ينبغي التركيز عليه في التواصل معهم. ولا يمكن أن يكون هناك تناقض أبدا بين الفطرة والإسلام. التشريع الإسلامي يهدف إلى تحقيق المصالح للناس، ولا يمكن أن يكون هناك تشريع ضد الصالح العام للمجتمع. نجاح المجتمع لا يكون إلا بعاملين: الوازع الأخلاقي لدى الأفراد، والمراقبة والمحاسبة من قبل المجتمع. لا بد من إصلاح أربع جوانب مهمة عند كل فرد: الفكر، الأخلاق، العمل، الاعتقاد. الدولة منوط بها أربعة ملفات أساسية: الأمن والدفاع والاقتصاد والعدل، ولا يعني هذا التفريط في باقي الملفات من تعليم وصحة ورفاهية. يجب أن يشترك جميع أفراد المجتمع في اختيار من يحكمهم و/أو من يمثلهم. هناك مجموعة قيم أساسية للفرد، والمجتمع في داخله، وعلاقة الدولة بالخارج لا بد من رعيها، من أهمها: الحرية، والعدل، والمساواة، والسماحة، والمواساة.
تحليل نقدي سلس يقترب من العقل والفطرة، يشرح الإسلام كنظام اجتماعي مطلوب لإصلاح الفرد والمجتمعات. محمد الطاهر بن عاشور.. اسم احتفظت به في ذهني بمجرد قراءة تفسير قصير لقصة ذي القرنين، وقد ذُيل التفسير المتقن بهذا الاسم، أُعجبت بأسلوبه، ولم أسمع أو أقرأ عنه من قبل شيئا. ومع اقتناء هذا الكتاب بهذا الموضوع العميق علمت أني سأصحب "مُعلما".
جامعة إسلامية أو مجتمع إسلامي لا يقوم على فكرة "التدين الفردي" التي ينادي بها البعض، الفكرة نفسها التي لم أستسغها ولم تكن يوما قد وافقت حالة المسلمين في مجتمعاتهم، في زمننا الراهن وما قبله. وقد رأى علماء الاجتماع ذلك حين عدّوا حالة الدين والعقيدة من أكبر أسباب النهوض والسقوط، فإصلاح آحاد الناس يعني إصلاح المجتمع الذي يشكلونه، القائم على أصول مقننة من وحي إلهي لا تشوه الفطرة ولا تميل عن الصواب.
يبدأ الإمام ابن عاشور بتعريف ماهية الإسلام فلسفيا ودينيا، ودعوة الدين إلى التمسك بالحقائق دون الأوهام، وهذا يظهر في المعتقدات والعبادات والمعاملات والمعارف العقلية. ثم يقسم الكتاب إلى قسمين: إصلاح الفرد، وإصلاح المجتمع. وحقيقة الأمر أن ما قرأته هنا ليس جديدا عليّ وليس مخفيا عن غالبية البشر، فالاعتقاد والتفكير والعمل أمور مرتبطة ببعضها، إذا صلح الفكر أو العقل صلحت الحياة، وإذا فسد تأذت الأفراد والمدن، وهذا يفسر الاختلاف الثقافي بين الشعوب والحضارات، وبين المذاهب الإسلامية نفسها. إلا أن التحقق من صلاح الاعتقاد أو الفكر هو الفارق الذي نهضت به أمم وسقطت به أخرى. علاوة على الوازع النفسي في ثبوت الاعتقاد/ الدين فيبقى الفرد متيقظا في شؤون حياته اليومية إذا ما اعترضه أمر يبعده عن الصواب.
المساواة، الحرية، العدل، وتغيير المنكر، مبادئ ننادي بها ونجهل كيف نطبقها، وهي الأصول التي أقامها الإسلام وتقوم عليها الجامعة الإسلامية. تذكرت حينها الجماعات التي تنادي بالشعارات الفارغة التي تعلو إعلامنا ولم تحقق من أغراضها شيئا يذكر لأنها لا تورد في محلها المناسب ولا تفهم لمن ومتى يجب أن يُنادى بها.
واختتم ابن عاشور كتابه بالتسامح، الصفة التي ميزت الإسلام عن غيره من الديانات والنظم الاجتماعية. وهنا زاد عدد التساؤلات في عقلي من جديد: متى نتسامح؟ المظاهر العديدة في مجتمعاتنا وتمس الاعتقاد كيف يمكن التغافل عنها، وإلى أي حد؟ هل ما أبدينا فيه تسامحا كان سببا للتهاون؟ متى تتوقف حرية الآخرين -التي اكتسبوها من القوانين البشرية- ونعلم جميعا أنها مضرة بمجتمعاتنا؟
في خضم التحولات الفكرية العميقة التي شهدها العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين، يبرز كتاب "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" للشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور كمنارة فكرية فريدة، لا يقف عند حدود استعراض الأحكام، بل يغوص في أعماق الفلسفة الاجتماعية للإسلام ليكشف عن أسسها الكلية ومقاصدها الحضارية. لم يكن هذا السِفر مجرد تأليف تقليدي، بل كان استجابة واعية لتحديات عصره، وجزءاً لا يتجزأ من مشروع ابن عاشور الإصلاحي الكبير. فهذا الكتاب هو النظير الفلسفي-الاجتماعي لمشروعه الضخم في التفسير والمقاصد، إذ يسعى فيه لاستخلاص إطار حضاري متكامل من ذات الأصول الكلية التي حكمت فهمه للقرآن والشريعة. لقد دفعت الشيخ، كما بيّن في مقدمته، ملاحظته لحال "النابتة الإسلامية" التي انحصر فهمها للدين في حدود العقائد الشخصية وتفاريع الأحكام الفردية، وعجزها عن خوض الحوارات الفكرية الكبرى والدفاع عن المنظومة الحضارية للإسلام. من هذا المنطلق، لم يكتب ابن عاشور ليناظر الفقهاء، بل كتب ليخدم جيلاً جديداً، وليقدم له رؤية متكاملة تبرز "روح الإسلام وحقيقته"، وتكشف عن الأسباب التي جعلت منه ديناً قويماً قادراً على تأسيس "الرقي وانتشار العمران". إن الغرض الجوهري للكتاب، بأسلوب ابن عاشور الأدبي الرفيع، هو البحث في "مقدار تأثير الإسلام في أسس المدنية الصالحة"، وبيان كيف يمكن للمسلم أن يستلهم منه مرشدات تهدي إلى "مناهج الخير والسعادة". إنه ليس مجرد دفاع عن الإسلام، بل هو كشف عن عبقريته الكامنة في بناء نظام اجتماعي متكامل، يبدأ من الفرد وينتهي بالأمة، ويربط بين الإيمان والعمران في وحدة عضوية متماسكة. هذه الرؤية الكلية تتجلى بوضوح في البنية المنهجية المحكمة التي اختارها المؤلف لكتابه. لم تكن بنية الكتاب التي اختارها ابن عاشور مجرد تقسيم شكلي، بل هي جزء لا يتجزأ من رسالته الإصلاحية العميقة، فهي تعكس فلسفته في أن بناء الحضارات يبدأ من بناء الإنسان. لقد أقام المؤلف كتابه، كما أوضح في خاتمة مقدمته، على قسمين رئيسيين متكاملين: القسم الأول: في أصول إصلاح الأفراد. القسم الثاني: في أصول إصلاح المجتمع. يكمن المنطق العميق وراء هذا الترتيب في رؤية ابن عاشور بأن المجتمع الصالح ليس إلا "كل ملتئم من أجزائه"، وأن إصلاحه متوقف بالدرجة الأولى على "إصلاح الأفراد". فلا يمكن بناء مجتمع متين على أجزاء فاسدة، "إذ كما كان المبني على الفاسد فاسداً يكون المبني على الصالح صالحاً". بهذا المنهج المتدرج، يأخذ ابن عاشور القارئ في رحلة تبدأ من نواة الإصلاح، وهي النفس الإنسانية، فيعالج أسس "إصلاح الاعتقاد" و"إصلاح التفكير" و"إصلاح العمل". ثم ينتقل من هذه القاعدة الصلبة ليبني عليها نظاماً اجتماعياً متكاملاً يعالج فيه أسس سياسة الأمة وقواعدها. إن هذه البنية لا تعكس مجرد منهجية تأليف، بل تكشف عن فلسفة حضارية متكاملة، ترى في صلاح الباطن أساساً لصلاح الظاهر، وفي صلاح الفرد شرطاً ضرورياً لصلاح الأمة. ومن رحم هذا البناء المنهجي المتين، الذي يرى في الفرد أساس العمران، تتوالد الأفكار المحورية التي تمنح الكتاب قيمته الخالدة. ------------ إن القيمة الحقيقية لكتاب "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" لا تكمن في جمعه للأحكام الجزئية، بل في الأفكار التأسيسية العميقة التي يقدمها، والتي تتجاوز الفقه التقليدي لترسي دعائم فلسفة اجتماعية إسلامية متكاملة. لقد استخلص ابن عاشور من نصوص الوحي أصولاً كلية تشكل روح التشريع ومنطلق العمران، ومن أبرز هذه الأفكار: يعتبر ابن عاشور مفهوم "الفطرة" الأصل الجامع الذي تنبثق منه جميع أصول الإسلام وقواعده. لكن ابن عاشور لا يطرح هذا المفهوم كقضية مُسلَّمة، بل يؤسس له عبر حوار علمي رصين، فيموضع أطروحته بين رأيين رئيسيين في تاريخ التفسير. فهو ينتقد صراحةً التفسير الضيق الذي ذهب إليه فخر الدين الرازي ومن تبعه، والقائل بقصر "الفطرة" على عقيدة التوحيد فحسب، وينتصر في المقابل للمنهج الأوسع الذي تبناه المحققون كالزمخشري وابن عطية، والذين رأوا أن "الفطرة" تشمل مجموع شريعة الإسلام وأصولها. ثم لا يكتفي بذلك، بل يغوص في تعريف "الفطرة" مستعيناً بالإطار الفلسفي الدقيق لابن سينا، ليميز بين "الفطرة الصادقة" – وهي البداهة العقلية الكلية – وبين "الذائعات" التي قد تكون مجرد عادات متقررة في النفس منذ الصغر. واستناداً إلى تحليله لقوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، يقرر أن الإسلام هو النظام المتوافق مع الخلقة الأصلية للإنسان، عقلاً ونفساً. هذا المفهوم يجعل من الإسلام ديناً عالمياً ودائماً، لأنه يرتكز على "الوصف العظيم المشترك" بين جميع البشر، وهو ما يضمن قبوله في كل زمان ومكان. بناءً على قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، يرى ابن عاشور أن "الاعتدال" أو التوسط هو جوهر الفضائل والكمال، وهو السمة المميزة للشريعة الإسلامية. فالكمال يكمن في إعطاء "كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص"، والتوازن بين طرفي الإفراط والتفريط. يتجلى هذا المبدأ في سماحة الشريعة ويسرها، وهو ما عبر عنه النبي ﷺ بقوله: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة". فالسماحة ليست تساهلاً، بل هي "التيسير المعتدل" الذي يرفع الحرج ويجعل الدين متوافقاً مع طبيعة النفس البشرية، مما يضمن سرعة انتشاره ودوام اتباعه. في واحدة من أجرأ أطروحات الكتاب وأكثرها حداثة، يقدم ابن عاشور فكرة أن "الإسلام حقائق لا أوهام" وقبل أن يطلق أطروحته الجريئة، فإنه يؤسس لها على أرضية معرفية صلبة، مقدماً تفريقاً فلسفياً دقيقاً بين أربعة أنواع من المدركات الذهنية: الحقائق وهي الماهيات الثابتة في نفس الأمر والواقع، والاعتبارات، المعاني النسبية التي لا وجود لها إلا بالارتباط بالحقائق كالأبوة والزمان، والأوهام وهي المعاني التي يخترعها الذهن دون أساس في الواقع، والتخيلات وهي الصور التي تركبها قوة الخيال لأغراض بلاغية. من هذا المنطلق، يقرر ابن عاشور أن الإسلام بنى نظامه العقدي والتشريعي على الحقائق والاعتبارات، ونبذ الأوهام والخرافات، بينما استخدم التخيلات في الأغراض البلاغية فقط. ويستشهد بأمثلة صارخة من السنة، كموقف النبي ﷺ عند كسوف الشمس يوم وفاة ابنه إبراهيم، حيث قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته"، نافياً بذلك الأوهام التي ربطت الظواهر الكونية بمصائر البشر. هذه الأفكار المحورية لا تبقى في إطارها النظري، بل تتحول لدى ابن عاشور إلى أسس عملية لإصلاح الفرد والمجتمع، وتفتح آفاقاً واسعة للتجديد الفكري، مما يمنح الكتاب قيمته المعاصرة والإضافية. لا تكمن عبقرية ابن عاشور في مجرد عرض أفكار الإسلام، بل في قدرته الفذة على استنطاق النصوص لتقديم إجابات عميقة لتحديات الحاضر وفتح آفاق جديدة للفكر الإسلامي. إن الإضافة النوعية للكتاب لا تكمن في طرح هذه المبادئ منفصلة، بل في نسجها ضمن منظومة فكرية متكاملة. فأصل "الإسلام حقائق لا أوهام"يقدم الأساس المعرفي (الإبستمولوجي) الذي يفرض مقاربة عقلانية لنصوص الوحي والواقع. وهذه العقلانية هي الأداة المنهجية لفهم القانون الأخلاقي الكلي المتمثل في "الفطرة" ثم يأتي مبدأ "الاعتدال" كآلية عملية لتطبيق هذه الفطرة الكلية بمرونة وتوازن، فيضبطها بين طرفي الإفراط والتفريط. بهذا، لا تعود هذه المبادئ مجرد قائمة من الفضائل، بل تتحول إلى نظام فكري مترابط يوفر أساساً متيناً لتجديد الفكر السياسي والاجتماعي الإسلامي اليوم. تتجلى فرادة منهج ابن عاشور في قدرته على الجمع بين الأصالة والمعاصرة في توازن دقيق. فهو يغوص في أعماق التراث، مستنداً إلى القرآن والسنة، ولكنه في الوقت ذاته يستخدم أدوات الترشيد العقلي ويخاطب قضايا مجتمعه بوعي حاد. بهذا، يقدم جسراً فكرياً متيناً بين التراث الأصيل وتحديات الحاضر المعقدة، ويفتح الباب أمام قراءة جديدة للدين قادرة على استيعاب متغيرات العصر دون التفريط في ثوابتها. إن قراءة كتاب "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" ليست مجرد تجربة فكرية، بل هي متعة أدبية خالصة. فأسلوب الشيخ ابن عاشور هو جزء لا يتجزأ من قوة رسالته وعمق تأثيرها. تتميز لغته ببيان مشرق ودقة متناهية وإيقاع رصين، حيث يمتزج فيها جزالة البلاغة العربية الكلاسيكية مع الصرامة المنطقية للفقيه الأصولي. تنبض عباراته بروح القرآن ومقاصده، فتأتي جمله محكمة البناء، أنيقة الصياغة، وكأنها، بتعبيره هو، "صورة متقنة ملونة مجموعة محاسن تأخذ بلب الناظر". والمفارقة البديعة أن ابن عاشور استعار هذه الصورة ليصف بها الجمال الكلي الذي يتجلى للمتأمل في سيرة النبي ﷺ، وهو ذات الجمال الذي ينسجه بأسلوبه الخاص، حيث تتكامل رصانة الفكرة مع أناقة العبارة. يبرز جمال أسلوبه في التدرج المنطقي لعرض الأفكار. فهو يبدأ من المبدأ الأخلاقي أو العقدي كقاعدة صلبة، ثم يبني عليه النظام الاجتماعي والسياسي في نسق متماسك يمنح النص قوة إقناعية وجمالية فريدة. هذا التدرج ليس مجرد ترتيب للمعلومات، بل هو انعكاس لرؤيته الفلسفية التي ترى في صلاح الباطن أساساً لصلاح الظاهر. وبتقييم شخصي، يمثل هذا الكتاب متعة حقيقية وفائدة عميقة للمثقف المعاصر والباحث المتخصص على حد سواء. فهو يوسع المدارك ويشحذ الفكر ويقدم زاداً معرفياً وروحياً غنياً. ومع ذلك، فإن عمق الكتاب وكثافة أفكاره يتطلبان من القارئ قراءة متأنية وصبراً فكرياً، فكل فقرة فيه تستحق التأمل، وكل فكرة تفتح باباً لأفكار أخرى. إنه ليس كتاباً يُقرأ على عجل، بل هو رفيق فكري يُعاود القارئ الرجوع إليه مراراً. في نهاية هذه الرحلة الفكرية والأدبية، يبقى كتاب "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" شاهداً خالداً على عبقرية ابن عاشور التجديدية ورؤيته الحضارية الثاقبة. إن رسالته الكبرى، التي تتجلى في كل صفحة من صفحاته، هي أن الإسلام ليس مجرد طقوس فردية، بل هو نظام قيمي شامل يربط بين الفرد والمجتمع، وبين الإيمان والعمران، وبين إصلاح الضمير وبناء الدولة. لقد نجح ابن عاشور في أن يقدم للعالم الإسلامي، وللعالم أجمع، رؤية متكاملة تبرز الإسلام كدين للفطرة والعقل والعدل والرحمة. في زمن تشتد فيه الحاجة إلى خطاب ديني عقلاني وإنساني، يظل هذا السِفر الفكري منارة تهدي الحائرين، وتلهم المصلحين، وتدعو كل قارئ إلى التأمل في معانيه العميقة، وإعادة اكتشاف الروح الحضارية التي تكمن في جوهر رسالة الإسلام.
من أحلامي الصغيرة و القديمة أن تكون لي مكتبتي الخاصّة من مالي الخاص .. و البداية أردتها مع كتب الشيخ العلاّمة التونسيّ محمد الطاهر بن عاشور ..! حريّ بنا كتونسيين أن نفخر بوجود هاته القامة العلميّة صاحبة التحرير و التنوير في تاريخنا الحديث فكتبه كنز للمكتبة التونسيّة و الإسلاميّة عامّة ! و إنني لست بأهل لإبداء رأيي المتواضع في كتبه و لكنني حقا استمتعت جدّا بمنهجيّة الكتاب و ثراء المعلومات و أسلوب الكتابة و اللغة و قضيت وقتا من أمتع ماتكون الأوقات ! فعادة لا احتاج إلى إعادة قراءة كتاب ما إذ تكفيني قراءة واحدة لترسخ في ذهن كل التفاصيل و لكن مع هذا الكتاب فالأمر مختلف فحتى بعد إتمامي له أشتاق لإعادة قراءته مرّة و مرّة و الإستزادة منه .. مالاحضته من خلال كتابه " مقاصد الشريعة " و كتابه هذا " أصول النظام الإجتماعي في الإسلام " دفاع الشيخ و انتصاره لفكرة جوهريّة تقوم عليها باقي حججه و هي أن دين الإسلام هو دين الفطرة ! فيقول : " ثم إن الحكمة في ان جعل الله تعالى دين الإسلام الفطرة انه لما اراد جعله دينا عاما لسائر البشر ، دائما إلى انقضاء هذا العالم ، جعله مساوقا للفطرة المتقررة في نفوس سائر البشر ..." يبدأ الكتاب بالحديث عن الإسلام عامّة فيبيّن انه الحق وحده و ينفي كلّماجاء قبله من أوهام .. و يفصّل أكثر ليهتّم بالفرد بكونه نواة المجتمع و أن صلاحه يكون أولا بصلاح اعتقاده و تفكيره و عمله و اهميّة الوازع النفسي و اكتساب العلم ... ثم يتطرق للمجموعة فيذكر اهمية الاخوة الاسلاميّة ثم يذكر فنون النظام السياسي للتعامل مع المجموعة و ماعلى ولاة الأمور من واجبات تجاه الشعب ! تقريبا هذا ماورد هنا بإيجاز كبير و بدون تفصيل ...و إنني أنصح كلّ شخص بالإطلاع عليه !