يكتب إدوار الخراط: ـــــــــــــــــ تتردد في الخبرة الشعرية في كتاب جرجس شكري "رجل طيب يكلم نفسه" ما يمكن أن اسميه مسألة "الفعل الناقص" أو الشروع في الفعل دون اتمامه, ولعل الخوف وهو تيمة مراودة في هذا الشعر يكمن وراء هذا التردد أو هذا القصور عن اكمال الفعل.
ففي صفحة 45 مثلا يقول: "قبل أن أقرر الانتحار", لكنه لا ينتحر بل يقرر الانتحار, فقط, ويتوقف عند هذا الحد, أو يقول "وشرع في البكاء" (ص 48) ولكنه لا يتمم فعل البكاء, أو "قررت أن أذبح التكنولوجيا" (ص 67) فكأن هناك ايقافا للفعل, أو احجاما عنه, ذلك ان العالم قد أصبح شيئيا في النهاية وقد فـقدت فيه المحبة, وفقدت له أو منه, فكأن شيء فيه يحوم حول فعل ناقص. مما يؤدي بي الى سؤال مفتوح, بل سؤال مفتاحي, يوشك ان يغلقه الشاعر, وهو ما يوحي به النص كله إيحاء قويا :
هل هنا عدمية أم هي إدانة, مكتومة, إدانة مقلوبة على وجهها؟ فإذا كان الفراغ قائما باستمرار, والسقوط قائما باستمرار فهل العالم خواء؟ أم أنه مدان؟
"كمحبة ورغم هذا أحفظ يوم وقعت الشمس في قهوتها" (ص 60)
"حين هاجمها الفراع لأول مرة.. قبل أن يحبسنا لأول مرة.. قبل أن يحبسنا الليل في قمره البعيد شاهدنا ضحكاتنا (ص 25)
السقوط اذن, ومترادفاته تتردد في هذا الشعر منبئة بأن العالم كله في حالة من التردي, فضلا عن الخسارة والفقدان:
"هزوا أركانهم فسقط ما يشبه الشمس في أحذيتهم" "يوقظني النادل ليكنس السنوات التي سقطت أسفل الطاولة" (47)
أتصور انه اتساقا مع الخبرة الشعرية كلها فإن السقوط هنا ليس بالمعنى الديني, أو الروحي, أو حتى الأخلاقي, بل هو السقوط بالمعنى الفيزيقي, أي في السياق الشيئي للعالم وللذات.
وعندما يقول مثلا "يسقط من الضحك", أو "فتسقط ملامحي عاليا " (ص 50) فإنه سقوط متناقض (الضحك والسقوط متناقضان, العلو والسقوط متناقضان) فوق أنه فيزيقي بحت, اذ أنه درامي وجروتسك يصنع عكس ما جبل عليه, السقوط يحمل ضديته في ذاته.
من السمات الرئيسية في هذه الخبرة, تيمات الضياع والفقدان والخسارة وكلها تقترن بالخوف, تتردد هذه "المفردات ـ الرؤى" أو "الرؤى ـ المفردات" في الكتاب وتتواتر بشكل واضح, ولكن الخسارة والفقدان والضياع لا تستثير عند الشاعر ما نتوقعه من اللوعة أو الوجيعة أو الألم, بالعكس تماما هنا هذا التناول الصاحي والبارد للخسارة والفقدان والضياع, ففي صفحة 19 مثلا :
"سنة طيبة يا زوجتي وشمعتين احترقتا سريعا سنة طيبة تسوي شعرها تقص أظافره وحين تخسر أحلامها تضحك مثلنا تماما "
هل رد الفعل الذي ينم عن الضحك ـ مثلنا تماما ـ هو اللامبالاة بالخسارة ـ وخسارة الأحلام التي هي أفدح ربما من كل خسارة ـ أم أن الأمر غير ذلك؟ هل هي عدمية, أم ادانة؟
اما الخوف فهو قرين الخسارة والفقدان, باستمرار, وما دام الخوف مقترنا بالخسارة فهل يمكن ان يكون في هذه الخبرة لا مبالاة حقا , أو عدمية؟
عند هذا الشاعر فإنه حتى المطرة خائفة تتلصص (ص 49) الأشياء تخاف مثلنا تماما ولا تسكر (ص 36) كأن حياة الأشياء انما تتأتى عن الخوف, وعن تمسكها بالصحو, أي تمسكها بمعجم غير داخلي, غير سكران, بل غير قابل للسكر, وغير موار بالانفعال, غير جياش بالعضوية. تلك كلها سمات رئيسية في هذه الخبرة الشعرية اللارومانتيكية.
قصيدة "رجل طيب يكلم نفسه" مصداق لقراءتي, فهذا الرجل الذي هو على نحو من الانحاء قناع للشاعر نفسه, يتصور انه مجرد آلة تصوير وان كل شيء تلتقطه هذه الآلة هو وهم وفارغ "وغالبا ما تحترق أفلامي من الضحك".
تتردد هذه الفكرة أو هذه الخبرة مرة بعد مرة لكنها تصبح نغمة رئيسية في هذه القصيدة, ان احتراق الأفلام في آلة التصوير هذه, لا يؤدي الى الحزن أو اللوعة بل الى الضحك.
أي ان الخوف هنا قد يكون هو في النهاية خوف التلاشي, خوف الموت, لأن الموت ـ الذي يداعبه الشاعر دائما مداعبة سوداء وجروتسكية ـ ماثل في هذا الضوء: "تلاشت كإضاءة خافتة".
اما "السقوط الى أعلى" فكأنه فيه بصيصا من أمل وحيد يـستخلص من السقوط اذ يصبح متجها الى أعلى.
ومن ثم فإن هذا الكتاب ينحو الى أحد اتجاهين رئيسيين في الشعر الحديث كما أتصورهما: الاتجاه الأول هو الاتجاه الرومانتيكي الذي يحمل رومانتيكية في نفسه فإنه يخرج الينا باعتباره مضادا للرومانتيكية ولكنه ـ بما أنه مضاد, ولهذا السبب بالتحديد ـ فهو واع بالرومانتيكية, فهما ضدان ممتزجان, ومن الأمثلة على ذلك الاتجاه كتاب تلويحة النسيان لمحمد بدوي, أو تشكيل الأذى لميسون صقر, اذ قد أوقفتني تسميتها لأحد معارضها "الوقوف على خرائب الرومانسية" اذن الرومانسية قد تخربت لكننا نقف عند الخرائب ولا ننفيها اما عند جرجس شكري فالمسألة مختلفة تماما , اللارومانتيكية عنده هي نفي كامل, أو غياب كامل للرومانتيكية بما في ذلك ما تحمله في ذاتها من نقض لذاتها, هنا بالفعل نقيض صريح للرومانتيكية لا يبتعث ضده ولا يحمله في داخله, بل هو ينفيها ويلغيها, ذلك ان الشيئية تتحقق في الرؤية وفي الصياغة معا .
عندما نتحدث عن الصياغة الشعرية فإننا ـ بداهة ـ نتحدث عن الرؤية الشعرية بلا انفصال لحظة أو طرفة عين, أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر.
ذلك ان معجم هذه الخبرة مشهدي أساسا , أو مسرحي خارجي أساسا وليس باطنيا أو داخليا , وهو عندما يبتعث المشاعر انما يستخدم التجليات الخارجية لها من نحو ضحكنا وصرخنا ودخلنا كالعاصفة وهكذا, أي انه يلجأ لأفعال خارجية ملموسة محسوسة يمكن أن تدخل في سياق الشيئية.
بل اننا نجد القصيدة عنده تقسم الى "مشاهد" كأنها سيناريو أو كتابة مسرحية بل ان "الاضاءة" و "الديكور" يأتي في صلب الشعر, وحتى الحوار يكاد يكون مسرحيا .
هناك هذا الحس إذن بالمسرحية أو المشهدية, وهو طبعا متسق مع رؤية أو خبرة الكتاب كله, لأن المسرحية أو المشهدية هي ما نراه, ما نلمسه من الخارج لا ما نحسه أو يجيش في نفوسنا من الداخل.
فما من شأنه لهذه الخبرة بدخائل الروح أو باطنية الاحساس ان...
مواليد 1967، ناقد مسرحي بمجلة "الإذاعة والتليفزيون". صدر له " بلا مقابل أسقط أسفل حذائي"،" رجل طيب يكلم نفسه "، " ضرورة الكلب في المسرحية "، "والأيدي عطلة رسمية "، تُرجم شعره إلى الألمانية والإنجليزية والفرنسية والهولندية والسويدية والكاتالونية، وصدر له "ماتبقي منا لا يهم أحدا" مختارات شعرية باللغة الألمانية، ط دار سابون، سويسرا،عام 2004
كأنه قسّم الديوان إلى نصفين، النصف الأول جميل وناضج أما الثانى بمفتعل ...ومع ذلك أحب جرجس شكرى، قرأت له قبل ذلك ديوان" ضرورة الكلب فى المسرحية..كان جميلاً