لم يكن شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب في حياته إلا شاعراً تقاذفته الظروف و الآلام والاحزان لتخلق من شعره لوحات من ما يخالج ما تموج به نفسه لأمته العربية وحياته الشخصية، وشخصية السياب بكل تقلباتها السياسية والعاطفية حدثنا عنها بكثير من التفصيل الكاتب عيسى بلاطة في كتابه (بدر شاكر السياب: حياته و شعره) والذي قدم لنا السياب الشاعر و السياسي والعاطفي وقبل هذا كله رائد الشعر الحر الذي ذهب بالشعر العربي في خط جديد يواكب الحداثة التي كان ينشدها في الأمة العربية بعد سنوات الاستعمار، ومن أهم بواعث الحزن في شخصية بدر شاكر السياب التي تشكلت في اشعاره لاحقاً هو موت والدته وهو بالسادسة من عمره حيث كان دائم السؤال عنها مع جده الذي تولى تربيته بعد زواج أبيه من أمراة أخرى، والاجابة من جده كانت غداً سوف تعود أو بعد غد، لم ينسى السياب هذا الموقف المتكرر لسؤاله و إجابة جده المتكررة كذلك مما دعاه للكتابة عنها من ضمن قصيدته الشهيرة أنشودة المطر والتي تغنى بها الفنان الكبير محمد عبده حيث يقول السياب أتعلمين أيَ حُزنٍ يبعث المطر وكيف يشعُرُ الوحيدُ فيه بالضَّياع كأنَّ طِفلاً باتَ يهذي قبل أن ينام بأن أُمَّه التي أفاقَ مُنذُ عام .. فلم يجدها ثُم حين لجَّ في السؤال قالوا له: بعدَ غدٍ تعود .. لابدَّ أن تعود فتستفيقُ مِلءَ روحي نشوةُ البُكاء ورعشةٌ وحشيةٌ تُعانِقُ السَّماء كرعشةِ الطِفلِ إذا خافَ مِن القمر
أما في الجانب السياسي فقد عاش السياب بين سجين ومطارد من جانب الحكومات المتعاقبة في العراق بسبب قصائده التي كانت تُلهب الجماهير الغفيرة في المظاهرات الدائمة وخاصة مرحلة نوري السعيد، تلك المرحلة التي طاردت الشيوعيين العراقيين بالسجن و الاعدامات والتي كان ينتمي لهم السياب ويشارك في أنشطتهم وشاعرهم الأول في الميادين الغاضبة ضد سياسات حكومة نوري السعيد المتماهية مع الانجليز، قبل أن يكفر السياب بالنهج الشيوعي العام و أفكاره ويقوم بكتابة حلقات اسبوعية في صحيفة الحرية آنذاك يفضح فيها الأفكار الشيوعية و أهدافها حسب رأيه، حيث تم فيما بعد وضع كل تلك المقالات التي كتبها السياب عن الشيوعيين في كتاب حمل عنوان (كنت شيوعياً) ورغم العداء الصريح من جانب السياب للحزب الشيوعي العراقي والشيوعية بنهجها العام، إلا إنه لم يتخلى عن بعض ما كانت تروج له الشيوعية من افكار وفي مقدمتها مشكلة الطبقية التي تنهك العراقيين والعالم بشكل عام بل حتى أن فكرة الطبقة البرجوازية ومشكلاتها أسقطها على علاقاته العاطفية العديدة والتي فشل فيها بأمتياز فحينما أحب فتاة من تلك الطبقة البرجوازية كان يتوهم أنها تبادله المشاعر حتى صدمته بعكس ما توقع فلم يستطع أن يتزوج بعلاقة حب مثلما تمنى بل كان زواجه فيما بعد بالسيدة (اقبال) زواجاً تقليدياً بسيطاً فكتب عن تلك الفتاة البرجوازية التي رفضت دفقات شعره المتواصل لها الكلمات التالية التي تنم عن سخط داخلي عميق عن فارق الطبقية حيث قال،
بيني وبين الحب قفر بعيد
من نعمة المال وجاه الأبِ
يا آهتي كفّي … ومت يا نشيد
شتان بين الطين والكوكبِ
ومن جانب آخر لم أقرأ عن شاعر غازل الموت و تمناه مثلما فعل بدر شاكر السياب بقصائده المتوالية بعد إصابته بالشلل في الجزء السفلي من جسمه وضمور عضلات جسمه بالكامل بشكل سريع بسبب تلف جهازه العصبي وتأثيره المباشر على نخاعه الشوكي، ولم تسعفه محاولات العلاج في العراق ومن ثم لندن و باريس قبل أن يستقر به المقام في المستشفى الاميري بالكويت بعد نشر صديقه الشاعر الكويتي (علي السبي) نداء لوزير الصحة الكويتي لعلاج شاعر العراق الكبير السياب على حساب الحكومة الكويتية وهو ما رحب به وزير الصحة الكويتي. ورغم العناية الفائقة التي تلقاها السياب في الكويت إلا أن الجميع كان يعلم بما فيهم بدر شاكر السياب أن أيامه معدودة والموت كان يحدق به حيث أصبح السياب مشلولاً بالكامل تقريباً حيث بدأت تنتابه نوبات اغماء إيذاناً بتلف خلايا الدماغ ونلحظ شعوره بالاستسلام للقدر ورغبته بالموت في كلمات قصيدته التي كتبها في التاسع من يوليو من عام 1964 بعنوان غابة الظلام والتي ختمها حيث قال
أليس يكفي أيها الآلهْ
أن الفناء غاية الحياة
فتصبغَ الحياة بالقتامْ
تحيلني بلا ردًى، حطامْ
سفينة كسيرةً تطفو على المياه
هاتِ الردى أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرةْ
وراء ليل المقبرة
رصاصة الرحمة يا إله!
و اخيراً في ظُهر الخميس الموافق للرابع والعشرين من ديسمبر فاضت روح السياب من جسده المشلول المتهالك، وليخسر العالم العربي شاعراً فذاً في ريعان شبابه ساهم في انتاج خط جديد للشعر العربي تأثر به الكثيرين من بعده، إن المعلومات التي اخترتها لك عزيزي القارئ قليل من كثير أسهب في تفاصيلها المؤلف عيسى بلاطة عن شاعراً بأعتقادي عاش بعد موته.
من اروع الكتب التي قراتها, والكتاب في الاصل رسالة رساله دكتوراه كتبها المؤلف عن السياب وتناول فيها حياته وشعره,اضافه الى تناوله الاوضاع السياسية التي رافقت حياة السياب