سيرة ومسيرة...سيرة مكان قصّي " لا يصله إلاّ من يقصده لذاته، كمنزل في زنقة حادّة "...ومسيرة عائلة من غرب الجنوب التونسي في رحلة كفاحها، حيث تتوالى الأيام وتتعاقب، فتتحرّك أسباب الرّزق حينا وتنقطع أحيانا ـ ولا سلطان عليها إلاّ مشيئة الأقدارـ ومع كل مستجدّ طارئ تتغيّر الأوضاع والعلاقات داخل هذه العائلة الرّمز، عائلة الشّيخ "سالم عبد العالي" وماأشبهها بعائلة أخرى أكثر عددا وأعمق تناقضا هي عائلة المجتمع التونسي إبّان فترة الإستعمار بكل ما يجتمع فيها من ثنائيات "الحبّ والكره" و"الغدر والوفاء" و"التّدافع والتّضامن"، تماما كما تجتمع في الجسد الواحد كلّ أسباب البقاء والزّوال فيظّل متأرجحا بينهما كتأرجح زورق في عرض البحر.
هذه المرة الرابعة التي أقرأ فيها هذه الرواية لكن هذه المرة الأولى التي أكتب عنها مراجعة، والواقع أن ما جذبني فيها هي بساطتها والمزيج الفريد الساحر بين اللهجة الجريدية العامية (في الحوار) واللغة العربية الفصحى (في السرد). الشيء الذي جعلني مشتاق لأرض الأجداد بإعتبار أن أصلي وأصل العائلة من قاعدة بلاد الجريد,توزر. بلاد الجريد ، قرب نفطة ، مع بدايات القرن العشرين ، في العقد الثاني تحديداً ، وما بين قريتي الزبدة والمواعدة ينشأ المكّي بن علي الزبيدي منقسما بين أبويه المنفصلين علي الزبيدي وأمه خديجة "أو ديجة" المقيمة في دار أخيها المولدي وزوجته تبر وأولادهما العربي والعطراء. الانقسام العائلي والجو المشحون الذي بدأ بمشكلة تافهة زادها اشتعالا تدخلات عبد الحفيظ بن سالم عبد العالي المشهور بإسم "حفّه" كبير عائلة ديجة والذي يحاول دائما ضم أراضي إخوته الزراعية واراضي صهره الزبيدي. يمر الزمان ، وتنطلق الرواية في كشف حياة ديجة والمكي والعربي والعطراء. الرواية ساحرة بإمتياز , فهي نابعة من قلب الحياة اليومية لسكان بلاد الجريد زمن الإستعمار الفرنسي ، وتتعرض لقضايا إجتماعية على رأسها وضعية المرأة التونسية في ذلك الزمن, ووضعية العمال التونسيين لدى الشركات الفرنسية ، كما تكشف أيضا القناع الحقيقي لمجتمع ليس فقط جاهل وإنما سيطر عليه حبّ المادّة والإمتلاك ، وإنحطاط القيم الأخلاقية بل وإنعدامها التام ، هذا كله متستر تحت غطاء التديّن الشعبي ،البعيد عن الدين الحقيقي ، القائم على الخرافات والأساطير. رواية عظيمة جداً وهي من كلاسيكيات الأدب التونسي ، رواية أشبه ما يكون بالتراجيديا الإغريقية ، أين تختلط المواقف الطريفة والمضحكة جدا بالمواقف المحزنة ، لتعطينا كوميديا سوداء تثير في النفس شيئا من الحزن والشفقة. بهذا المزيج بين الهزل والجدّ ، بين الفرح والحزن ، يقدم لنا البشير خريّف ، أصيل مدينة نفطة ، تحفة أدبية تونسية ، تتميز بواقعيتها الصارخة ... تعرّي لنا حقيقة المجتمع التونسي في زمن الإستعمار الفرنسي. لكن رغم هذا ، ورغم الامتلاء بهذه النقائص ، ومظاهر النفاق .. إلا أن روعة الوصف ودقته ، وتلك المواقف المضحكة ، وامتلاء هذه الرواية بمشاعر الحنين التي تسري في نفس القارئ عند قراؤته لكامل الرواية ، كل ذلك لا يضيف على هذه الرواية الرائعة سحرا فقط، وإنما يكشف لنا ، كما قال الأديب السوداني الطيب صالح في تقديمه للرواية ، مدى تعلق البشير خريّف بهذه البيئة وانه يحبّها على علاّتها. امتلاء هذه الرواية بمشاعر الألم والحنين ومظاهر القسوة والجشع كلها لا تكون نابعة إلا من بيئة قاسية كالبيئة الصحراوية للجريد. وإن تنوع المشاعر في هذا الرواية إنعكاس لطبيعة البيئة الصحراوية الجريدية في تنوعها الرائع بين صحرائها القاسية وواحاتها اللطيفة ، بين نهارها الساخن وليلها البارد.
"المجد لأولئك الذين لم يفلحوا.تلك إحدى الرميات الخاطئة التي تسبق الإصابة ولا مندوحة منها.إنهم مهدوا الطريق لمن يليهم ،وعندما يأتي النصر،فأكبر الفضل لهم.الرميات الخاطئة تفشل الضعيف،ويتدبرها فارس النتيجة ،فتزيده خبرة وتقرب الإصابة .ولئن لم يفلح محمد علي،فلأنكم لا شيء،ولا يمكن أن تقوم بكم حزب أو نقابة.فلنجعل منكم أولا رجالا حتى يستطيع الواحد منكم أن يقرأ جريدة،ويكتب رسالة،ويحسب نفقة يومه،ثم نرى."
خمس نجوم للضعف والخوف والبؤس والجفاف، خمس نجوم للحب وتعب كتمانه، خمس نجوم للتحدي والمغامرة والمجازفة وكسر القيد ولو مرة، خمس نجوم للحزن والحزن والحزن والحزن والحزن حتى تعتّق وصار تراجيديا تعصر القلب، خمس نجوم للحقيقة العارية والواقعية الفجة، خمس نجوم لنقل القبح والفقر والمرض وقلة الحيلة، خمس نجوم لغياب المجاملات والتجميل والتلطيف، خمس نجوم للجرعات المرة التي لا تداوي بل تقتل، خمس نجوم لنفطة وقفصة والمتلوي وصفاقس وأم العرايس.. خمس نجوم للجنوب القاسي، بل شديد القسوة، الجنوب الذي رغم قسوته نحبه
رواية تونسية مليئة باللهجة المحلية القديمة التي سعدت بقراءتها -على صعوبتها- لقربها جدا من اللهجة الطرابلسية. الكثير من العادات ونمط الحياة متشابه بين تونس وطرابلس، وكم هو جميل وقريب من القلب عالم البشير الخريّف وحكياته. أحببت كثيراً حكايات النساء في الرواية، خصوصاً الجزء الأخير الذي يبدو أقرب لقصة قصيرة ويمكنني أن أتخيله كفيلم سينمائي رائع.
#الدقْلة_في_عراجينها #البشير_خريّف ___ كانت ليلة خريفيّة كئيبة عمّ فيها السكون أرجاء بيتي سوى من صوت حفيف أوراق الشجر المتساقط وهمس الرياح ..ليلتها فصلت عندي النت وأصبحت بذلك منعزلة حتى من أصوات إفتراضيّة ولم أجد سوى الكتاب أنيسا لب ولم تكن ترافقني سوى هذه الرواية .. * كيف أصفها ؟ هي تحفة فنيّة من قلب الجنوب التونسي أحداثها بين الجريد و المتلوي و قْفصة و صفاقس .. وزمنها زمن الإستعمار بداية عشرينيات القرن الماضي .. سحرها في واقعيّتها الشديدة! في الألم والحزن والقسوة الذي تشعر به وأنت بصدد قراءتها ولكن من قلب المأساة تأتي أحداث فتبتسم لها ..فكانت عبارة عن تراجيديا مضحكة ..! رواية واقعيّة تراوح فيها السرد بالفصحى و الحوار بلهجة الجريد : بلهجة عاميّة ولكنّك تشعر وكأنك تقرؤ بالفصحى لم تكن مبتذلة كانت جميلة لأبعد حدّ ..! الرواية تنقل واقع الحياة بالجنوب التونسيّ في ذاك الزمن الغابر تحدّثنا عن الجريد وأهله تناقش وضع المرأة وسطوة الرجل عليها من خلال مثال ديجة والعطراء وهنا كنت في أحيان كثيرة أريد أن أصرخ في كلتيهما أن تتحررا مما هما فيه ثمّ أعود لأكتشف بأنني أفكر بعقل نسوي "عصريّ" لايتناسب مع تلك الفترة..! ثمّ تعالج قضايا العمّال التونسيين زمن الإستعمار ومدى الإستغلال الفاحش المسلّط عليهم .. وأظن بأنه كانت هناك إشارة لطيفة لمحمّد علي الحامي _ من خلال شخصيّة "الدبنجق " _و قد كان أوّل مؤسس لمنظمة عمّالية تدافع عن حقوق العملة وبالطبع فقد تمّ وأدها في مهدها .. رواية رغم قسوتها لم تخلو من الحب : حبّ قاس ..! المكّي، العطراء ،ديجة ،الزبيدي والعربي ،حفّة .. شخصيّات أمعن الكاتب في وصفها في الحقيقة قد أجاد الكاتب وصف الأحداث وأبعاد الشخصيّات حتى وكأنك تشعر بها حيّة وتشاهد أمامك ردّات فعلها وتحرّكاتها .. رواية تونسيّة أصيلة قاسية صلبة كصفات الصحراء ..! أحببتها! ____ * ) مقدّمة وجدت بها كثيرا من الثرثرة ولكن لابأس ..!
في حديث ساقه الينا البشير خريف ، رأيت الجريد بمحاسنه ومساوئه . أحببت حس الفكاهة الذي طغى على الشخصيات ولمسة الحقيقة التي ارتدتها حتى باتت واضحة المعالم متباينة الأوصاف ، وكرهت جشع بعضها الآخر حتى بتّ أنتظر انتهاء المقطع التي يتم وصفها فيه . أحببت لغة الجريد بغرابتها وبساطتها ، بأخلاقها وسبابها المنقولة بحذافيرها دونما تحسين أو تنميق أو محاولة للتشبه بالعربية قصد ارضاء القارئ ، فهم من فهم وأبى الفهم من أبى ، وكرهت وضعا تعيشه النساء حبيسات فيكون خروجهن فضيحة وتنكرهن في أزياء الرجال صونا للكرامة وحفظا للشرف . صعب علي وانا في هذا العصر أن أضع نفسي محل احداهن لشدة وقساوة الظروف التي عايشنها ، ولكن عمني فخر بالشوط الذي قطعته المرأة مذاك اللى يومنا في سلم التطور والتحرر. لم أشك لحظة أن أحداث هذه الرواية حقيقة لا ضرب من الخيال لقوة الكاتب في تصويرها ، ولم يكذب تخميني ، اذ اكتشفت بعد أيام من مباشرتي قراءتها ، ان العطراء جدة صديقة لي وهي أصيلة منطقة نفطة من جنوبنا التونسي .
الدقلة في عراجينها رواية تونسية ألفها الكاتب التونسي بشير خريف سنة 1959, وقع اختيارها كواحدة من ضمن أفضل مائة رواية عربية. يطرح الكاتب في هذه الرواية مسألة الأرض كينبوع للمأساة الاجتماعية ويتبعها بطابع تسجيلي انتقادي بمعنى أن عديداً من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكيء على الانتساب الحزبي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات، كما امتزج بخليط من المؤثرات الأجنبية وتتجلى لنا ملامح هذه الرؤية معاً كلما أوغلنا في عالمها الفسيح خطوة خطوة.
غالب بلاد الله ترتزق من أبواب عديدة ، من أنفسها و من غيرها ، فيغشاها اهلها ممن يتخزها ممرا أو مرحلة إلى غيرها ، فيأتون إليها من كل فج بالأسباب . اما بلاد الجريد فإنها في آخر نقطة من الجنوب الغربي من البلاد التونسية كمنزل في زنقة حادة ، لا يصلها إلا من يقصدها لزاتها ، فلا مورد سوى النخلة . هزه الشجرة المباركة التي لا تشبه أية شجرة أخرى ، و كم من شبه بالإنسان
This entire review has been hidden because of spoilers.
في رواية "الدقلة في عراجينها" للروائي التونسي البشير خريّف تتلاقى الصحراء والريف فيتجسدان معاً في شكل النخلة حيث الجريد يضم العراجين. وحيث يتاخم أحدهما الآخر، الصحراء عبر امتداداتها الجغرافية والاجتماعية وخطوط الزمن والأحداث في ترحالاتها المستمرة، والريف في ثباته المكاني وتراكمات مجتمعه المتنوعة. الريف هو بلاد الجريد الذي ينضح بالخضرة والألق في مواسمه الخصبة. من الفضاءين تتشكل رمزية النخلة التي تحيط بعراجينها مروحة الجريد. العراجين هي الريف والجريد هو الصحراء.. من هذا الشكل الرمزي تتداعى صور كثيرة من الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها منغمرة في شأن الإنسان المجبول على الحب والكره والزهد والجشع، وما تطرق إليه الأديب الراحل الطيب صالح في مقدمته فيه كفاية عن المزيد. لغة الرواية يتذوقها أكثر من غيره المحب للغة التي تسيل كتابة والكتابة تنتج معنى والمعنى يتمرأى في تأويل مفتوح على الواقع والخيال دون أن يسلم نفسه لأي منهما على نحو مبتذل. وكما قال عنها الطيب صالح، تبقى هذه الرواية "عمل عظيم، تفرغ من قراءته فترى الدنيا غير الدنيا"
لدقلة في عراجينها" للبشير خريف تحفة فنية "من قاع الخابية" ازدانت بأسلوب الكاتب الرائع في بناء الشخصيات ووصف المكان والزمان حتى اكتملت العراجين الأربع ناقلة لنا تفاصيل الحياة في الجريد في العقود الماضية ولهجتهم وأمثالهم الشعبية المليئة بالسحر والحكمة. لقد فوجئت بطريقة حديث البشير خريف عن معاناة النساء والمشاكل الزوجية الناتجة من هيمنة الرجال إذ كان نقله لهذه الوقائع نقلا أمينا محايدا. لم أجد في تلك السطور تلميحا واحدا عن رأيه في هذا الموضوع حتى أنني خلت أنه بصمته هذا مساند للمرأة وقضيتها. أبدع الكاتب أيضا في طرح مواضيع مهمة أخرى، دون الخروج عن قالب القص، منها مشاكل الإرث بين الإخوة، التمييز بين ولايات الشمال والجنوب، النظرة الدونية للنفس، منع الفتيات من الدراسة، تقلب النفوس بسبب المال ... لكن يبقى الحب أجمل صورة رسمت في هذه الرواية رغم تشوهه الدائم بالحزن. كلمات حيكت بدقة لتلخص ما يدور في مخالج القلب من مشاعر وأحاسيس فاكتملت بذلك متعتي بهذا الكتاب.