يرفع محمد خضير كتابه (السرد والكتاب) إلى "بستاني الطفولة الذي تلقيت على يديه كتاب الطبيعة الأول"، وهو يمدُّ عتبة الإهداء جسراً بين أثر سابق وأخر لاحق في مشغله السردي، فما يزال البستاني يواصل إطلالته في حقل الكاتب، كما يواصل التجوال في أحلام كتابته بعد أن أكمل خطواته في (حدائق الوجوه ـ 2008) فآخى بين عوالم كتّاب متباعدين، وقارب بين رؤاهم في بستان الكتابة الواسع؛ لن يكون الكتاب، بذلك، منقطعاً عن ظلال كتب الكاتب، منفصلاً عنها، ينشئ جزيرته وسط أرخبيل الأخيلة والكلمات، بل هو جملة أخرى يقترحها محمد خضير في تعميق الصلة بين دواخل الحقل وخارجه، وإذا كان كتاب (الحكاية الجديدة ـ 1995) قد هيأ للكاتب مجالا ً للعمل داخل حقل السيرة النظرية مؤكداً تحوّله العميق في عملية التأليف من موقعه منتجاً للنصوص، وقد حافظ علية بأمانة وصمت لأكثر من ثلاثة عقود، لموقع مقترح تخضع فيه عملية الإنتاج نفسها للمراقبة والتأمل، معلناً دافعيته التي تعادلت في حساباتها حياة المؤلف في الحضور والمواجهة مع غيابه في حياة النص الذي يُظهره، فإن (السرد والكتاب) يوسّع من حدود المشغل ويفتح جدرانه بعيداً عن المصادر الشخصية المباشرة للكاتب ومجرات التأثير، بعيداً عن ملتقطات الذاكرة وبراهينها، ليدخل الكاتب في تجربة القراءة حيث تمنحنا الكتب، في أحد أوسع أبوابها، أفقاً جديداً للتعرّف على العالم "مهضوماً، ومصنفاً، ومزوّداً ببطاقة تعريف، متأملاً فيه، وجباراً" بجملة جان بول سارتر، ويكون العالم كتاباً، بجملة فراي لويس، وتكون أشياء العالم أحرف أبجدية كتب بها الكتاب، كما تكون (المقالات السردية) في تصوّر الكاتب، أداة النظر ومادته، إنها النوع المقالي الذي يقوم على أساس فكرتين متمازجتين نظرية وسردية، "تغلّف إحداهما الأخرى، أو تنبثق إحداهما من الأخرى"، إنها المقالة التي تستند إلى حادثة أو موضوع سردي أو معلومة شخصية تتناسب والغاية النظرية التي تؤلف محورها الرئيس، لتختلف مقالات هذا النوع عن أخواتها من المقالات الشعرية، والصحفية، والسياسية، والاجتماعية، والفلسفية، وهي في الوقت نفسه " ترود مناحي هذه الأنواع المقالية كلها"، مواصلة في حقل الكاتب ما نهضت به (الحكاية الجديدة) من مهمة عرض (سيرة نظرية) لصاحبها، إذ تتأسس جسراً رابطاً بين سعيه المعرفي ومنجزه السردي. لؤي حمزة عباس
محمد خضير كاتب قصة قصيرة عراقي من الطراز الأول. بقليل من النصوص استطاع لا أن يفرض اسمه كقاص فحسب، إنما أن يشكل ظاهرة في القصة العربية ويحدث اختراقاَ نوعياَ مازال يتواصل مع نتاجه الكثيف والمميز.
في مدينة البصرة، ولد محمد خضير عام 1942. وفيها عاش وأصرّ على البقاء، حتى في فترات القصف اليومي الذي تعرضت له المدينة خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ورغم الهجرة شبه الجماعية لسكانها أثناء تلك الحرب.
ينتمي خضير إلى جيل الستينات الأدبي في العراق. وقد عرفه القراء من مواطنيه حين نشرت أولى قصصه: (النيساني) في مجلة (الأدب العراقي) قبل أكثر من ثلاثين عاما. ثم لفت اسمه أنظار القراء والنقاد العرب بعد نشر قصته (الأرجوحة) في مجلة (الآداب) البيروتية، التي ثنّت بنشر قصته (تقاسيم على وتر الربابة) عام 1968.
صدرت المجموعة القصصية الأولى لمحمد خضير: (المملكة السوداء) عام 1972، وعُدّت عملاً تجديدياً ومغايراً، يشير إلى (عالم متشابك معقد ومركب وبسيط في آن، ومتجذر ووهمي، وواقعي وسحري، محبط ومتفائل، تلعب فيه اللغة والذاكرة والمخيلة والتاريخ والأسطورة والتشوّف الإنساني النبيل أدواراً لافتة للنظر).
وفى عام 1978، صدرت مجموعة خضير القصصية الثانية: (فى درجة 45 مئوي)، وتلتها المجموعة الثالثة: (رؤيا خريف) 1995. وسجلت كل من المجموعتين مرحلة متقدمة عما سبقها في العالم القصصي للكاتب، الذي لم يكفّ عن محاولته الدؤوب لإقامة المتخيل الخارق للمدن، وخلق عوالم مدينية تضرب جذورها في عمق التاريخ الواقعي والخيالي.
وضمن سياق احتفاء محمد خضير بمدينته البصرة، أصدر عام 1993 كتابه": (بصرياثا - صورة مدينة)، الذي سجل فيه وتخيل حياة البصرة في تسعة مشاهد. وصاغ بهذا الكتاب (بياناً شخصياً) يؤكد فكرة (المواطن الأبدي) التي يعمق خضير ـ من خلالها ـ وجوده الإنساني والكتابي، وانتماءه لمدينته.
كتاب مُلهِم، ينقلنا محمد خضيّر، وهو القامة العراقية المتميزة بكتابة فن القصة القصيرة، إلى مشاغل ومختبرات السرد. يكتب بلغة رفيعة، يحاور ويعلّق ويناقش مستخدما مصطلحات النقد الأدبي الحديث، كاشفا عن ثقافة عميقة واسعة وقدرة على التحليل، لنقل الحفر عميقا، أو التحليق عاليا أكثر ما أعجبني كتابته عن دفتر يوميات الأدباء، والناس عموما حين يؤدون (تمرينات على مقاومة النسيان).
أحببتهُ جداً، اللغة سلسة وجميلة وسهلةً الفهم.. من السهل التواصل مع الكتاب وفهمُ ما فيه وطريقةُ صياغةِ الأفكار بكثافةٍ وصلابة جميل.. لا يوجد "لتٌ وعجن" أو كلامٌ لا داعي له، وهذا ما ساعدني على قراءتهِ بسرعة واستمتاع..
في اعترافٍ صغير: إنني أعملُ على بحثٍ صغير وأخذتُ الكتاب من الرف في مكتبةِ منزلنا لأطلعَ على الفهرس والعناوين، لم أدرِ عن نفسي إلا وأنا أنهي الكتاب وأعلق على بعضِ الأسطر لاقتباسها في البحث.. ممتع وسلس وفي صلبِ اللغة..