نبذة المؤلف: قصص هذا الكتاب متضامنة، رؤياها واحدة، متكافلة في البراهين التي تجلّيها، متكافئة في النتائج، ولم تكن تبدو كذلك حين نشرتها متفرقة، إذ أخذتها الظنون على أنها أقباس مشتتة، ترتضع من منابع بعيدة، وها هي ذي تجتمع وتتراصّ، تعرضها البراهين المتكافلة، رؤيا تتغذى من مراضع موضوعٍ واحد، موطنه (بصرياثا) وزمانه زمانها، زمان حربها وسلامها. إبتدأت القصص تنهل من معطيات واقعيةٍ ملموسة، فلما انقطعتْ معطياتها ومسبّباتها المباشرة، تعلَّقتْ بذيولها وآثارها، فلما اختفت هذه وطُمِسَتْ، عرَّجتْ إلى صورها الذهنية المجردة المحلّقة في أثيرها، حتى إذا ما شحبتْ هذه، انطفأتْ كذبالةٍ شحَّ زيتُها فتآكلت، وهبطت القصص من مركز عليائها إلى (ثاء ثقيلها)، وهل من موضوع، كالحرب، يتقدّم بالمحال على الممكن، ويسوّغ الشطوحَ الرمزي مآلاً للحقيقة المقيًّدة، ويسبق المطلقُ المجردُ فيه الملموسَ المقرَّب؟ أو ليست الفواجع جهةً للفراديس؟ فالمدن المحاصرَة تلفظ أهليها، وتزحف إلى الصحراء، تستجير بزمانها وترحل إلى مبتداها؛ والكتابة تنحرف عن سكّتِها وتطارد إشارتهُا معناها؛ والمخيلة منكسرة؛ والمؤلف طريد، وحيد، محُاصرَ، حيران، غريب، فلمّا انتهى زمان اليوتوبيا البرهاني، عاد الواقع العياني ليحكم بين المؤلف وقرائه، فكيف يكون الخصمُ حاكماً؟.
ما كان الواقع مُنحازاً قط إلى لاواقعيته إلاّ حين أُلِجم، وسُمِّرَ، واضطُهِدَ بمفاجآت ثقيلة، استلَّتْ منه براءتَه وبساطتَه وحيادَه وزحمتَه الإجتماعية وتقاويمَه الزمنية المنتظمة... فلا تنصتوا إلى شكواه!.
ولا ضير الآن، من الإعتراف بجزء من جريرة، في قصصي هذه، أعترف بما يُجلبِبُها من جُبَّةٍ وجدانية، وشِدَّةٍ أسلوبية، كما لم أتوانَ، من قبل، عن الإعتراف بما يُسربِلُ قصصي الأولى من سرابيل عاطفية رهوة، وكلاهما لباس لا يلائم نوعاً جوهرياً بسيطاً، تلك هي سُنَّة التأليف وتقلباته، وما أنا بخيّاطٍ موهوم.
ولا أزعمُ إعتلال جميع رؤاي هنا، إذ عندي - ما عند الساعين مثلي إلى البنية الجوهرية البسيطة - مقاصدُ لا يتناقض صدقُ الإنفعال فيها مع بساطة البرهان في تركيبها، ولا تتعارض مقدماتُها وفروضُها مع صحة تصميمها ونتائجها، فالقصة برهان بسيط على إنفعال صادق، لكنَّ القصة الواحدة وهي تُوهِمُ بمفتاح واحد يفتح جميع الأبواب، هناك باب واحد يصلح لأن تنفذ منه إليها، بين مجموعة أبواب مضللة، وأنت لا تدخل من الباب نفسه، في كل مرةٍ تروم الدخول إلى قصة غيرها، فما أكثر الأبواب، وأخدع المفاتيح!.
ذلكم هو لغز أي كتاب يجمع قصصاً متضامنة بين غلافيه، تحسبها متفرقة!...
محمد خضير كاتب قصة قصيرة عراقي من الطراز الأول. بقليل من النصوص استطاع لا أن يفرض اسمه كقاص فحسب، إنما أن يشكل ظاهرة في القصة العربية ويحدث اختراقاَ نوعياَ مازال يتواصل مع نتاجه الكثيف والمميز.
في مدينة البصرة، ولد محمد خضير عام 1942. وفيها عاش وأصرّ على البقاء، حتى في فترات القصف اليومي الذي تعرضت له المدينة خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ورغم الهجرة شبه الجماعية لسكانها أثناء تلك الحرب.
ينتمي خضير إلى جيل الستينات الأدبي في العراق. وقد عرفه القراء من مواطنيه حين نشرت أولى قصصه: (النيساني) في مجلة (الأدب العراقي) قبل أكثر من ثلاثين عاما. ثم لفت اسمه أنظار القراء والنقاد العرب بعد نشر قصته (الأرجوحة) في مجلة (الآداب) البيروتية، التي ثنّت بنشر قصته (تقاسيم على وتر الربابة) عام 1968.
صدرت المجموعة القصصية الأولى لمحمد خضير: (المملكة السوداء) عام 1972، وعُدّت عملاً تجديدياً ومغايراً، يشير إلى (عالم متشابك معقد ومركب وبسيط في آن، ومتجذر ووهمي، وواقعي وسحري، محبط ومتفائل، تلعب فيه اللغة والذاكرة والمخيلة والتاريخ والأسطورة والتشوّف الإنساني النبيل أدواراً لافتة للنظر).
وفى عام 1978، صدرت مجموعة خضير القصصية الثانية: (فى درجة 45 مئوي)، وتلتها المجموعة الثالثة: (رؤيا خريف) 1995. وسجلت كل من المجموعتين مرحلة متقدمة عما سبقها في العالم القصصي للكاتب، الذي لم يكفّ عن محاولته الدؤوب لإقامة المتخيل الخارق للمدن، وخلق عوالم مدينية تضرب جذورها في عمق التاريخ الواقعي والخيالي.
وضمن سياق احتفاء محمد خضير بمدينته البصرة، أصدر عام 1993 كتابه": (بصرياثا - صورة مدينة)، الذي سجل فيه وتخيل حياة البصرة في تسعة مشاهد. وصاغ بهذا الكتاب (بياناً شخصياً) يؤكد فكرة (المواطن الأبدي) التي يعمق خضير ـ من خلالها ـ وجوده الإنساني والكتابي، وانتماءه لمدينته.
طيب، مشكلتي الوحيدة مع محمد خضير أن قصصه أصعب من أن أستمتع بها كما يجب. أفكار قصص المجموعة معقدة، وفي كل قصة مسارات عديدة، تتراكم فوق بعضها، وتتقاطع مع بعضها، مما يجعل تتبع القصة عملا يحتاج للتركيز والإنتباه وحدة الذهن. بالإضافة إلى لغة خضير العالية والصعبة، وأسلوبة الذي يشعرك بأن القصة عبارة عن مستويات أو طوابق عدة، يقوم هو بكشف كل مستوى على حدة، ثم يتركك لتجمع هذه الأجزاء/المستويات مع بعضها وحدك. هذا، وغيره، يحول قراءة قصة من 20 أو 30 صفحة، من عمل سلس سهل هين، إلى عمل مثير للتعب. لا تنهي قصة من قصص خضير الطويلة نسبيا إلا وأنت تلهث مخطوف النفس. كل فقرة تحتاج لقراءة ثانية، كل جملة لا تستوعب إذا لم تقرأ بتأن شديد حد الملل.
برغم هذا، أستطيع أن أفهم السبب وراء اعتبار محمد خضير قاصا مهما، بل ومجددا في مجال القصة العربية. القصص متقنة، وأسلوب السرد وتقنياته فريد، ولم يمرق بي مثله من قبل. وكل قصة في هذه المجموعة، دون استثناء، تنطوي على معان ذكية وطريفة. والشيء المثير للإهتمام، والمميز جدا، في قصص خضير، أنها، على عكس المعتاد أو السائد، لا تقوم على تسلسل حدثي معين، إن ما تحاول قصة محمد خضير فعله هو وصف شعور ما، أو حالة أو تجربة أو انفعال، لا وصف أحداث/أفعال. إنها تقول عن وعي أو شعور أو إحساس بالأشياء. إنها لا تدفع بأفكار واضحة ومتماسكة، بل بحالات نفسية أو تجارب داخلية. إنها لا تسجل المشهد أو اللقطة، بل تنفذ إلى أعماقه وإمكاناته النفسية والمكانية والزمانية.
مرة اخرى مع محمد خضير شيخ القصاصين العراقيين.. اللغة الجميلة والسرد الرائع ..وحس خضير المذهل وقدرته على التقاط أدق الأشياء فيما يحيط به.. العديد من قصص خضير تظل عالقة بالروح تأبي ان تفارقها وتطل كل فترة مع بقوة مع تكرر بعض الحوادث التي تمر بنا .. بالحقيقة يمكن ان اكون فتنت بالكاتب وبشجاعته وبقائه تحت القصف في البصرة التي لم يغادرها رغم كل ما مر بها