في مدن العزلة أختار هواءً مرئيّاً كي يصحبَني أبتكر له ظلاً وأدرّب قدميه على موسيقى الخطواتْ نتحدث كغريبين عن الطقس المعتم ونفكر في فصل لا يأتي .. أو في عاصمةٍ للحلم تلاحقنا أشباح الوقت وفي أيديها ساعات موقوتةْ نتجاهلها ونسير على أرصفة اللحظة .. حذرَين لكي لا نخطئ وندوس على قدم غريب يتوسطنا كي لا نخطئ .. وندوس على قدم الموتْ !
هذا العمل الأول للشاعر محمد الضبع وهو شاعر شاب من اليمن. جميل شعره،واحساسه عال وعميق. القصائد تدور حول عبثيةالوجود،والبحث عن الهوية المتصارعة في جحيم الشك واليقين والعدم. الشاعر يبحث في قصائده عن الأنا التي لاتكف عن الإسراء والمعراج في أرضٍ تسكنها الظلال كأنها الأرض الموعودة ! فتنة النضوج،وفتنة الإنبلاج من الموت الى الميلاد، ومن الميلاد إلى الموت هو أكثر ماشغل الشاعر في قصائده. هذه الأبيات بعض من ماأعجبني:
لم تكن حجرةُ الكون مكتظةً عندما هبط الأزليّ إلى ساحة الخلق
كان الهواءُ وحيداً يؤرجحُ لحظَته الحجرية في عَتمة البَدء. ..................................... المرايا\دروبٌ من الشكِ والأسئلة\والوجوه الغريبة فيها..تماثيل ماءٍ مزيّفْ \تراقبنا من ثقوب التشابه\تغفو على ريش أسمائنا. .................................... في مدن العزلة\ يبزغُ قمر الأوركيد\ويعلن عن ميلاد العشب\وعن ميلاد الوجع الصامت\ينمو بهدوءٍ ماكر\فوق الماء وأسفله\يبحث عن من بقي من الأحياء\لعل حياةً شاردة\مازالت تخيفهم في غده\فنطمئنه: لااحدٌ في العشب\ولاأحدٌ في الماء\ولاشيءٌ\لاشيءٌ...إلا الآثار ! ....................................... في الحيرةِ متسعٌ للموت\ومتسعٌ للميلاد\وهاهي تتفرع قربك كالشجرة\فابدأْ من غصن فيها\وارسم زهرتك على طرفه\وارسمها مغلقةً\حتى تكتشف بنفسك معنى الأبديّة\ في إشراقِ البتلاتْ. ....................................... كن لغةً أولى\فارغةً\إلا من غدها\واحذر أن تسقط..في هاوية تحفظها\فالذكرى تتلون بالنسيان\وتختبىء وراء العطر..فكن حذراً\"لاتسقط في هاويةٍ تحفظها" ....................................... ليلاً حين تؤؤب الأصوات إلى قلب العازف\أجمع أجزاء هوائي\وأغادر.
يتنصل الشاعر اليمني الشاب محمد الضبع في ديوان «صياد الظل» الصادر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) من المجاز لاشتهاء الحقيقة، ويوغل في التأمِّلِ. يطلق سهامه صوب الحقيقة ليخطئ الصورة، ويصطاد الظل. يتنقل الشاعر بخفة الصيادِ في غابات التساؤل ليشبع نهم الوجود في 111 صفحة، ويقصي عنه الوضوح لعل الاختباء خلف الرمزية الكثيفة في النصوص تهيئ له الفرصة المتقنة للانقضاض على المعنى، وهكذا يتنقل في كل الجهات باحثاً عن الصورة والظل في آن. تمرّد الضبع في ديوانِه على القافية، وهو تمرد مقصود، ليشير إلى أن الوجود هو التمردُ بلا إيقاع منضبط، والابتكار يُولد من رحم الفوضى، إذ يبدأ الغابة الأولى «غابة الأوتار» باقتباس للشاعر النمساوي ريلكه يقول فيه: «هل العازفون مئات؟ أم هو دائماً العازف نفسه؟». ويستهل الضبع في رحلة صيده بنقاط وكأنه يشعر القارئ باصطفاء التأمّلِ إذ يقول: «لم تكنْ حجرة الكون مكتظة عندما هبط الأزليُّ إلى ساحة الخلق»، وينتهي في القصيدة نفسها بقوله: «الحشود تسير وتجتاز أطوارها واحداً واحداً للوصول إلى حافة الأزمنة!». وعلى مستوى لغة الديوان فإنها لغة حديثة، والمفردات المنتقاة تنسجم مع الجو العام للديوان، وهي المفردة الرشيقة التي تنم عن تأمل خالص كنغمات البيانو الحالمة، وانسجمت هذه المفردات مع تصميم الخطوط للفنانة فاطمة النقيب، وخصوصاً في القسم الأخير من الديوان «ما تبقى من ألواح الرائي». في الجزء الأخير من الديوان يظهر محمد الضبع، فيلسوفاً مليئاً بالشعر، إذ يلتقط الوردة من دون أدنى ارتباك للحديقة، إذ يقول: «أيها الغروب يا رسول العوالم السفلي... ترجّل عن عرشك المذهب وحدثنا عن أنباء العدم». في رأيي أن محمد الضبع أوصد نوافذ العدم بيد الرمزية في بعض القصائد، ما جعل المعنى يخرج مرتبكاً بعض الشيء، وفي مواضع أخرى، يفتح النوافذ على مصراعيها ليخرج لنا المعنى أبيضاً من غير سوء. كما من الملاحظ حضور التفعيلة بشكل كثيف، ومن بعدها القصيدة النثرية والعمودية من الديوان إلا من قصيدة واحدة، وقد يكون هذا الغياب مقصوداً لأمر يعرفه الشاعر جيداً.
ماذا ستقول صبيّـة تشعـر الآن بأن القصـائد لم تكن يومًا مجـرد خبر يمـر بجملة الأيـام؟ بل خطواتٍ ثابتـة نحوّ النسيان. خطواتٍ ثابتـة يخطوهـا قلبٌ مجهَـد. القصائد التي تستطيع أن تعـود لمكانها المناسب: قبل حدوث الزمـان. قبل أن يبزغ نجـم النبي. قبل أن تهتدي الموسيقى لنطفتها الأولى. قبل أن يتخلّق الوجع في الذاكـرة.
هذا الديوان يشـرح بطريقـةٍ برّاقـة كيف للقصائـد أن تأتي متكاملـة.
فقدٌ خشبي يتفرع في كل مكان , ذاكرة من ورقٍ من صوت فتاة يتساقطُ ذهبًا ويرنّ ويكمل مُوسيقى الأغصان غيابٌ يهبط من غرف النرجس نسيانٌ كالثلج يُغطينا ويُغادر حتى تتلاشى أسفله كُل الألوان *
- هذا الشيء فِتنـة ! تُقرأ سطوره وتُعاد وتُعاد وتُعاد لا ينتهي بِ نصف ساعة فقط يحتاجُ أكثر من ذلك يحتاجُ قلب وذاكرة خاليّة وعينٌ تنصت .
الجوهر و الحركة و الذاكرة و الصوت، بماذا يستعانُ على كل ذلك الأرق؟ على ذلك الزمن الأصم الصارخ مدفوعًا بأمل أزلي أن يسمتع لصوته؟. قد يستغاث بالعودة إلى نهاية لا تدركُ أبدًا و بالتوق لبداية لم تدرك بعد، هو ذلك الأبدي و الأزلي.. و كل هذي الإيقاعات المحصورة بينهما التماسًا للسكون، بالعودة إلى زهرة مغلقة، بالعودة إلى نبعٍ يحاول تفتيت الصخرة الرابضة فوقه، بالعودة لرباعية الماء و الهواء و النار و التراب، مصاحبتهم، ارتداؤهم، تشكيلهم، أو ولوجهم و تحمّل زهوهم بأنفسهم، تحمّل لعبهم النزق مع أنفسهم، مع بعضهم، مع أم هو بِ.. التلاعب بالعائد. تتحول تلك العودة إلى رحلة.. تزداد غموضًا مع كل خطوة، و سؤال تنصت له بقية الأسئلة، إن كانت تلك عودة فكيف أضيع.. كيف ضّيعت بيتًا لي و كيف لا يمكنني الإستكانة في البيت الذي كنت فيه؟. نستقرّ في الغابة، تمرّ فراشة نرى خريطة روحها على جناحها، و نتساءل هل رأتها هي؟.
قصائد الصيّاد بديعة و موغلة كما في مثل كل شيء في بهائها، احتجت لقراءتها مرات عديدة قبل أن أستطيع ادراجها على رفِّ المقروء. أمنياتي للصيّاد الواعد محمد بإشراقة باهرة و ممتدة، كما هو اعتقادي.
"أدنو من المرآة أُكمل نقصها حتى تكون الماء ... ثمّ أهاب".
نقد على عجالة: أحترم الكاتب لجهده ووقته، عن نفسي لا تستهويني أو أميل لهذا النوع من الشعر كثيرًا
جهد الكاتب بالكلمات/ الألفاظ واضح وجميل، لكن ببعض المقاطع أجد اختيار الألفاظ طغى على تأدية المعنى وهذا أضعفه ايضًا واضح أنه الكاتب متأثر بالشعر الغربي الحُرّ وليس العربي بعض القصائد شدتني واعجبتني جدًا الإهتمام بشكل القصائد لطيف، لكني أرى بعضها لا تؤدي إلى معنى، لست أقصد الفاصلة والنقطة وغيرها من علامات الترقيم أقصد الفصل بين الأحرف وجعلها بأسطر متناثرة لا يعطيها قوّة بالمعنى، بل بالعكس يركز على الشكل ويضعف المعنى لطالما كانت المعاني هي نقطة الإنبهار والتأثر وليس الشكل، خصوصًا أنه ��عر وليس لوحة لكني لا أخفي إعجابي بالخطّ في آخر الصفحات، مع تكرار الملاحظة أنه طغى بالشكل لا المعنى بعض قصائده ذكرتني بمحمود درويش، لمحة خفيفة منه الكاتب له مستقبل باهر لوسع مخيّلته وألفاظه الكثيره، لكن لوّ ركز فقط بالمعنى بدل اللفظ .
قد تكون الرمزية في الديوان، متكلفة. جدًا. وكأنه يكتبُ نفسَهُ لنفسِه... إلا أنّي أتحسس الخلود في قصيدة (صياد الظل) وأجهل أين يصل عمق (الغرف السرية) في باطن الروح وأحسب أني حلّقتُ مع (يوميات العزلة/ عطر/ غابة النسيان/ مونولوج)
إلى محمد الضبع في صيّادِ الظل: إنّي أقرأ كل شطرٍ عشرينَ مرّة! كنتُ طُعمًا لصياد الظل، ولازلتُ مُقيدة به. كنتُ أقرأ مرةً بعيني؛ جاذبية لموسيقى الكلمات، ثمّ أقرأ لعقلي؛ ليُدرك المعاني المواريات، ثمّ أقرأ بقلبي؛ لأستشعر الأبيات. إنّ الشّعر المُلهِم هو الشعر الخالد. صياد الظل يتحدث فيها أ.محمّدْ عن الوجود والموت والتساؤلات بينهما، التساؤلات التي تُعقدك في الحياة، وتُرعبك مِن الفناء! التأثر بالشعر الغربي واضح، ولأستاذ محمد مدونة يترجم فيها أجمل الأدب الغربي؛ لاتفوتكم. شكرًا محمد على هذا الكم وهذا الغرق، كنتُ متفائلة بهذا الجمال ولم يخب ظنَي.
هي القصيدة حين تستفزك بداية من العنوان الى نقطة آخر السطر ... لا تعتقد أن ستجد اجابات أو زوايا تؤيك لظى الأسئلة والمجاز , فحين يهديك الكاتب الظل لن تجد غيره وآلاف الاحتمالات ..الحقيقة أني استمتعت جدا بقراءة الديوان ..شكرا محمد