عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، صدر حديثا كتاب «تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده»، للشيخ محمد رشيد رضا، أحد أهم وأكبر تلاميذ الإمام المقربين وأحد أعلام الفكر الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وهو الكتاب الذي جمعه في ثلاثة أجزاء عن سيرة إمام النهضة ورائد التنوير الإمام محمد عبده.
يضم الكتاب رسائل الإمام ومقالاته التي نشرت في الدوريات المختلفة ولوائحه في إصلاح التربية والتعليم الديني، ودفاعه عن الدين، ورحلته إلى صقلية، إضافة إلى رسائله إلى العلماء والفضلاء في الموضوعات المختلفة، وبعض حكمه المنثورة، كما يحتوى الكتاب على تأبين الجرائد والفضلاء ومراثي المحبين من الأدباء.
«سلسلة تراث النهضة» هي إحدى السلاسل الجديدة التي استحدثتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، في إطار خطتها لتطوير النشر والسلاسل بالهيئة، ويرأس تحريرها د.أحمد زكريا الشلق أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس.
محمد رشيد بن علي رضا ولد 27 جمادى الأولى 1282 هـ/23 سبتمبر 1865 في قرية "القلمون (لبنان)"، وهي قرية تقع على شاطئ البحر المتوسط من جبل لبنان وتبعد عن طرابلس الشام بنحو ثلاثة أميال، وتوفي بمصر في 23 جمادى الأولى 1354 هـ/22 أغسطس 1935م. من العلماء المسلمين البارزين وكانت حياته العريضة هذه مليئة بالأعمال في شتى المجالات وهو شخصيا له مكان في عدة بلدان فهو بغدادي الأصل ولكنه مولود في بلدة قرب طرابلس الشام وتعلم في طرابلس وكان في صباه متنسكا وكاتبا في بعض الصحف وناظما للشعر. وفي سنة 1897م رحل إلى القاهرة وهناك لقي الأستاذ محمد عبده فلزمه وتتلمذ على يديه وكان قد لقيه قبل ذلك في بيروت.
ولقد كان تأثير محمد عبده على محمد رشيد رضا كبيرا إذ تبع هذا الأخير المبادئ التي كان ينادي بها أستاذه وجمال الدين الأفغاني من قبله وهي تحكيم العقل في كثير من الأمور واعتبر رشيد رضا في فترة من الفترات امتدادا لهذين الرجلين اللذين حركا الأذهان بدعوتهما إلى التجديد واتباع سبل الحضارة التي سبقنا إليها الآخرون. كانت مجلة العروة الوثقى التي أصدرها الرجلان زاداً لصاحبنا، وظل في باله هذا العمل الثقافي المهم حتى إذا جاءت سنة 1898م أنشأ مجلة المنار. ومنذ ذلك الوقت صار يُسَمَّى صاحب المنار لأنها كانت توزع في أماكن عديدة من العالم الإسلامي حتى لقد كان لها مشتركون في الكويت يتابعون قراءتها، ثم تنتقل من يد إلى أخرى لكي يقرأها أكبر عدد ممكن من الناس.
أمضى محمد رشيد رضا حياته في مناصرة الإسلام وأهله، وفي نشر الوعي بين المسلمين، والتنبيه إلى المشكلات التي إن لم يقوموا بحلها فإنها سوف تتفاقم وتؤدي إلى اسوأ مما هم عليه في عصره. وكان يدعو إلى إنشاء جمعية إسلامية مركزها مكة المكرمة، يجرى من خلالها توحيد كلمة المسلمين، حتى يتمكنوا من الوقوف في وجوه أعدائهم، له من المؤلفات ما يقرب من الثلاثين كتابا أهمها سوى مجلة المنار، تفسير القرآن الكريم، والوحي المحمدي، وقد ألف عنه الأمير شكيب أرسلان كتابا تناول فيه سيرته وسماه: السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة وهو مطبوع ولكن الحصول عليه اليوم في غاية الصعوبة. ولم يكن من المستغرب أن تسبقه شهرته إلى الكويت بعد أن انتشر عنه ما يقوم به من أعمال لصالح الإسلام والمسلمين، وبعدما صارت مجلته (المنار) تصل إلى المشتركين فيها من الكويتيين فيعرفون عنه وعن وجهاده وتوجهاته الشيء الكثير.
ربما لم يكن يعلم السيد رشيد رضا مقدار نفع تاريخه هذا الذي يؤخ فيه لحياة شيخه الأستاذ الإمام محمد عبده. ذلك أن هذا التاريخ ما زال حتى اللحظة العامل الأكبر في بيان حقيقة هذا الإمام المصلح الكبير.. وعلى كثرة ما تلقاه الأفغاني وعبده من طعون إلا أن هذا التاريخ ظل مرجعا لمن ينشد الحقيقة.. فكاتبه توفرت فيه ثلاثة عوامل مهمة: أنه عالم راسخ العلم، وأنه ثبت ثقة عدل فهو مأمون التاريخ، وأنه شاهد عيان بل هو معاشر لشيخه.. فاكتمل للتأريخ ما يجعله في الطبقة الأولى من التاريخ الموثوق فيه.
وعندي أن الشيخ رشيد رضا بالنسبة لمحمد عبده كالبيهقي بالنسبة للشافعي، حيث قال الجويني: الشافعي له الفضل على كل شافعي إلا البيهقي، فإنه له فضلا على الشافعي، فهو الذي أصل مذهبه واحتج له ونصره بالدليل..
وهنا يقوم الشيخ رشيد رضا هذا المقام، فيرد فضل الشيخ عبده عليه في الآخرين جميعا بهذا التاريخ العظيم.