استشهد الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) بكثير من الأشعار ذات الطابع الديني والخلقي، وكانت اختياراته موفقة، مميزة في لغتها وأسلوبها، ذات روحانية نورانية عذبة. وقد جاءت هذه الأشعار مع العلم الذي بثه الإمام الغزالي مسبوكة في نسيج واحد، يعرض الإنتاج الفكري الذي يمثل قمة ما سطره الإمام الغزالي وصفوة ما أنتجه الفكر الإسلامي في العلم والذوق على حد سواء. وهذا الكتاب جزء من ذلك النسيج، يعرض مقتطفات من تلك الحُلة القشيبة لذلك الكتاب الفذ.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد …
فإنَّ كتاب (إحياء علوم الدين) من الكتب الخالدة ذات القيمة العلمية والتاريخية، وهو كتابٌ ديني وأخلاقي جديرٌ بكثير من القراءات المتأنِّية الفاحصة؛ لاستخراج ما حواه من كنوز، وبثِّ ما فيه من درر.
الإمام أبو حامد الغزالي (450 – 505 هـ) – (1059 – 1111م) :
والإمام أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، الملقَّب حجَّة الإسلام، ولقبه زين الدِّين، الطُّوسي الفقيه الشَّافعي، كان تلميذًا لأحمد الراذكاني في مبدأ أمره ببلده (طوس)، ثم ذهب إلى نيسابور فدرس على أبي المعالي الجويني، ثمَّ صار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه، وكان أستاذه يفخر به، ثم خرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير (نظام الملك) فأكرمه وأقبل عليه وعظَّم أمره، واشتهر أمره بالجدال والمناظرة في مجالس الوزير.
درَّس الإمام الغزالي في المدرسة النظامية ببغداد قرابة أربع سنوات (484هـ – 488هـ)، ثم ترك التدريس وسلك طريق الزهد والانقطاع وقصد الحج، فلما رجع توجه إلى الشام فأقام بدمشق مدَّة يذكر الدروس في زاوية الجامع، وانتقل بعد ذلك إلى بيت المقدس ثم إلى مصر حيث أقام بالإسكندريَّة، ثمَّ عاد إلى طوس حيث اشتغل بالتَّصنيف فوضع (الوسيط) و(البسيط) و(الوجيز) و(الخلاصة) و(الإحياء) وغير ذلك من كتب الفقه وأصوله وعلم الجدل. ثم ألزم بالعود إلى التدريس بالمدرسة النظامية بنيسابور فأجاب إلى ذلك، ودرَّس فيها سنتين، ثم تركها وعاد إلى وطنه، واشتغل بختم القرآن ومجالسة أهل التصوُّف والقعود إلى التدريس إلى أن انتقل إلى جوار ربِّه.
خلَّف الغزالي عددًا من المؤلَّفات النافعة في عدَّة مجالات، كـ(إحياء علوم الدين)، و(آداب الصوفية)، و(ميزان العمل)، و(معراج السالكين)، و(مشكاة الأنوار) في التَّصوُّف والأخلاق، و(عقيدة أهل السُّنَّة) و(القسطاس المستقيم)، و(الرِّسالة القدسيَّة) في العقائد، و(مقاصد الفلسفة) و(تهافت الفلاسفة) و(معيار العلم) في المنطق، رحمه الله رحمةً واسعة.
كتاب (إحياء علوم الدين):
أما كتابه (إحياء علوم الدين) ([1]) فهو الكتاب الفذُّ الذي أثنى عليه علماء الإسلام، وغير واحد من عارفي الأنام، فقال فيه الحافظ العراقي في تخريجه: إنه من أجلِّ كتب الإسلام، في معرفة الحلال والحرام، جمع فيه بين ظواهر الأحكام، ونزع إلى سرائر دقَّت عن الأفهام، لم يقتصر فيه على مجرَّد الفروع والمسائل، ولم يتبحَّر في اللُّجَّة بحيث يتعذَّر الرجوع إلى الساحل، بل مزج فيه علمي الظاهر والباطن، ومزج معانيها في أحسن المواطن.
وقال عبد الغافر الفارسي في مثال الإحياء أنَّه من تصانيفه المشهورة التي لم يُسبَق إليها، وقال فيه النووي: كاد الإحياء أن يكون قرآنًا، وقال الشيخ أبو محمد الكازروني: لو مُحيت جميع العلوم لاستُخرِجت من الإحياء.
وقال العارف بالله علي بن أبي بكر بن الشيخ عبد الرحمن السَّقَّاف: لو قلَّب أوراقَ الإحياء كافرٌ لأسلم؛ ففيه سرٌّ خفيٌّ يجذب القلوب شبه المغناطيس … والمراد ([2]) بالكافر هنا ـ فيما يظهر ـ الجاهل لعيوب النفس، المحجوب عن إدراك الحق، أي فبمجرَّد مطالعته للكتاب المذكور يشرح الله صدره، وينوِّر قلبه؛ وذلك لأن الوعظ إذا صدر عن قلب متَّعظ كان حريًّا أن يتَّعظ به سامعه.
المختارات الشِّعرية:
وقد كنت قرأت كتاب الإحياء منذ فترة، وشدَّني ما فيه من الشِّعر الَّذي يستشهد به الإمام الغزالي في موضوعات الكتاب، ففكَّرت أن نستفيد بهذا الشِّعر فائدة مضاعفة، من جهة لما فيه من بثِّ أفكار الإحياء الدِّينية والخلقية، ومن جهةٍ أخرى لما حوى من ألفاظ جميلة ومعانٍ سامية في صياغة سلسة، فكانت فكرة (ديوان الإحياء) أو (المختارات الشِّعرية للإمام أبي حامد الغزالي).
وقيمة هذا الشِّعر تعبِّر عنها عبارة الإمام في قوله: ” القلوب وإن كانت محترقةً في حبِّ الله تعالى فإنَّ البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن، وذلك لوزن الشِّعر ومشاكلته للطِّباع، ولكونه مشاكلاً للطَّبع اقتدر البَشَر على نظم الشِّعر، وأمَّا القرآن فنظمه خارجٌ عن أساليب الكلام ومنهاجه، وهو لذلك معجزٌ لا يدخل في قوَّة البَشَر؛ لعدم مشاكلته لطبعه ” ([3]).
وفي سبيل الاستفادة القصوى من هذا الديوان قمت بتقسيمه كما هو منهج تقسيم الإحياء، حتى يجتمع النَّظير بنظيره، ولا يختلط ما ورد في مقام العادات بما ورد في مقام العبادات، ولا تتداخل المنجيات مع المهلكات، ورتَّبت القطع داخل كل قسم على ترتيب القوافي، وضبطت الأبيات بالضبط التام، ثم وضعت رقمًا وعنوانًا موحيًا لكل بيت أو قطعة، وأضفت ما يوضح المعنى ويبين عن المراد، من نصِّ الإحياء مرموزًا له بـ[إ]، وبجملة مختصرة من عندي مرموزًا لها بـ[ش]، ، وفي الهامش قدمت تفسيرا لما يحتاج إلى تفسير من الكلمات بالإضافة إلى بيان البحر العروضي. وقد اهتممت بنسبة الأشعار إلى قائليها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ووضعت بعد كلِّ نسبة المرجع الذي رجعت إليه، أما ما نسبه صاحب الإحياء فقد ذكرت القائل بلا مرجع، وظلَّت بعض الأشعار بلا نسبة.
وبعد … فقد أُريد لهذا الكتاب أن يكون رحلة سامية في العبادات والعلوم والأخلاق والرقائق، وأن ينتفع به القارئ الكريم ويجد فيه فوائد من الدِّين والأخلاق والعلم والحكمة، في ثوبٍ أدبيٍّ ممتع، ونرجو أن يكون قد تحقَّق ما هدفنا إليه، ونسأل الله التَّوفيق والقبول.
وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب
د. صالح عبد العظيم الشاعر القاهرة ربيع الآخر 1430هـ أبريل 2009م