نيقولاى ألكسندروفتش برديايف مفكر روسي ممتاز ، وكاتب شائق ، ومجاهد في سبيل عقيدته لا يقبل المساومة ، ولا يعطي الليان. تقوم فلسفته على تجربته الروحية ، ورؤيته الحدسية ، ونزعته الصوفية ، ولا تعولً كثيراً على التحليل المنطقي ، واختبار المفاهيم العقلية ، فهي صدى لحياته الداخلية ومعتقداته اليقينية ، وقد اجتذب تفكيره الأنظار ، وذاعت شهرته ، ونقلت مؤلفاته الكثيرة إلى لغات عدًة ، وتناولها الباحثون بالعناية والتقدير.
وقد ولد برديايف سنة 1874 في مدينة كييف أول مركز للديانة المسيحية في روسيا ، وكانت أسرته من أعيان الأسر الروسية وتلقًى تعليمه في إحدى المدارس الحربية ، وفى سنة 1894 وهو طالب في الجامعة تحول إلى الماركسية ، وتأثر بتعاليمها ومنهجها في البحث والنظر ، وخلال السنوات الأربع التالية اعتقلته الحكومة القيصرية مرتين ، وفي المرة الثانية - سنة 1898 نفى إلى فولجودا مدة.
Nikolai Alexandrovich Berdyaev was born at Kyiv in 1874 of an aristocratic family. He commenced his education in a military school and subsequently entered the University of Kiev. There he accepted Marxism and took part in political agitation, for which he was expelled. At twenty-five he was exiled from Kiev to the north of Russia and narrowly escaped a second period of exile shortly before the Revolution. Before this, however, he had broken with Marxism in company with Sergius Bulgakov, and in 1909 he contributed to a symposium which reaffirmed the values of Orthodox Christianity. After the October Revolution he was appointed by the Bolshevists to a chair of philosophy in the University of Moscow, but soon fell into disfavour for his independent political opinions. He was twice imprisoned and in 1922 was expelled from the country. He settled first in Berlin, where he opened a Russian Academy of Philosophy and Religion. Thence he moved to Clamart near Paris, where he lectured in a similar institution. In 1939 he was invited to lecture at the Sorbonne. He lived through the German occupation unmolested. After the liberation, he announced his adhesion to the Soviet government, but later an article by him published in a Paris (Russian) newspaper, criticising the return to a policy of repression, was tantamount to a withdrawal of this. He died at Clamart March 24, 1948.
لا أدّعي الإحاطة الكاملة .. أو الفهم الكافي ، الكتاب يعالج مواضيع اختلف في تناولها الفلاسفة ... و مع ذلك طرح نيكولاي برديائف وجهة نظره الفلسفية ، بوضوح و سلاسة .. فلسفة تتمحور حول الإنسان .. غنية بالمعنى .. و ذات قيم روحية عالية ...
" وشر أنواع العبودية هو استعباد الإنسان لنفسه ، وقد سبق ذكر أن الإنسان ينزل في كثير من الأحيان عن حريته بمحض اختياره ، وفي الدول الآخذة بالنظام الكلي يصبح الناس عبيدًا ، وتقبل أغلبيتهم التنازل عن حريتهم في سرور وارتياح ، والأنانية وحصر كل شيء في نطاق الذات مصدر مهم من مصادر الاستعباد ، لأن ذلك يحبس الإنسان في دائرة وعيه الخاص ، ويعوق تمدد النفس وتوسيع آفاقها ، ويمنع تأثرها بنفوس الأحياء والأموات ، ويحول بينها وبين التعبير عن دوافع الحب والخلق الكامنة في نفسه "
" الشعور بالحرية عبء ثقيل على كاهل الإنسان والألم والعذاب مصاحبان له، والمأساة خاتمته ، وتجنبًا لهذه النتائج وهروبًز من الحل المفجع يضحي الناس غالبًا وعن عمد بحريتهم "
إن نيكولاي برديائف من المفكرين المتطلبين للانفصال الكامل عن محيطك أثناء مطالعة كتاباته، لكنه في مقابل ذلك يفتح أمامك عالمًا من خلق الأفكار وتفنيدها يضع الإنسان في نصابٍ يشمله في صورته الكاملة فلا يشيئه ولا يقدسه ، فيسبر أغواره ويناقش مشكلاته ويكشف عن ذات الإنسان وعلاقته بالدين والمجتمع والخير والشر. أفاض برديائف في عرضه للفلسفة العلمية وجعلها العقل وحده مرجعًا نهائيًا للنموذج الفلسفي الموضوعي، فينصف العاطفة وينفي عنها اقتصارها على الذاتية، ورأى أن الإدراك الفلسفي فعل روحي لا يقوم به العقل وحده وإنما تتركز فيه مجموع القوى الروحية للإنسان سواءًا انتمت إلى وجوده الإرادي أو إلى وجوده الشعوري. أعادني برديائف مع طرحه إلى اعتقادي الدائم بأن الحقيقة الكامنة في الدين في حاجة للعاطفة والشعور فلا يكون للعقل وحده السيطرة على سبل إدراكها، وبالتالي لايمكن إخضاع الإيمان بصورته الكاملة إلى المَنطقة.
وفي مناقشته لبدائية "الأنا" رفض عبارة ديكارت "أنا أفكر إذًا أنا موجود" حيث رأى برديائف أن الأنا لا تُستمد ولا تُرد إلى شيء، حيث أن التفكير نتيجة حتمية أقرب إلى الجبرية إذا ما وُجدت الأنا من حيث هي فكرة وجودية لا تخضع للموضوعية، وتلك من الأفكار التي استمتعت بها كثيرًا وإن كان قد حصرها في قالب يضيق بالفكرة الأصلية لديكارت. أما حديثه عن عزلة الإنسان وعلاقتها بالدين والروح والمعرفة فتحتاج إلى صفحات لعرضها إذ أظهر فيها جانب الصوفية الذي عرف به. حين عرض برديائف أفكاره عن مجتمع الآلة وسيطرة المجتمع التقني وتنحية الإنسان- والذي استفاض فيه في مواضع أخرى غير هذا الكتاب - تذكرت مقولة أليكسيس كاريل التي استوقفتني كثيرًا : " يجب أن يكون الإنسان مقياسًا لكل شيء ، لكن الواقع عكس ذلك، فالإنسان غريب في عالمه الذي ابتدعه." ولن أنسى ذلك الاقتباس الذي أسرني " هؤلاء الذين حققوا الاتصال الروحي ليسوا منزهين عن فراق الموت الفاجع، ولكنهم يشعرون أن هذا الفراق مقصور على العالم الطبيعي. وفي عالم الروح، وفي أعماقه، يصير الموت طريقًا للحياة الحقيقية، ما دام الموت لا يؤثر إلا على العالم الموضوعي وخاصةً على شخصية هؤلاء الذين استسلموا لقوته الغريبة."
إذا حُقّ لنيكولا بيردياييف أن يكون فيلسوفا فلا يمكن لفلسفته إلا أن تُسمى فلسفة الإنسان كيف لا و قد مثل الإنسان بدارا يدور في فلكه التفكير الفلسفي الذي شيد صرحه و نسج خيوطه متخذا من تجربته الشخصية الإنسانية منطلقا و ملهما غير آبه بالتضمينات و النقدية المتحذلقة التي قد تورد على فكر هذه القامة الفكرية
لم أطلع على كامل مؤلَّفات الرجل ، و لكن مجرد التصفح التمحيصي لهذا الكتاب الذي أتحفظ على عنوانه مؤثرا لو بقي تحت عنوان خمسة تأملات عن الوجود كما في النسخة الفرنسية ، كفيل بتبلور فكرة عن فلسفة هذا الرجل التي يسوغ أن نعتبرها فلسفة حرة لمفكر حر لم ينحشر داخل بوتقات السكولائكية الآسرة (أبستملجة البحث أو إن شئت فقل ادلجة الفلسفة
و رغم هذه الحرية التي يصطبغ بها فكر بيردياييف فقد عمد الرجل إلى نسج خيوط فلسفته بدقة فلسفية و وضوح يستجيب للضوابط المفاهيمية المتواضع عليها خلافا لإيميل سيوران على سبيل المثال الذي اتخذ من تأملاته التي تكاد تغرق في الغنوصية العدمية قاعدة له . و نعم فبيردياييف فيلسوف خلافا للعدمي غير المستنير سيوران الذي رفض السير على درب الفلاسفة الموغل في التعقيد في نظره ، بما يسد كل الأبواب الممكنة لأية مقارنة بينهما يمكن اختزال الفكر الفلسفي البيردياففي في فكرة النشاط المبدع الذي ما كان ليكون لولا توفر شرائطه الموضوعية التي تتصدرها الحرية بوججهيها السلبي المتمثل في التحرر من ربقات المجتمع ، و العادات ، و النظم و الأنماط القيمية السائدة و الحكومة ، و الإيجابي المتمثل في تمثل الخير و الجمال و السعادة من . و هذه القيم حسب بيردياييف تؤثر في الواقع الطبقي و الاجتماعي و الاقتصادي لأسبقيتها عنه لا العكس .
و لا يكون تمثل الوجه الإيجابي من امتحان الحرية إلا و غذا ما انتهى هذا الصراع بنجاح إلى تحقق هذه الحرية التي تنصب رأسا على الروح الإنسانية ، و كفى بها . ذلك ان الروح نشكل جوهر الإنسان ذلك المجهول وفق الكسيس كارليل فالروح موئل الإبداع و جماع القيم الخير و الحب و السعادة الخالدة ، على أنها روحفردانية لا روح كلية أو انعكاس لها كتلك التي تخيلها شيلنغ و هيغل المغرقين في المثالية من خلال التجربة الشخصية بل الشخصية للغاية و الانسان عند بيردياييف كائن فاعل و فعال و مبدع روحه مبدعة خلافا للقول المادي الذين يرى في العقل مجرد تعبير عن رد فعل ميكانيكي عضوي متسلط على الإنسان على نحو من القهر
"الأنا" فى الإنسان محكومة بالعزلة بسبب "مصيرها الفريد"، وطريقها الوحيد للهروب من العزلة هو تجاوز الذات عبر اتصال روحى ب"الأنت" أو ال"نحن"، وهو اتصال يحدث فى "الله". والله هنا هو الآخر، هو "الأنت" المطلق الذى تصدر عنه بذور وإمكانيات الاتصال الروحى. 1 ولكن، هناك عرقلة تقف فى طريق الاتصال الروحى، وتتمثل فى الإحالة الموضوعية، إحالة الآخر لشىء، ويحدث هذا لغرض اجتماعى. فالمجتمع يحتاج لشىء ملموس يتصالح عليه البشر، يحتاج للغة وقيم مشتركة. فأى إحالة مادية وموضوعية لأمور هى فى أصلها "روحية" تحدث لغرض اجتماعى. والتفاهم الاجتماعى لا يُخرج الأنا من عزلتها، ولكن يُغطى هذه العزلة بنوع آخر من العزلة، بقناع آخر. وكل الجمعيات البشرية مثل "الأسرة"، "العشيرة"، "الدولة"، وحتى "الجمعية الأخوية" هى مؤسسات اجتماعية قامت على إحالات موضوعية، ولا تقوم على الاتصال الروحانى. "مجتمع الكنيسة" نفسه يقوم على إحالة موضوعية لقيم فى أصلها لا شيئية ولا موضوعية. وبذلك فنوع "الاتصال" الذى يحدث بين البشر فى هذه المجتمعات هو مجرد "اتصال رمزى" وليس حقيقيا. ولا يعتبر هذا اندماجا فى "الأنت" أو "النحن". 2 يتمثل المصير الفاجع فى الإنسان فى إنه يملك "شخصية". والشخصية هى عنصر روحى ولا يمكن تناولها كشىء أو موضوع. مركب من متناقضات وجودية لا يمكن رفعها. فالشخصية هى قوام ثابت فى قلب التغير والتطور. والشخصية فى نفس الوقت جدلية وديناميكية ومرهونة بطاقة تدفعها لتجاوز نفسها ب"آخر" هو أعلى منها. أى، أن مصير الإنسان الفاجع يتمثل فى شخصية تتشبث ب"فرادتها" فى مواجهة تشيىء المجتمع، وفى نفس الوقت، هى مدفوعة – من أجل أن تتحقق – إلى أن تتجاوز نفسها إلى قيم فوق شخصية. مدفوعة للاتصال الروحى ب"الأنت"، وقد يتحقق هذا فى علاقات صداقة عينية، أو علاقات حب بالجنس الآخر، ويتحقق الاتصال الروحى عبر علاقات كهذه بقدر مباشرتها وتحررها من إى إحالة موضوعية. والأصيل فى "برديائف" هو نبرته القوية الواثقة والمميزة، فى تأكيده على ضوروة أن يتم الاتصال الروحى بشكل عينى فردى، لا مجرد عام. فالكلية تتحقق عبر الفردى، أى مثلا بعلاقة صداقة فردية بفرد آخر بعينه. والاتصال الذى يتصوره اسبينوزا، أو القديس أوجسطين، بما يسمى بالانسجام الكونى، بعيدا عن الفردية، هو اتصال غير روحانى، هو مجرد "اتصال رمزى". ولذلك فصرخة "إيفان كارامازوف" بأن الظلم الجزئى والعينى، لا يمكن مسامحة الرب عليه، ولا يمكن تجاوزه بتصور عدل كلى وكونى، هى صرخة حقيقية. لأن العينى والجزئى هنا، هو الذى يمثل الحقيقة الوجودية الروحانية. 3 إن برديائف هو فيلسوف مؤمن أصيل، وشططه ينبع من أصالة نبتته. وتقوم فلسفته على مقدمات "جزافية" لا يمكن البرهنة عليها، لأنها حقائق وجودية لا معقولة، وهو غير مهتم بعقلنتها بأى شكل من الأشكال، وتتمثل "لعبته" فى جذب القارىء وجوديا إلى هذا "الحقل" من ال��شارات الوجودية اللامعة، الرهيفة، و"الحقيقية". 4
كنت أرغب أن أتحدث عن هذا الكتاب بشكل مفصل لكن ارتأيت أنه من الأفضل أن يطلع عليه القاريء لعمق فلسفته النفسية والتي تتطرق الى العزلة الاجتماعية والنفسية والروحية بأسلوب فلسفي مؤثر.
وكيف أن الانسان يحاول أن يتخلص من العزلة بتعلقه وارتباطه بالأشياء من حوله أو تكوين علاقات بغرض ذلك لكن تبقى العزلة متقوقعة في ذاته، طبعا الكاتب يجد أن العزلة سببها المسيحية والكنيسة وغيرها، فهو يتكلم عن ذلك ويسهب بناء على مجتمعه وسلوكياتهم، ويمكن للقاريء أن يعكس المسألة برؤية مختلفة ويكون تساؤلاته بطريقة تتوافق مع مجتمعه ودينه.
أنا أعجبني الحقيقة التأمل الثالث خصوصا الفصل الأول الذي يتحدث فيه عن الأنا والعزلة والمجتمع وأعجب ما قاله في الكتاب: (من الخطأ اعتبار العزلة نزعة انعزالية). وهذا جميل جدا. ومن الأشياء الغريبة التي يقررها المؤلف: (الأنا لا تعاني عزلتها داخل نفسها مثلما تعانيها وسط الآخرين) ويقول عن العزلة المطلقة أنها مرادفة للجحيم والعدم وأعتقد أنه يقصد بذلك السجن أو مثيلاتها من العزلة الجبرية. وقد قسّم البشر إلى أربعة أنواع من ناحية عزلتهم، لا أريد أن أحرق الكتاب بذكرهم لكن الكتاب ممتع جدا لاسيما في هذا الفصل تحديدا.
يرى المفكر الروسي نيقولاي برديائف أن الأنا إذا صعدت من أعماق الوجود واتصلت بالمجتمع الموضوعي، فلابد لها من أن تبذل كل مافي وسعها لتحمي هويتها الحقيقية، وفي الحياة الاجتماعية عندما يقوم الإنسان بأدوار لا تعكس ذاته الحقيقية فلابد له من أن يحاول الاحتفاظ بتكامل الأنا. وأي كان مركز الإنسان الاجتماعي فإنه يخلع على نفسه شخصية معينة. سواء شخصية ملك أو أرستقراطي أو برجوازي أو ثائر أو فنان أو أي شخص آخر؛ وليست الأنا التي تنتسب إلى الحياة الاجتماعية هي الأنا الأصلية، ولهذا السبب ليس من اليسير كشف الأنا الإنسانية الحقيقية وانتزاعها من ثياب التنكر الاجتماعي. والإنسان في المجتمع ممثل دائماً يعيش في مستوى السلوك الذي يفرضه عليه مركزه، فإذا قام بدوره خير قيام كان من العسير عليه أن يعيد كشف نفسه الأساسية. وهكذا نجد أن أنا الإنسان المسرحية ليست غير صورة أخرى من صور الإحالة الموضوعية. والإنسان بالتالي يعيش في وقت واحد في عوالم مختلفة ويلعب أدوار مختلفة يحيل نفسه في كل منها إحالة موضوعية مختلفة.
"هناك في أعماق الوجود منطقة لا معقولة مظلمة، لا يمكن أن نجعلها هي والمعرفة شيئاً واحداً، ولكن من واجب المعرفة أن تنيرها"
العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف
كتابٌ جميلٌ للغاية، يُعبر عن توجهات برديائف الإنسانية والفكرية، في مواضيع عديدة هامة، ويتناول أبرز المسائل المستعصية على الذهن الإنساني اليوم من منظوره الفلسفي البسيط والبديهي، وفي الوقت نفسه الهام للغاية.
يبدأ برديائف كتابه بنفي التعارض بين الفلسفة والوحي (أو أي مصدرٍ آخر "غير علمي")، وإثبات صفة المصدر المعرفي على مختلف الأمور التي تواضعت عليها المجتمعات، قائلاً بأن التعارض، في العادة، ينشأ بين موضعة الدين الموضع الاجتماعي والفلسفة التي تدرسه في موقعه ذاك، مؤكداً على أن العاطفة كذلك مصدر معرفي بحكمها القيمي الذي يعلو النزعة العلمية، أما فهم الوحي والتعبير عنه فيدل على طبيعة البناء المجتمعي أكثر مما يدل على مضمون الوحي نفسه، ذاك أن المعرفة الواحدة قد تتوظف في مختلف المجتمعات بطرق عديدة مختلفة، تبعاً للنظام التي تبعها وتقوم عليها (أو ما يسميه بالإحالة الموضوعية للأديان).
كما أشار إلى حاجة الفيلسوف إلى تجربة المأساة الموضوعية ليدرك تناقض النفس البشرية وتمثلاتها، ويستطيع بفلسفته أن يهبها المعنى الذي يريد، وأما الفلسفة فتقف في وجه النزعة العلمية الشمولية ووجه التطرف الديني، لأن موضوعها يقتضي الفصل بين الحقائق والمصادر المعرفية كما هي، وبين الأردية التي ارتدتها على مر العصور.
وللفلسفة أصالتها الشخصية النابعة من المنظور الذاتي والمعاكس للمنظور الطبيعي الشمولي، ولا ينفصل الإنسان عن فلسفته إلا إذا توقف وجوده، وكلما عمد إلى فهم الفلسفة الإنسانية ضرب جذور وجوده في الحياة أكثر، وقد تناول الكاتب الميتافيزيقيا على أنها باب من الأبواب المودية إلى الفلسفة الذاتية والمعبرة عنها، وتحدث عن الفلسفة من حيث أنها تُملي على المجتمع ولا يمليها هو عليها شيئاً، لأنها لا تحتكم للقوانين بل هي الصيرورة المجتمعية التي تحتوي الإنسان المتغير.
أما الذات الفاعلة التي تُنتج الفلسفة الشخصية فهي أصل الوجود، والموضوع إن انفصل عنها انصبغ بصبغة اجتماعية، وهي بضمانها الحرية الفردية تُنتج وجوداً معبراً حقيقياً عن الفرد، أما إن سلمت نفسها للإحالة الموضوعية تصبح تجربة منقوصة في الوجود، ينعكس عليها المجتمع دون أن تتجاوزه، أما وجودها فلا يُفهم بالنزعات العلمية الموضوعية وإلا سُخِّف وحُطَّ من قدره وقيمته.
ولأن الموضوع شأن عمومي، فإن الذات تتصل به كنقيض لها، منطلقة من وجودها الماهوي مقابل الإحالة الموضوعية التي تدمج المرء في محيطه فينتج عن ذلك تجربة وجودية منقوصة، فالإحالة الموضوعية ثمرة المجتمع، مجردة تماماً من الفلسفة الذاتية، والتي لا يمكن اختزالها في مجرد نزعاتٍ ودوافع هي مجرد عوارض لها.
أما الذات الفاعلة فبإدراكها الموضوع تضفي عليه المعنى، وبضمان الحرية بينها وبين الفكرة تجد نفسها في توازٍ مستمر معها تتطور معها وتطورها، فلا تخضع إحداهما للأخرى، والفلسفة إن انحرفت عن الوجود والإنسان شكلت نظاماً مزيفاً من القيم، لا يحقق المصلحة الإنسانية ولا يعدو كونه نتاجاً غريباً لا خير يرجى منه.
كما تحدث برديائف عن إنتاج المجتمع لمعارف تشبهه وتمثله، وعن الشخصية المنعزلة عنه بمعقولية، والتي تخلق لنفسها جواً صحياً من النمو والازدهار، وبتقبلها المواضيع وتحليلها من وجهة نظرها تظل في مأمن عن ملامسة وضاعة المادة في الخارج، وفي الوقت الذي تحاول فيه الأنا تجاوز ذاتها، ضمن أفق معرفي يخصها، فإن الشخصية تتكون من الرغبات المعرفية الإيجابية والفاعلة في نفس المرء، والتي تحدد له هويته وطبائعه الخاصة، والتي تميزه عن غيره.
ويحفظ بيرديائيف للإنسان حقه المقدس في عزلته الخاصة، حيث يختار المواضيع التي تعبر عنه، ولكن الشخصية في بحثها عن الآخر لتحقيق التواصل الروحي معه تظل في حذر وانتقاء من الاختيار الخطأ، وحالما تجده تستطيع تجاوز مفاهيمها وخلق أخرى جديدة مع الآخر، والشخصية في تدينها تماثل تجربة الحب إن حافظت على خصائهما المشتركة، ولم تترك الإحالة المجتمعية تلوث مفهومها عنه، بمعنى أن بيرديائيف لا يتصور الدين دون محبة، وحيثما يراه مفتقراً إليها يدرك أنه شكل من أشكال الإحالات الموضوعية التي ينتجها المجتمع باستمرار.
ويقول برديائف بأن الشخصية نتاج اصطدام المرء بالواقع الموضوعي، ويمتد تأثيرها ليشمل ردود الفعل على المحيط، ويصفها بأنها لا تشكل جزءاً من الكُل في المجتمع، بل إنها كُل متكامل يقابل الكُل الخاص بالمجتمع، وتتمثل أفضل تمثيل لها بالاتصال الروحي مع الآخر، والذي تحتاجه لتدرك أبعادها الهامة، أما الأفكار، فتتحقق الشخصية من خلالها ولكنها لا تخدمها، فالشخصية ليست بأي معنى من المعاني وسيلة لتحقيق فكرة معينة، بل إنها تخلق الفكرة وتنتج الفعل وتضفي المعاني وترتفع بالمرء إلى مستويات سامية من الوجود.
ويؤكد برديائف أننا يجب أن ندرس تاريخنا دراسة فلسفية شخصية لا موضوعية وعلمية، حيث يكسر المرء الحواجز ويحول تجارب تاريخه إلى حاضر يتمثله ويعيشه ويتعلم منه باستمرار، ولكن الإحالات المجتمعية المتطرفة كالتكنولوجيا ساهمت في جعل الحياة أكثر آلية وتسارعاً، وأكثر شراً وفظاعة.
ثم ينتهي الكاتب بمقولة الدولة، الشكل الأكثر تطرفاً من أشكال الإحالة الموضوعية، الأمر الذي يجعل من التكنولوجيا والميتافيزيقيات الدينية وأنظمة الحكم مشاريع منقوصة لا تتشارك مع الاتصال الروحي ولا تحققه بل تطمسه باستمرار، إلا أن الحب يسمو بالروح في مثل هذا المجتمع ويكشف ظلام العالم الم��ضوعي، ويستبدل وجوده بوجود الآخر والاستمرارية معه، فلطالما همَّشت الموضوعية المتطرفة للمجتمعات الأفق الأبدي للشخصية.
الكتاب جميلٌ للغاية، طرحه حميميٌّ وصادق، وتوجهاته غاية في الأهمية، أحببتُه كثيراً.
إذا حُقّ لنيكولا بيردياييف أن يكون فيلسوفا فلا يمكن لفلسفته إلا أن تُسمى فلسفة الإنسان كيف لا و قد مثل الإنسان بدارا يدور في فلكه التفكير الفلسفي الذي شيد صرحه و نسج خيوطه متخذا من تجربته الشخصية الإنسانية منطلقا و ملهما غير آبه بالتضمينات و النقدية المتحذلقة التي قد تورد على فكر هذه القامة الفكرية
لم أطلع على كامل مؤلَّفات الرجل ، و لكن مجرد التصفح التمحيصي لهذا الكتاب الذي أتحفظ على عنوانه مؤثرا لو بقي تحت عنوان خمسة تأملات عن الوجود كما في النسخة الفرنسية ، كفيل بتبلور فكرة عن فلسفة هذا الرجل التي يسوغ أن نعتبرها فلسفة حرة لمفكر حر لم ينحشر داخل بوتقات السكولائكية الآسرة (أبستملجة البحث أو إن شئت فقل ادلجة الفلسفة
و رغم هذه الحرية التي يصطبغ بها فكر بيردياييف فقد عمد الرجل إلى نسج خيوط فلسفته بدقة فلسفية و وضوح يستجيب للضوابط المفاهيمية المتواضع عليها خلافا لإيميل سيوران على سبيل المثال الذي اتخذ من تأملاته التي تكاد تغرق في الغنوصية العدمية قاعدة له . و نعم فبيردياييف فيلسوف خلافا للعدمي غير المستنير سيوران الذي رفض السير على درب الفلاسفة الموغل في التعقيد في نظره ، بما يسد كل الأبواب الممكنة لأية مقارنة بينهما يمكن اختزال الفكر الفلسفي البيردياففي في فكرة النشاط المبدع الذي ما كان ليكون لولا توفر شرائطه الموضوعية التي تتصدرها الحرية بوججهيها السلبي المتمثل في التحرر من ربقات المجتمع ، و العادات ، و النظم و الأنماط القيمية السائدة و الحكومة ، و الإيجابي المتمثل في تمثل الخير و الجمال و السعادة من . و هذه القيم حسب بيردياييف تؤثر في الواقع الطبقي و الاجتماعي و الاقتصادي لأسبقيتها عنه لا العكس .
و لا يكون تمثل الوجه الإيجابي من امتحان الحرية إلا و غذا ما انتهى هذا الصراع بنجاح إلى تحقق هذه الحرية التي تنصب رأسا على الروح الإنسانية ، و كفى بها . ذلك ان الروح نشكل جوهر الإنسان ذلك المجهول وفق الكسيس كارليل فالروح موئل الإبداع و جماع القيم الخير و الحب و السعادة الخالدة ، على أنها روحفردانية لا روح كلية أو انعكاس لها كتلك التي تخيلها شيلنغ و هيغل المغرقين في المثالية من خلال التجربة الشخصية بل الشخصية للغاية و الانسان عند بيردياييف كائن فاعل و فعال و مبدع روحه مبدعة خلافا للقول المادي الذين يرى في العقل مجرد تعبير عن رد فعل ميكانيكي عضوي متسلط على الإنسان على نحو من القهر
" فهناك في أعماق الوجود منطقة لا معقولة مظلمة لا يمكن أن نجعلها هي والمعرفة شيئاً واحداً، ولكن من واجب المعرفة أن تنيرها. والمعرفة تحوم على حافة الهوة المظلمة للوجود، ولكنها هي نفسها يجب أن تبقى واضحة بينة ". *
......
" الفلسفة الصادقة لا تقنع بالنظر في الموضوع، ولكنها تجاهد لبلوغ الحقيقة التي تكمن وراء الموضوع متلهفة بذلك على إماطة اللثام عن معنى الحياة والمصير الشخصي ". * في هذا الكتاب يتطرق برديائف للفلسفة وعلاقتها بالذات والفرد والدين والمجتمع ويناقش الأنا والعزلة، والعزلة والمجتمع ، والزمان والماضي . " وأن عملية الإدراك تكتشف المعنى مما لا معنى له، والنظام وراء الفوضى والكون من الأحداث المختلطة بعضها ببعض ".* الكتاب عميق وأفكاره مهمة والطريقة التي عرض بها نيقولاي فلسفته منظمة وجميلة بحيث يجعلك تشعر بالمتعة وأنت تستكشف ذاتك من خلال قراءة التأملات التي حملها الكتاب بين طياته؛ قسم الكتاب إلى خمس تأملات في كل تأمل عدة فصول ثرية جداً، هي كالتالي : _ موقف الفيلسوف الفاجع ومشكلات الفلسفة ( جاء هذا التأمل في فصلين ). _ الذات والإحالة الموضوعية ( جاء هذا التأمل في ثلاثة فصول ). _ الأنا والعزلة والمجتمع ( جاء هذا التأمل في ثلاثة فصول، هذا التأمل ممتع ). _ شر الزمان _ التغير والأبدية ( جاء هذا التأمل في ثلاثة فصول). من الموضوعات التي شدة إنتباهي ما جاء في فصول هذا التأمل. _ الشخصية والمجتمع والاتصال الروحي ( جاء هذا التأمل في أربعة فصول، كانت هذه الفصول مدهشة ). " إن نمو المعرفة يساعد على إنشاء مجتمع أعظم . لأن المعرفة تتصل بدرجة الوعي عند الإنسان وهي في حد ذاتها تتصل بدرجة رقي المجتمع . غير أن المجتمع الحقيقي لا يوجد إلا في قلب الوجود الحقيقي، أي في اللحظة التي يصبح فيها شيئاً واحداً، لا مع المجتمع الموضوعي وحده، ولكن مع المجتمع الروحي أيضاً والاتصال الروحي ظاهرة روحية، وليس ظاهرة طبيعية، وبفضله تتحول المعرفة، إذ إن موقف الإنسان من بني جنسه يتغير إذا أصبح شاعراً بوجوده الوثيق وبغيره من الناس باعتبارهم [ أنا ] أو [ أنت ] لا باعتبارهم موضوعات ".* كتاب مميز، عميق فيه ملامح إيمانية وإنسانية رائعة 💙 ختاماً ؛ " الحق ليس حالة موضوعية كما لا يمكن إدراكه بحسبانه موضوعاً.. الحق يتضمن _ قبل كل شيء _ نشاط الإنسان الروحي وإدراكه يتوقف على درجة الإتصال بين الناس، وعلى اتصالهم في الروح ".* ( الجمل المختومة بـ * هي اقتباسات من الكتاب ). #نيقولاي_برديائف #العزلة_والمجتمع #مروه
منظور جديد للعزلة بين الأنا والأنت والنحن والمجتمع والدولة. ونظرة شاملة على كل تلك الأمور وتفسيرها من الناحية الروحية الدينية (المسيحية). ليس كتاب عادي إنما كتاب عظيم وملهم يتوغل بحرفية في موضوع تفاعلنا في هذه الحياة وعن عزلتنا والتي لا تعني فقط أن نكون مبتعدين عن البشر ربما نكون معهم ولكننا نشعر بالغربة بينهم وذلك لأننا فرديين أمام الجماعيّة لهذا لا نستطيع التفاعل بإيجابية بسبب انحصار عملية الإبداع والأفكار في عقل جماعي لا يحق لك أن تخالفه أو تنتقده أو تساهم فيه حسب فكرك! يطرح أيضاً الكتاب موضوع الفردية بطريقة مسهبة فتقريباً غالب الكتاب عنها، ويرى بأن تحقق الفردية في المجتمعات تجعلها أكثر إيماناً بالله، وأكثر حباً ورحمة، لأن الإنسان عندما يحقق ذاتيته يشعر بالرضا النفسي فينعكس ذلك على تفاعله مع نفسه والمقابل له والمجتمع الذي يعيش فيه. وهذه فكرة موجودة كذلك في الصوفية الإسلامية.
الفلسفه بين الدين والعلم الصراع بين الفلسفه والدين الفلسفه والمجتمع الفلسفه الشخصيه والفلسفه اللاشخصيه الفلسفه الذاتيه والفلسفه الموضوعيه النزعه النثروبولوجيه في الفلسفه الفلسفه والحياه
التأمل الثاني الذات والإحاله الموضوعيه الذات الوجوديه وعمليات الإحاله الموضوعيه المعرفه والوجود الكشف الذاتي للوجود عمليات الإحاله الموضوعيه ومشكله اللامعقول
كتَاب عميق، لم اقرأ لـ "نيقولاي" سوى هذا الكتاب واحببت اسلوبه ومجرى تفكيره، شدنِي تأمله الثانِي وتطرقه بالحديث عن ذات الإنسان العارِفة، عملية الإحالّة الموضوعية وان كل درجة من درجات المعرفة الموضوعيّة مجردة من الانسانيّة والذات وان الذات جزء من الوجود الموضوعي، وان الميتافيزيقيا الطبيعيّة ليست سوى نوعا من المعرفة الموضوعية للفلسفة.
الكتاب جاف جدا من حيث الأسلوب، ويسهب في السرد واستخدام المصطلحات التخصصية بطريقة تشتت الذهن والتركيز، وينقصه الكثير من الأمثلة وتبسيط الأفكار. رغم انتماء الكاتب للمدرسة الوجودية فلسفياً ولكنها لم تنعكس على روح كتابته.