الحارث بن أسد بن عبد الله المحاسبي البصري كنيته أبو عبد الله، سمي المحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه. أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري، يقول عنه أبو عبد الرحمن السلمي أنه «أستاُذ أكثرِ البغداديين»؛ وهو من أَهل البصرة ولد سنة 170 هـ.
تُعرف قيمة الكلمات الداعيات إلى الخير بثقل وطأتها على النفس، والرسالة في هذا الكتاب قيّمة بحقّ وفيها من القول ما هو جدّ ثقيل على النفس. رحم الله الإمام المحاسبي وجزاه عنّا خير الجزاء.
الكتاب يحتوي مقدمة مهمة من المحقق عن المحاسبي وعصره .. يبين فيها دور المحاسبي في التأسيس لعلم النفس الإسلامي ودوافعه وحاجات عصره لذلك حيث غلب على الناس الكذب في العمل والقول وانتشرت بينهم الأهواء وزخارف الدنيا وشاع التزلّف عند أصحاب السلطان مما جعل المحاسبي يضع الحق في نصابه في أعمال القلوب والجوارح .. يلحق المحقق برسالة معاتبة النفس للمحاسبي فصلاً عن معاتبة النفس عند الغزالي صاحب الإحياء وهو الذي ربط بين فقه أعمال القلوب وفقه أعمال الجوارح وكان كتابه الإحياء امتداداً لمؤلفات المحاسبي وإحياء لها بعد توسيع مفاهيمها وتعميقها .. ويظهر ذلك في مقارنة كلامهما.
المحاسبي رحمه الله اهتم بمحاسبة النفس الإنسانية، واشتهر بالمحاسبة علماً وسلوكاً ولذلك ُسمّي بالمحاسبي. وفي ذلك يقول المناوي: "سمّي المحاسبي لكثرة محاسبة نفسه أو لأنه كان له حصى يعدها ويحسبها وقت الذكر" .. وتصل محاسبة النفس ومجاهداتها عنده إلى درجة النفس اللوامة. حيث يقول القشيري: "وتصل محاسبة النفس ومجاهداتها عند المحاسبي درجة الملامتية، الذين يقوم تصوفهم على الملامة المستمرة للنفس" .. والنفس عند المحاسبي هي: النفس الأمارة بالسوء، ولكي تتصف تلك بالصفات الحسنة لا بد من مجاهداتها ومحاسبتها حيث يعرفها بقوله: "اعلم أن النفس أمارة بالسوء، يعني أنها تأمرك بكل قبيح، وبكل سوء ... فينبغي منك أن تضعها حيث وضعها الله تعالى، وقم عليها بما أمرك الله فيها، فإن نفسك أغوى لك من إبليس" فمحاسبة النفس وقاية وعلاج لاستيلاء النفس الأمارة بالسوء علي قلب المؤمن. ومعاتبتها وملاومتها جزء من محاسبتها.
رسالة هذا الكتاب لا تحتوي فقط معاتبة المحاسبي للنفس .. بل تحتوي أكثر من مناجاة لله وأدعية مكتوبة بالدمع .. فليس القصد معاتبة النفس لذات المعاتبة بل القصد إلجاءها إلى الله وتحذيرها من قسوة القلب والسلب بعد العطاء والتخويف بأن عذاب الله لا يطاق والتذكير بساعة الموت ويوم الحساب والدعوة لتوهّم عذاب النار والفزع إلى الله والعودة إليه والموازنة بين نعيمه ولذة النظر إليه وعذابه وغبن المحجوبين عنه .. وتنبيه إلى أمر لها فيه أمل فالمطلوب مبادرة الأمر في الدنيا والمسارعة إلى التوبة وعدم القنوط من رحمة الله فالله يغفر الذنوب جميعاً.
----------------
- نعوذ بالله من حلول عقوباته ونسأله النقلة إلى ما يحب ويرضى بتوبة يطهّرنا بها من كل ما يكره، والإقبال عليه، والشغل عن الدنيا وأهلها، ونسأله أن يجعل ذلك سريعاً.
- قد تحيرت يا نفس في أمرك .. يا نفس إنك من دون الله لتضعفين .. ومن أقلّ أذى الدنيا تجزعين .. فكيف بشدة غضب الله وأليم عذابه؟ يا نفس .. من لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله؟ يا نفس ما لك تشتغلين باللهو وأنت مطلوبة للخطب الجسيم .. أراك ترين الموت بعيداً ويراه الله قريب .. يا نفس أما تعلمين أنه آتٍ وكل ما هو آت قريب. يا نفس أرى الحزن عنك زائل والغم لك مباين والتوجّع لك غير لازم وقد رآك مولاك في أسباب الدنيا بأضداد ذلك كله، شغلك بطلبها دائم لا تملين! تنشطين وتقوين إذا رأيت الزيادات في معاشك .. وتنكسرين إذا رأيت النقصان فيه .. ولا يكون ذلك فيما بينك وبين ربك إلا في أقل الأوقات.
- انظري يا نفس بأي بدن تقفين بين يدي الله وبأي لسان تجيبين وأعدي للسؤال جواباً وللجواب صواباً، واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال وفي دار زوال لدار مقامة، في دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، اعملي قبل أن تعملي، اخرجي من الدنيا اختياراً خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار، ولا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا فربّ مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر. فويل لمن له الويل ثم لا يشعر، يضحك ويفرح ويلهو ويمرح ويأكل ويشرب، قد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار. فليكن نظركِ يا نفس إلى الدنيا اعتباراً أو سعيك لها اضطراراً، وفضلك لها اختياراً وطلبك للآخرة ابتداراً، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقى وينهى الناس ولا ينتهي. قد تحيرت يا نفس في أمرك .. مولاي أنقِذني من غرقي .. وأنا الهالك الفرح وأنا الغريق المسرور .. اللهم شاغلتني نفسي عن نجاتي .. بك أستعين .... اللهم أنت إلهي وسيدي ومولاي .. يا ربّي ويا مفزعي في لهفي .. إنما أعيش برجاء جودك فلولا ذلك لخشيت أن تنشق مرارتي وتتفتت كبدي ..
- يا نفس ألم يقل سيدك ومولاك في أمر الدنيا: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها.." .. "هو الذي جعل لكم الأرض ذَلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه" .. وقال في أمر الآخرة: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" .. فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة وصرفك عن السعي فيها .. فكذبته بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر .. ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر .. ما هذا من علامات الإيمان .. ويحك يا نفس.
- والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقرباً لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل وبرهان، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول الطفل؟ أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمه إلا يوماً أو أقل منه؟ ما هذه أفعال العقلاء، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وسخروا من عقلك. فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك وآمنت به فما لك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة؟
- فليرَك مولاكِ مقامَ المضطرين الحيارى الملهوفين، لأنه إن آخذكِ بعظم جرمكِ لم يغثك، وإن صفح بجوده أن يؤاخذك أسرع إجابتك. فأديمي الاستغاثة فإنه يغيثك .. وإن من إغاثته أن من عليك بالاستغاثة .. فإن أدمتِ أتمّ ما منّ به عليك فأجاب الدعوة وعجّل الإغاثة. وادعي دعاء من لا يستأهل أن يجاب ولا يغاث .. دعاء من يطمع من الجواد ألا يناقش بالسيئات ولا يؤاخذ بالخطايا ويغيث من يدعو وهو عند نفسه لا يستأهل أن يجاب .. ولكن حمله على التضرّع معرفته بكرم المسئول وجود المطلوب ورحمة المستغاث.
- اللهم إن السحرة اجتمعوا إلى فرعون ليغلبوا كلمك بسحرهم: إن غلبوه أن يجعلهم أجرأ من ملكه وزلفةً لديه .. فما منعك ذلك من مقامهم ذلك في عقب كفرهم وحلفهم بعزة فرعون إلهاً اتّخذوه من دونك أن تعطف عليهم برحمتك وتتفضل عليهم بكرمك وتتحنن عليهم بجودك .. فبصّرتهم بجهلهم وعرّفتهم ظلم أنفسهم وألزمتَهم الإقرار بربوبيتك والإخلاص لعظمتك وعرّفتهم صغر فرعون وضعفه وصفّدت الدنيا في قلوبهم وهونت عليهم قطع أيديهم وأرجلهم في مرضاتك والصبر على الإيمان بك وهونت لهم رحى جنتك وألزمت قلوبهم خوف عذابك حتى نطقوا بك في مقامهم كأنهم قد مرت بهم الدهور في طاعتك ودراسة العلم من كتبك، ثم عرّفتهم أن ما مننت عليهم من الإيمان لا يتم إلا بك، وأن ما تَهدَّدَهم فرعون به من قتلهم وصلبهم لا يستطيعون الصبر عليه إلا بمنك وتوفيقك، وأيقظتَهم إن ناجوك بذلك عما عرفتهم من حاجتهم إلى عفوك وتأييدك فقالوا: "ربَّنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين" .. فيا من لا إله إلا أنت .. ويا قديم الأحد ثمّ سواه، ويا خالق لا خالق معه، ويا منفرد الصفات الحسنى لا مساوئ له، ويا غياث المؤمنين قبلي، ويا صاحب السحرة وقد غدوا كفاراً فجرة فنالتهم رحمتك وتحننت عليهم برأفتك .. اللهم ربي هذا مقام المتضرع المسكين البائس الفقير الهالك الغريق فعجّل إغاثتي وفرجي وأرِني آثار رحمتك وأذقني بردَ عفوك ومغفرتك وارزقني لذة إقبالك علي وترويح زوال عقوبتك وسرور القلب منك وأنس الحب لك .. اللهم فبدّل أحوالي واقلب همتي وحوّل لذّتي حتى يصير ذلك في صدق معاملتك وحلاوة مناجاتك وراحة الثقة بك.