الصورة : مخطوطة من كتاب "تسديد القوس مختصر مسند الفردوس" بخط مؤلفه ابن حجر العسقلاني احتل الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني مكانة مرموقة في تاريخ الفكر الإسلامي، وتعد مؤلفاته واحدة من أمهات الكتب والموسوعات العلمية التي تقوم عليها المكتبة الإسلامية، وابن حجر واحد من علماء المسلمين الموسوعيين الذين كتبوا في علوم الإسلام المختلفة، فنبغوا ووصلوا فيها إلى القمة.
نسب ابن حجر العسقلاني هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الكناني العسقلاني الشافعي المصري القاهري المولد والمنشأ والدار والوفاة. المعروف بالحافظ ابن حجر العسقلاني. مولد ابن حجر العسقلاني ولد ابن حجر –رحمه الله- في الثاني والعشرين من شعبان سنة 773 هـ ، في منزل كان يقع على شاطئ النيل، بالقرب من دار النحاس والجامع الجديد، وظل ابن حجر –رحمه الله في بيته هذا حتى انتقل منه في أواخر القرن الثامن الهجري إلى القاهرة، حيث تزوج بأم أولاده فسكن بقاعة جدها منكوتمر المجاورة لمدرسته المنكوتمرية داخل باب القنطرة، بالقرب من حارة بهاء الدين، واستمر بها حتى مات [4].
أسرة ابن حجر العسقلاني نشأ ابن حجر في أسرة تشتغل بالعلم وتشجع عليه، فقد اشتغل أبوه بالعلم والفقه ومهر بالآداب، موصوفاً بالعقل والمعرفة والديانة والأمانة ومكارم الأخلاق ومحبة الصالحين والمبالغة في تعظيمهم، وأما أمه فهي من بيت عُرف بالتجارة والثراء والعلم، ولابن حجر أخت اسمها (ست الرَّكب)، قال عنها ابن حجر: "كانت قارئة كاتبة أعجوبة في الذكاء، وهي أمي بعد أمي"، ويذكر ابن حجر –رحمه الله- أن له أخًا من أبيه، قرأ الفقه والفضل،وعرض المنهاج، ثم أدركته الوفاة، فحزن عليه والده حزنا شديدا، وذكر ابن حجر –رحمه الله- أن والده حضر إلى الشيح يحيى الصنافيري، فبشَّره بأن الله تعالى سيخلف عليه غيره ويعمره، فكان مولد ابن حجر- رحمه الله- بعد ذلك بقليل. وذكر السخاوي أن الشيخ الصنافيري بشَّر والد ابن حجر –رحمه الله- بقوله: "يخرج من ظهرك عالمٌ يملأ الأرض علمًا" [.
نشأة ابن حجر العسقلاني نشأ ابن حجر العسقلاني –رحمه الله- في أسرة تحب العلم وتشجع عليه، وهذا قدر الله له أن يهيئ له جوًا علميًا وبيئة صالحة تأخذ بيده إلى العلم، حتى صار له شأن عظيم بين الناس، وشاء الله -تعالى- كذلك أن ينشأ ابن حجر- رحمه الله- يتيمًا أباً وأمًا، فحُرم من عطف أبيه وعلمه كما حرم من حنان أمه، إلا أنه –رحمه الله- تغلب على ظروفه وكافح في حياته حتى نال السؤدد بين الناس بالعلم والحديث. نشأ ابن حجر –رحمه الله- مع يتمه في غاية العفة والصيانة والرياسة في كنف أحد أوصيائه زكي الدين الخروبيّ، وهو من كبار التجار في مصر، ولم يألُ الخروبي جهدًا في رعايته والعناية بتعليمه، فأدخله الكتاب بعد إكمال خمس سنين، وكان لدى ابن حجر ذكاء وسرعة حافظة بحيث إنه حفظ سورة مريم في يوم واحد [6]. وأكمل ابن حجر حفظه للقرآن على يد صدر الدين السَّفطي المقرئ، وهو ابن تسع سنين. واصطحب الزكي الخروبي ابن حجر معه في الحج عند مجاورته في مكة أواخر سنة 784هـ، وفي سنة 785 هـ أكمل ابن حجر اثنتي عشرة سنة، ومن حسن حظه أن يكون متواجدًا مع وصيه الخروبي في مكة، فصلى بالناس التراويح في تلك السنة إمامًا في الحرم المكي. ويمكن أن نستقرأ من هذه الأخبار بوادر نبوغ الحافظ ابن حجر المبكرة، والتي تتمثل في إتمامه القرآن صغيرا وإمامته للناس في الحرم المكي وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وهو سن ربما يعتري الأطفال فيه رهبة وخوفا، إلا أن نبوغ الطفل الصغير وذكائه وحسن تربيته ونشأته أهلته لأن يكون كذلك في غاية النباهة والثبات. وبعد رجوع ابن حجر –رحمه الله- مع وصيه الخروبي من الحج سنة 786 هـ حفظ عمدة الأحكام للمقدسي وألفية العراقي في الحديث والحاوي الصغير للقزوينبي ومختصر ابن الحاجب في أصول الفقه ومنهج الأصول للبيضاوي، وتميَّز ببين أقرانه بقوة الحفظ، فكان يحفظ الصحيفة من الحاوي الصغير من مرتين الأولى تصحيحا والثانية قراءة في نفسه ثم يعرضها حفظا في الثالثة ، ويذكر السخاوي أن حفظ ابن حجر –رحمه الله- لم يكن على طريقة الأطفال في المدرسة، وإنما كان حفظه تأمُّلا على طريقة الأذكياء. وظل ابن حجر في كنف وصيه يرعاه إلى أن مات الزكيّ الخروبي سنة 787هـ، وكان ابن حجر قد راهق، فلم تعرف له صبوة ولم تضبط له زلة. وفي سنة 790 هـ أكمل ابن حجر –رحمه الله- السابعة عشرة من عمره، فقرأ القرآن تجويدا على الشهاب الخيوطي، وسمع صحيح البخاري على بعض المشايخ، كما سمع من علماء عصره البارزين واهتم بالأدب والتاريخ. وفي هذه الفترة انتقل ابن حجر –رحمه الله- إلى وصاية شمس الدين بن القطان المصري فحضر دروسه في الفقه والعربية والحساب، وفي سنة 793هـ نظر في فنون الأدب، ففاق أقرانه فيها، حتى أنه لا يكاد يسمع شعرا إلا ويستح
أنهيت البارحة مقدّمة كتاب (فتح الباري شرح صحيح البخاري) والمعنونة ب (هدي السّاري مقدمة فتح الباري) للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.. دفعني لقراءة هذا الكتاب القيّم أوّلاً محبّتي وتعظيمي لأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشعوري للحاجة بالعيش معها أكثر من خلال ما ورد في أشرح كتاب شرح لها.. وثانياً: أعضاء لجنة تأليف كتاب الحديث الشّريف الذين كنت معهم وتشجيعهم لي على ذلك.. وثالثاً: كنت مرّة في لقاء في مجلس فذكر هذا الكتاب وأشيد به وبقراءته.. ومن يومها قلت لنفسي لماذا لا أبدأ به وعقدت العزم دون أيّ تأخّر على شراءه والبدء بقراءته فبدأت البحث على نسخة جيّدة له وتمّ ذلك والحمد لله... والشّكر لمن ساعدني في ذلك.. وأتيت على المقدّمة وأنهيتها البارحة صباحاً.. وكلّي شوق للبدء بشرح الأحاديث والعيش معها.. المقدّمة تشمل عشرة فصول: الأوّل: في بيان السّبب الباعث على تصنيف الكتاب. الثاني: في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه، وتحقيق شروطه. الثّالث: في بيان الحكمة في تقطيعه للحديث واختصاره. الرّابع: في بيان السّبب في إيراد الأحاديث المعلّقة والآثار الموقوفة. الخامس: في ضبط الغريب مرتّباً على حروف الهجاء. السّادس: في ضبط الأسماء المشكلة. السّابع: في تعريف شيوخه الذين أهمل نسبهم. الثّامن: في سياق الأحاديث التي انتقدها عليه حافظ عصره أبو الحسن الدّارقطني وغيره والجواب عنها حديثاً حديثاً. التّاسع: في سياق أسماء جميع من طعن فيه من رجاله على ترتيب الحروف، والجواب عن ذلك الطّعن بطريق الإنصاف والعدل. العاشر: في سياق فهرسة كتابه المذكور باباً باباً وعدّة ما في كلّ باب من الحديث. وأخيراً ورد بضعة فصول تتكلّم عن الإمام البخاري وتشيد فيه وبعلمه واتقانه وضبطه.. وهذا ما لفت نظري أكثر شيء وأثّر بي.. تشعر وكأنّك تقرأ عن صحابي من الصّحابة الكرام.. كيف لمشيئة الله تعالى تكرم شخصاً وتعلي ذكره وتديمه.. كيف شرّفه الله تعالى بهذا العلم وهذا الكتاب.. أصحّ كتاب على وجه الأرض بعد القرآن الكريم.. لربّ من يقول ربّما المقولة مبالغ فيها بعض الشّيء.. ولكن من يقرأ كيف أنّ البخاري يقول عن صحيحه: (صنّفت كتابي الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثاً حتّى استخرت الله تعالى وصلّيت ركعتين وتيقّنت صحّته).. يتيقّن بذلك فائق العناية الإلهيّة التي شاءت حفظ الحديث الشّريف وأن يصل لنا كما ورد من فمه الشّريف عليه الصّلاة والسّلام.. وقد علمنا ما للاستخارة من عظيم أثر في تيسير الأمور ونيل توفيق الله تعالى ويكون صاحبها يعيش في عناية الله تعالى وسداده وتوفيقه.. لا أستطيع وصف شعوري وأنا أقرأ كلامه هذا أو ما ورد في الرّؤى التي تتكلّم عن صحيحه.. سمعت نجم بن فضيل وكان من أهل الفهم: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام خرج من قبره والبخاري يمشي خلفه فكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا خطا خطوة يخطو محمّد ويضع قدمه على خطوة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وسمع محمّد بن مكّي يقول سمعت الفربري يقول: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النّوم فقال لي أين تريد؟ فقلت: أريد محمّد بن إسماعيل. فقال: أقرئه منّي السّلام. يقول أبا زيد المروزي كنت نائماً بين الرّكن والمقام فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشّافعي ولا تدرس كتابي؟! فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: جامع محمّد بن إسماعيل. هل من شرف بعد هذا الكلام أعظم من العيش مع كلامه عليه الصّلاة والسّلام وشروحه.. أكاد أراه عليه الصّلاة والسّلام وأسمعه وهو يلقي تلك الموعظة أو ينبّه إلى ذاك الخُلُق.. من يفكّر في حديثه عليه الصّلاة والسّلام والجهود التي بذلت لحفظه وتدوينه وشرحه وتفصيل رجاله.. يلمس مشيئته سبحانه في حفظ حديث نبيّه عليه الصّلاة والسّلام كما حُفظ القرآن الكريم.. ومن يرى المآسي التي مرّت على الأمّة الإسلاميّة وتراثها الثّقافي والعلمي بشكل خاص.. ومع ذلك لا تزال كتب الحديث محفوظة متداولة ولا تملّ على كثرة القراءة والتّكرار .. يعلم أنّ هذا كلّه بإرادته سبحانه.. وأنّ ما ذهب وضاع ربّما لم يكن ذا أهمّية وإلّا لبقي كما بقي غيره.. لذا فليطبّل المطّبلون وليتكلّم المغرضون عن البخاري وعن كتابه وليشكّك من يشكّك بالحديث ورجاله.. هي قافلة مستمرة في المسير قُدُماً والكلاب التي تنبح وراءها ستسكت شاءت أم أبت.. وما تزال الأيّام أمامنا حُبلى بكثير من ما يمكن أن يؤلّف ويحقّق من كتب الحديث وفقاً لما يستجدّ من مخطوطات يتمّ العثور عليها، ومن همّة طلّاب العلم وشغفهم في خدمة حديث رسول الله عليه الصّلاة والسّلام.. مهما كتبت وتكلّمت عن جميل العيش مع كلامه الشّريف لا أشبع ولا أملّ ولا أستطيع أن أنقل بعضاً من ما في نفسي.. جعلني الله تعالى من أهل الحديث وتطبيق سنّته عليه الصّلاة والسّلام ونشرها.. والشّكر لأعضاء لجنة الحديث الشّريف الذين كان لهم دور كبير في تشجيعي على اقتناء هذا الكتاب وتشوّقي لقراءته.. وفاء آذار 2018