نبذة النيل والفرات: عندما يذكر المؤرخون الإعلام العرب الذين حملوا مشعل النهضة الحديثة يجدون في مقدمة هؤلاء الأعلام، باحثاً عظيماً كان له أكبر الأثر في إرساء قواعد هذه النهضة على الأسس السليمة التي يجب أن تركز إليها، وهذا الباحث، المؤرخ، والأديب الفذ هو "جرجي زيدان"، فهو بالإضافة إلى ما كان يتمتع به من موهبة أدبية جمالية وخيال خصب كان أكثر الباحثين جلداً وأقواهم صبراً على تقصي وقائع التاريخ وملاحقة دقائق حوادثه.
لقد عني "جرجي زيدان" عناية كبرى بدراسة تاريخ آداب اللغة الغربية فبسط أخبار هذا التاريخ في كتابه الذي يحمل نفس الاسم؛ والذي هو أشبه بدائرة معارف تشمل تاريخ قرائح الأمة العربية وعقولها وتراجم علمائها وأدبائها وشعرائها ومن عاصرهم من كبار الرجال، ووصف المؤلفات العربية على اختلاف موضوعاتها، وهدفه بيان منزلة العرب بين سائر الأمم الراقية من حيث الرقي الاجتماعي والعقلي، وبيان تأثير الانقلاب السياسي على آدابهم باختلاف الدول والعصور. قسم زيدان كتابه على أربعة أجزاء اشتمل الجزء الأول على تاريخ آداب اللغة العربية في العصر الجاهلي، وفي عصر صدر الإسلام، والعصر الأموي... أي من أول عهدها إلى سنة 132هـ فبدأ بمقدمات تمهيدية في ما هو المراد بآداب اللغة، ومن هم أسبق الأمم إلى العلم أو ما هي مصادر آداب اللغة على الإجمال.
وأتى بآداب اللغة اليونانية على سبيل المثال... ثم عمد إلى آداب العرب قبل الإسلام... في عصر صدر الإسلام، بدأ بذكر التغيير الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب، وما كان من تأثير ذلك على آدابهم ولا سيما الشعر والخطابة... ثم كتب فصلاً في الشعر والرسول، وآخر في الشعر والخلفاء الراشدين وما حدث من العلم من هذا العصر مع تاريخ الخط، وقدم الكلام في العصر الأموي بمميزات ذلك العصر، وما اقتضته سياسة بني أمية من التفريق بين القبائل واصطناع الأحزاب وتأثير ذلك في آدابهم... فبدأ بالعلوم الشرعية كالقراءة، والتفسير والحديث والفقه مع تمهيد في البصرة والكوفة، ثم العلوم اللسانية...
هذا وقسم هذا العصر إلى ثلاثة أدوار، وقسم شعراءه إلى شعراء السياسة والغزل والشعراء الخلفاء والسكيرين... وقسم شعراء السياسة إلى أحزاب... وختم الجزء بفصول في قرائح الشعراء وشياطينهم، والقراء منهم. وأخيراً تحدث عن الخطابة والخطباء، والإنشاء، وبه تم العصر الأموي وهو آخر الجزء الأول. أما الجزء الثاني فخصصه للحديث عن تاريخ آداب اللغة في العصر العباسي، من ظهور الدولة العباسية سنة 132هـ إلى سقوط بغداد سنة 656هـ، قسم من ظهور الدولة إلى أربعة عصور لكل منها صفة مشتركة في السياسة والأدب والاجتماع، أما الجزء الثالث فامتاز عن سائر أجزاء الكتاب بكثرة ما حواه من الكتب، وبأهميتها بالنظر إلى الناشئة العربية. وفيه يتحدث الباحث عن آداب وشعراء... العصر العباسي الرابع والعصرين المغولي والعثماني.
وفي الجزء الرابع والأخير يتناول الباحث تاريخ آداب اللغة العربية-في عصر النهضة الأدبية الأخيرة-وبه تم هذا الكتاب الذي أراد به الباحث أن يخدم الناشئة العربية والمتأدبين الراغبين في درس تاريخ آداب اللغة في كل عصر ومصر.
Jurji Zaydan جُرجي زيدان: مفكر لبناني، يعد رائد من رواد تجديد علم التاريخ، واللسانيات، وأحد رواد الرواية التاريخية العربية، وعلم من أعلام النهضة الصحفية والأدبية والعلمية الحديثة في العالم العربي، وهو من أخصب مؤلفي العصر الحديث إنتاجًا.
ولد في بيروت عام ١٨٦١م لأسرة مسيحية فقيرة، ورغم شغفه بالمعرفة والقراءة، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب الظروف المعيشية الصعبة، إلا أنه اتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وقد عاود الدراسة بعد ذلك، وانضم إلى كلية الطب، إلا أنه عدل إكمال دراسته فيها، وانتقل إلى كلية الصيدلة، وما لبث أن عدل عن الدراسة فيها هي الأخرى، ولكن بعد أن نال شهادة نجاح في كل من اللغة اللاتينية والطبيعيات والحيوان والنبات والكيمياء والتحليل.
سافر إلي القاهرة، وعمل محررًا بجريدة الزمان اليومية، انتقل بعدها للعمل كمترجم في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة عام ١٨٨٤م، ورافق الحملة الإنجليزية المتوجهة إلى السودان لفك الحصار الذي أقامته جيوش المهدي على القائد الإنجليزي «غوردون». عاد بعدها إلى وطنه لبنان، ثم سافر إلى لندن، واجتمع بكثير من المستشرقين الذين كان لهم أثر كبير في تكوينه الفكري، ثم عاد إلى القاهرة، ليصدر مجلة الهلال التي كان يقوم على تحريرها بنفسه، وقد أصبحت من أوسع المجلات انتشارًا، وأكثرها شهرة في مصر والعالم العربي.
كان بالإضافة إلى غزارة إنتاجه متنوعًا في موضوعاته، حيث ألَّف في العديد من الحقول المعرفية؛ كالتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والروايات، وعلي الرغم من أن كتابات زيدان في التاريخ والحضارة جاءت لتتجاوز الطرح التقليدي السائد في المنطقة العربية والإسلامية آنذاك والقائم على اجترار مناهج القدامى ورواياتهم في التاريخ دون تجديد وإعمال للعقل والنقد، إلا أن طرحه لم يتجاوز فكرة التمركز حول الغرب الحداثي (الإمبريالي آنذاك)، حيث قرأ التاريخ العربي والإسلامي من منظور استعماري (كولونيالي) فتأثرت كتاباته بمناهج المستشرقين، بما تحمله من نزعة عنصرية في رؤيتها للشرق، تلك النزعة التي أوضحها بعد ذلك جليًّا المفكر الأمريكي الفلسطيني المولد إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق».
رحل عن عالمنا عام ١٩١٤م، ورثاه حينذاك كثير من الشعراء أمثال أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم.
يعد هذا الكتاب أحد المراجع الهامة في الأدب العربي وتاريخه. لما تضمنه من آراء وتحليلات وافية لجوانب جمة من الحياة العقلية والفكرية العربية مما جعله يحتل المرتبة الثانية في الأهمية بعد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي. كما أن التأريخ لآداب اللغة يعتبر فن حديث ظهر في أروبا بعد نهضتها الأخيرة مما يظهر لنا تأثر جرجي زيدان بالأروبيين في هذا المجال. والهدف من هذا الكتاب هو إبراز مكانة العرب بين غيرهم من الأمم في الرقي العقلي والتقدم الفكري وتأثير الأحداث التي عاشوها والتحولات التي شهدوها على إنتاج هذا الفكر وكيفية تطور كل من فنونه, والتعريف برجاله والإشارة إلى المصادر المساعدة على ذلك لمن يريد التوسع, ووصف المؤلفات العربية وعلاقاتها ببعضها البعض. في الجزء الأول تطرق زيدان إلى تاريخ اللغة العربية في عصر الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي مستعينا في ذلك بأهم الكتب التي تناولت دراسة آداب اللغة في هذا العصر. كما تحدث في الأجزاء الأخرى عن مميزات اللغة العربية, الشعر في العصر الجاهلي, نهضة الشعر في الجالية ... الخ يعتبر الكتاب فريد من نوعه وثري بالمعلومات القيمة عن تاريخ اللغة العربية, والشيء الذي نال استحساني هو ذكر الكاتب لمصادر وكتب مختلفة التي تمكنك من إجراء أبحاث أكثر عمق وفاعلية.
للعرب حضارة، قامت على الذهن الخالص. ولغيرهم حضارات قامت على الزينة والمنحوتات، بقيت منحوتات الآخرين ودمرت حضارة العرب في مقتل حين بدأت السخرية الممنهجة من عمادها على مدار قرنٍ مضى.. اللغة العربية. كثيراً ما يصادفني دعوات ساذجة أننا مصريون خالصون وأن الحضارة العربية حضارة دخيلة وانظروا إلى روعة الحضارة الفرعونية وكيف كانوا وكيف أصبحنا بعد أن غزانا أرباب الخيام، ولو أطال أصحاب الدعوات الفارغة النظر في الحضارة العربية فضلاً عن مظلتها الأكبر وحاضنتها الحضارة الإسلامية لوجدوا أن حب الحرية وعدم التقيد بأسوار مدنٍ له الفضل على حضارتهم وأن تفتق الأذهان وفصاحة اللسان ودقيق الوصف والألفاظ له اليد العليا على دقة النحت والوصف بالرسم. كتابٌ رائع والأروع أنه من كاتبٍ مسيحي عشق اللغة فتقفى آثار آدابها. يبدأ الكتاب بأصول اللغة وانحدارها مروراً بالعصر الجاهلي وعصر الإسلام وينتهي بالعصر الأموي في هذا المجلد. ويستشهد بأشعار كل مرحلة دليلاً عليها ويصف في أكثر من موضع كيف كانت تعتمل مجرد كلمات في الأذهان فترفع شأن قوم وتحط آخرين وتفطر من قلوب وتحيي أخرى وتسفك لها دماء وتحرم دماء.. ففي مرحلة فجر الإسلام مثلاً حينما مدح الأعشى الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أبا سفيان رجال قريش وقال لهم: "والله لإن أتى محمداً واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره فأجمعوا له مائة من الإبل" ففعلوا فأخذها وانطلق إلى بلده. ويمضي جرجي زيدان قائلاً أن لشعر الأعشى تأثيراً كبيراً في النفوس ومنه أن رجلاً كان له ثلاص بنات لم يزوجهن فلما جاء الأعشى إلى مكة وسمعت امرأة الرجل بهذا حثت زوجها أن يدعوه للضيافة قبل سواه ويذبح له، ففعل، فلما شكى له الرجل حال بناته أنشد الأعشى له في سوق عكاظ يمدح سخاءه وكرم أخلاقه فلما فرغ انسل الناس إلى الرجل يهنئونه وهرع الأشراف يتسابقون إليه يخطبون بناته!.. أمة تحركها الأشعار هي أمة مثقفة وأمة لا يحدها سقف سوى السماء ولا حدود سوى مد البصر لا تلد إلا أحراراً وأولى بأن تختص بأسمى رسالة لتفيض بها على سائر الأمم ليكن لكلٍ فيها تجلياته.
يتناول الأستاذ جرجي زيدان في هذا الكتاب أو مجموعة الكتب تاريخ أداب اللغة العربية منذ بداية العصر الجاهلي وحتى بداية القرن العشرين حوالي( ١٩١٠م )، يتكون هذا الكتاب من أربع أجزاء تناول كل جزء منها حقبة تاريخية معينة أو أكثر، بدأ الحديث في كل حقبة عن طبيعتها والتغييرات التي طرأت فيها ودورها على آداب اللغة العربية، ثم يتحدث عن ميزات هذه الحقبة قبل الحديث المفصل عن تارخ آداب اللغة العربية بداية بالشعر ومرورا إلى أهم الآداب التي ظهرت في تلك الحقبة، والأجزاء الأربعة للكتاب هي: ١- تناول حقبة العصر الجاهلي وعصر ظهور الإسلام والعصر الأموي. ٢- تناول جزء كبير من حقبة العصر العباسي مقسمة إلى ثلاثة فترات: المائة الأولى بداية من ١٣٢هـ، المائة الثانية والمائة الثالثة وتنتهي في عام ٤٤٧هـ. ٣- تناول حقبة القرنين الأخيرين من العصر العباسي والعصر المغولي والعصر العثماني وينتهي بالحملة الفرنسية على مصر. ٤- يناول حقبة النهضة ما بين عامي ١٧٩٨م وحتى أوائل القرن العشرين.
=============== لعل هذا الكتاب هو التجربة الأولى لي في قراءة كتب كبيرة الحجم وهو كذلك التجربة الأولى في قراءة تتناول اللغة العربية وآدابها، كان الهدف من قرائتي هذا الكتاب الإطلاع على تاريخ الشعر العربي وخصوصا في العصر الجاهلي، ثم وجدتني مستمتعا بالإطلاع على تاريخ العرب ولغتهم وآدابها فأتممت الإطلاع هذا الكتاب، حيث أن الهدف من هذه الكتب من وجهة نظري التعرف على تاريخ اللغة والإطلاع عليه حيث أن من المستحيل الإلمام بكل المعلومات التي ترد فيها لكثرتها. إن مثل هذه الكتب التي تعد من أهم الكتب في تاريخ اللغة هي أكبر من أن يتم تقييمها من شخص مبتدء مثلي، فكم الجهد المبذول في إخراج هذا الكتب بالشكل الذي هو عليه الآن هو جهد جبار لا شك في ذلك.