في رواية “الخزرجي” يتقدم مروان الغفوري على خط تجسير المسافة ما بين الشفاهي والمكتوب، وفي هذا النوع قدر كبير من “التغريب” الحميد، لكنه تغريب أصعب بكثير من ذلك الذي يمكننا مصادفته في المسرح كما عند “برتولد بريخت”، وفي السينما كما عند “فلليني”، ذلك أن أدوات التغريب في المسرح والسينما تتَّسع لتعدد العناصر المرئية والمسموعة فاسحة المجال لمناورات بصرية ودلالية سالكة، فيما تغريب النص يتوقف عند تخوم الكلام، وما أدراك ما الكلام!! قدّم جابرييل جارسيا ماركيز هذا النمط من التغريب الحميد في ملحمته الروائية بعنون (خريف البطريرك)، وكان كعادته حذراً ومُقلاً، حتى إنه ركَّز على الضمائر وتقاطعاتها، فيما توسَّل نصاً “توراتياً” تنساب فيه العتبات انسياب الشلال المنهمر. عند الغفوري تَباعُد “الهارموني” لحساب ما يُسمى في علم الموسيقى الملحمية بـ “الكونترا بونتو”. أقصد.. التضاد المحكوم بالتقطيع، جعل السارد في تحدٍ مع البنية الكاملة للعمل، فالتشبيك شديد الصعوبة سمة كان لها أن تضع السارد في عسر شديد، وخاصة في بداية الرواية، حيث على القارئ أن “يتذاهن” مع السارد تذاهناً ينتمي للثقافة العالِمة، ويضع عراقيل أمام انسياب الحكي.. لكنه بعد ذلك ينفرج على سردية رشيقة مترعة بالمفاهيم والأحوال الحياتية. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، ولأني شخصياً أتوسل “فصوص النصوص” في مقارباتي الجمالية، تذكرت الآن المخرج الإيطالي “فيسكونتي” صاحب فلم “روكّو وإخوانه”، وكيف أنه قام بمغالبة التسلسل الأكاديمي في الدراما الكلاسيكية (عرض / عقدة / حل) من خلال تتبع مسارات الأشقاء الخمسة، ضمن توليفة درامية خماسية دائرية ذات صلة بالمكان الواحد والزمان المتعدد. أرى مثل هذه اللطيفة في تدويرات الغفوري، وفي هذه الرواية بالذات حتى إنني أغبط السارد على مغامرته الصعبة .. خاصة وأنه تخلَّى نسبياً عن جمالية الهرموني كما أسلفت.. تلك الجمالية الأسلك والأسهل دوماً من جمالية التضاد.. خاصة عندما يتصل الأمر بالسرد ومتاهاته. د.عمر عبد العزيز
وهاأنذا على هذا المقعد أروي سيرة الخزرجي والمجذوب للمرة كم؟ لا أتذكر. سأنهض الآن أنا بحاجة إلى الراحة، إلى الراحة الطويلة. أما أنت يا أسترغون فسأقول لك ما قاله القاضي لليسوع في رواية الإخوة كارامازوف: امض من هنا ولا تعد أبداً. ... هكذا تنتهي رواية الخزرجي .. فجأة .. كما بدأت فجأة .. . هذه رواية تحقق أهم أهداف الكتابة السردية فيما أظن، تحقق ذلك من خلال سرد خاص جدًا، ومتجاوز للمعتاد والتقليدي .. تحقق المتعة .. لم يخذلني مروان هذه المرة .. وقدَّم رواية مختلفة تمامًا تدور حول الحدث دون الغوص فيه وتمتلئ بالأسئلة دون أن تقدم الإجابات .. وتدور بك في دائرة تبدو مفرغة، ولكنها ثرية جديرة بالمتابعة .. هذه رواية يمكن أن تنتهي منها في ساعتين على الأقل .. ولكنها تتركك بعدها وقد نكأت العديد من الجروح وأثارت العديد من علامات الاستفهام .. يحضر هنا عدد من الروائيين أيضًا .. برواياتهم وبأبطالهم أحيانًا لاسيما "انتظار جود" لـ بيكيت، و الفيسكونت المشكور لـ كالفينو، وباولو كويلو وغيرهم .. وتحضر السخرية أيضًا، والتفكير في الخير والشر والجنس والدين .. هل نحن بصدد سيرة ذاتية لشخصية تبدو أسطورية اسمها "الخزرجي" أم أنها سيرة موازية لصديقة "المجذوب" هل نحن أمام سارد يحكي لطبيبه النفسي، أم أنه يجلس مع نفسه الغائبة، في لحظة تجلٍ نادرة .. ؟!! ... كل ما أستطيع أن أقوله في النهاية أن "مروان الغفوري" وضع لنفسه بهذه الرواية ـ وإن كان قد سبقها تجارب أخرى ـ لبنة قوية في صرح خاص في الكتابة السردية الروائية، سيكون عليه أن يبنيه بنفسه مستعينًا بذلك المورث الثقافي الهائل الذي يتسلح به، هاربًا ـ كما فعل ببراعة هنا واقتدار ـ من لغة الشعر .. التي يكتب بها دواوينه :) . شكرًا مروان .. وفي انتظـار روايات ودواوين أخرى :)
يعجبني في الدكتور مروان معرفته الموسوعية وخلفيته الأدبية الواسعة. إنما في هذه الرواية أختلف معه أكثر مما اتفق. فليس الهدف الرئيسي من كتابة الرواية -من وجهة نظري- هو تجديد أسلوب القص وإنما طرح محتوى قيم إنسانيا وثقافيا. يأتي دور السرد بعد ذلك لإضفاء تشويق وتنويع على ذلك المحتوى. الرواية في الأصل قصيرة، وعلاوة على ذلك، تجد الراوي -المضطرب نفسيا-يخوض في استطرادات عدة. بحد ذاته، كان ذلك الاستطراد لذيذا. غير أنه ساهم في تقليص محتوى القصة الضئيل في الأساس.
بالنسبة لي أفضل قراءة رواية مشبعة بالتفاصيل عن الأحداث والشخصيات ولو بسرد نمطي على أن يتحفني الكاتب بأسلوب فريد لكنه يقدم قصة لا تترك في نفسي أثرا من نوع ما.
ما ميز الرواية إلى جانب كونها محكية بصورة مميزة على لسان راو مشتت متلعثم، هو الكم الكبير من الأعمال الأدبية المذكورة بين طياتها بالإضافة إلى بعض المعلومات الممتعة هنا وهناك.
ذكرتني قصة المجذوب وعبدالسلام بقصص الطيب صالح حيث الريف والمجاذيب وأولياء الصوفية. لطالما اشجاني ذلك المزيج، إلا أنه لم يكن جديدا بعينه.
في تسعينيات القرن العشرين قرأتُ خبراً في مجلة (طبيبك الخاص) المصرية. خبر في أقل من نصف صفحة. مع العلم أن المجلة من القطع الصغير. الخبر عن رجل غريب قَدِم إلى قرية, يعمل أغلب رجالها في المدينة, وأقام في كوخ في أطرافها بالقرب من نبع ماء. ثم اشتهر بقدرته على الشفاء, وعلاج النساء العقيمات بالذات. بعد مدة من الزمن اُكتشف سر علاجه وتم القبض عليه.
وسواسي الروائي يضيف قائلاً بأن الرجل كان من أصحاب السوابق وقد أجبره الفرار من العدالة إلى العمل كولي من أولياء الله الصالحين الذين يعالجون كثير من حالات العقم بجلسة جنسية مثلما اكتشف الطبيب روبرت دالريمبل في فيلم (Hysteria – 2011) أن مريضاته لا يعانين من الهستيريا كما تصوَّر ولكن من رغبات جنسية غير مشبعة. وقد تم علاج هذه المشكلة باختراع الهزاز الجنسي (vibrator sex toy) الذي فاق عضو الرجل إلى درجة بلغت نشوة إحداهن درجة أعادت إليها صوتها السوبرانو وجعلتها تشدو بالغناء الأوبرالي.
لا أدري إن كان الخبر, الوارد في مجلة طبيبك المصرية عن دار الهلال, صحيحاً أو أنه من اختراعات محرر المجلة للفت أنظار القراء بالمواضيع الجنسية مثلما تفعل صحيفة (المستقلة) اليمنية التي تفبرك الكثير من مثل هذه الحكايات في كل عدد.
المهم أن مضمون الخبر تحوَّل بعد حوالي 20 سنة إلى رواية اسمها (الخزرجي) لكاتبها مروان الغفوري. ليس العيب في اتخاذ الخبر منصة لرواية, فهناك روايات عدد صفحاتها أكبر من عدد صفحات الخزرجي. مثل رواية جوزيه ساراماجو (انقطاعات الموت) بدأت بفكرة بسيطة وهي توقف الناس عن الموت ثم تداعيات هذا الحدث على الحياة.
قد تكون فكرة الرواية خطرت للغفوري دون قراءته لخبر مجلة طبيبك. وربما كَمَنَ الخبر في لاوعيه كل هذه السنوات ثم قفز إلى رواق وعيه كفكرة لرواية, هذا لو أنه قد قرأه بالفعل. لا يوجد عيب في كل ما سبق.
العيب أن لا يوجد في الرواية سوى الخبر أعلاه.
خبر قصير محشور بين تداعيات حرة, فكل ما ورد في الرواية من استطرادات لا علاقة لها ببنية الحكاية (الخبر أعلاه), ما عدا مسرحية (في انتظار جودو) التي يمكن إيجاد علاقة لها بالحكاية.
أُحبُّ مثل هذه الاستطرادات, لكن اختيار مريض نفسي كسارد, دون مبرر, يُدخلها في باب الاستعراض. حتى الاستعراض, في السياق الروائي, جميل إن كان موظفاً توظيفاً مقنعاً. يمكن أن تكون رواية الخزرجي ممتعة لارتباط المتعة بالتذوق والتفضيل الجمالي, وربما يكون لأندريه جيد وفريدا والمترجم مصطفى ماهر وتروتسكي وغيرهم من أسماء الأعلام والمعلومات التي حفلت بها الرواية رؤى تأويلية سأنتظر من يكتب عنها, بشرط أن لا تحوِّل غابة النص إلى حديقة خلفية في منزل المؤوِّل, حسب تعبير أمبرتو إيكو.
تكمن حيلة السرد, في الخزرجي, في الإيهام بوجود شريكين في حوار بينما هو حوار من طرف واحد بين السارد ونفسه. وحيلة أخرى هي الإيهام بسرد حكاية الخزرجي وفي الحقيقة يتم سرد حكاية المجذوب عبدالسلام. هناك تداخل في الشخصيتين "أمهلني حتى أروي سيرة الخزرجي. بالطبع أنا أيضاً أقصد سيرة المجذوب عبدالسلام" (الرواية ص 115).
وفي حقيقة الأمر لا يروي السارد أياً من السيرتين. وكل ما ستظفر به من المجذوب والخزرجي الخبر أعلاه يرويه السارد بتقنية التقطيع والتكرار دون ربطه بما حوله من استطرادات ما عدا (في انتظار جودو) التي يمكن اعتبار انتظار جودو, الذي لا يأتي, مرادفاً لسيرة الخزرجي التي لم تروى وهو ما يُبقي القارئ في حالة انتظار سيرة يكتشف في الأخير أنها خدعة تتسربل بزي تشويق مزيف مثلما تسربل خبر مجلة طبيبك برداء رواية وإذا بك تكتشف أنه مجرد خبر قد قرأته في أقل من دقيقتين قبل سنوات ثم رويته لأصدقائك المهوسين بالجنس لكنك عندما قرأت أكثر تشككت في صحة الخبر مثلما تشكك الآن أن ما بين يديك ينتمي إلى حقل الرواية, وإن كانت كذلك فسأدلكم على منجم روايات يمكن كتابتها من خلال تحويل كل خبر في صحيفة (المستقلة) إلى رواية بعد إضافة بعض ألعاب الخفة طبعاً.
ما ذا يريد الراوي ، بل ماذا أراد المجذوب منه ، وماذا أراد الخزرجي من الدنيا .. تساؤلات الشك والريبة ، واليقين بفهم مستعجل ومفكك .. كنت أتوقع الرواية على مستوى أعلى مما هي عليه ، والانطباع السيء الذي أورده لي أحد الزملاء الذين سبقوني لقراءتها كان في محله نسبياً ، والنسبية أصبحت في موضع الشك في القرية التي كان الخزرجي فيها ولياً وعارفاً وناسكاً ... كان الخزرجي كل شيء ، لكنه لم يكن زاهداً ، على الأقل لم يكن زاهداً بالنساء ، وكذا كان المجذوب ، زاهداً بنفسه ... لن أستغرب إن كتب الغفوري جزءً ثانياً للخزرجي ، يتضح فيه أن الراوي هو لقيط ولدته أمه بعدما حصلت على لحظات خاصة مع عبد السلام المجذوب ... أو أنه كان الخزرجي ... ! حقاً لا أعلم .. فلنبكِ على أطلال ضريح الخزرجي ، فهو اليوم أشبه بالسراب ..بعد أن خربه أحد شيوخ القرية ، كنوع من أنواع إقامة حدود الله .. فهذه الأيام ، الكل يقيم الحدود ، والكل يحيد عنها .. كنت قد أعطيتها النجمات الأربع ، وفي ذلك محاباة كبيرة مني لمروان ، ونزولاً تحت رغبتي في الأمانة العلمية ، أعطيته الثلاثة ، وبزيادة .
كتاب أبو جلسة وحدة.. رواية شيقة يصور لك الشخصية الرئيسية المتوهم تصور دقيقاً لدرجة أنك في بعض الأحيان تتوه معه .. مبدع حقيقة في التشبيه والتصوير كما هي عادته كما أن انتقاءته للكلمات تعكس خلفيته الأدبية ورحابة فكره وثقافته أضافت للرواية رونقاً جميلاً وخيالات واسعة ..
الغفوري يحيرني فعلاً.. أسلوبه هو ذاته، ولادات اعتقد انه "يستعرض" موسوعته الأدبيه، هنا استطرد بهذه الموسوعة اكثر من اللازم.. اعتقد ان الطريقة الوحيدة للحكم الفعلي على اعجابي او عدم اعجابي بروايات الغفوري سيكون عن طريق قراءة رواية اخرى له..