لم تهبط الإنتفاضات و الثورات العربية من عدم. فقد سبقها تراكم سلبي على مدى عشرات السنين، طال الحاكم و المحكوم و انتهى بنا الى خراب عميم
يرصد هذا الكتاب التردي المتعاظم الذي عاشته المنطقة الممتدة بين مصر غرا و العراق شرقاً منذ إحتكاكها بالغرب. و الذي تحايلت عليه نخب المنطقة و ثقافاتها فهربت منه إلى قضايا مفتعلة أو مصنوعة وصفت بالمصيرية لم يتأد عنها سوى إنهيار البلدان و المجتمعات واحداً واحداً
فهل توفر الثورات العربية فرصة جدية للخروج من هذا المستنقع و من الخرافات التي أدت إليه؟
على كثرة الكتب التي تناولت ما عرف بالربيع العربي الا أن هذا الكتاب في نظري هو أحد الكتب القليلة التي تأتي بأفكار جديدة. الكتاب و كما يدل عنوانه الفرعي يبحث في الخلفيات التاريخية التي أدت إلى حدوث إنتفاضات و ثورات العام 2011. الفكرة الرئيسية التي يطرحها حازم صاغية هي أن العرب في المجمل فشلوا في بناء الدولة-الأمة أو الدولة القومية و السبب في ذلك هو أن الأساس الذي قامت عليه الدول العربية مبني على الضدية و الصراع مع الآخر ممثلا في الإستعمار و بعد ذلك إسرائيل. و يعتقد صاغية بأن دخول العرب إلى عالم السياسة في أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين جاء من بوابة واحدة هي الصراع مع المستعمر. هذا الصراع توسع من الجانب السياسي ليصبح حالة عدائية مع الحداثة على اساس انها منتج غربي و ذلك عكس تركيا في عهد أتاتورك مثلا. و في سبيل دعم فكرته المركزية يأخذنا الكتاب في رحلة سريعة الى تاريخ المشرق العربي من لحظة دخول الانجليز الى مصر و حتى العام 2011
لي عدة ملاحظات سلبية على الكتاب. منها أن تركيزه في الغالب انحصر على دول الشام و العراق بدرجة رئيسية ثم مصر بدرجة أقل. المؤلف ذكر من البداية ان أطروحته لا تشمل دول شمال أفريقيا العربية و لكنه عندما يتحدث عن الخلفيات التاريخية لإنتفاضات الشرق الأوسط العربي فإنه من المفترض ايضا ان يسلط بعض الضوء على اليمن و دول الخليج العربي. جانب آخر لم يعجبني في الكتاب هو تجاوز المؤلف لبعض الأحداث التاريخية التي لا تتفق مع أطروحته. فعلى سبيل المثال يسعى المؤلف لإثبات أن ثورات الاستقلال العربية لم تضمن اجندتها مشاريع بناء الدول القومية الحديثة و انها كانت مجرد صراع توحدت فيه قوى مذهبية و اثنية بشكل مؤقت بسبب العداء للمستعمر. و في سبيل اثبات رأيه يتجاوز المؤلف ثورة 1919 المصرية و التي انتج بعدها المصريون احد اعظم الدساتير الوطنية الحديثة في العالم. اخيرا، نبرة جلد الذات عالية جدا في تناول المؤلف لصراع العرب مع الاستعمار و اسرائيل لاحقا
الفكرة المركزية في هذا الكتاب من شقين: ان نزاعنا السياسي مع الغرب فاض عن السياسة الى الثقافة و الاجتماع،وهذا ما كان له مقدماته في تكويناتنا العصبية المناهضة للقيم و الحداثة و الباحثة دوما عن القضايا الصراعية لذلك فمسألة المسائل في تطورنا هي العلاقة بالغرب،و أكثر ما تنعقد عنده هذه العلاقة قضية الدولة -الأمة في مقابل خليط ماقبل الدولة( العشائر و الطوائف) و ما بعدها الايديولوجي ( العروبة ،الاسلام،طوبى فلسطين) . أما الشق الثاني، فان الانظمة الاستقلالية التي قامت و لا سيما العسكري منها عملت على تكريس اسوأ ما ورثناه من تراكيبنا العصبية، كما انها في هروبها من مهمة بناء الدول - الأمم، زادت في تديين مجتمعاتها و في توتيرها، و كان استخدام الموضوع الفلسطيني ذروة هذين التديين و التوتير،فاذا مثل الاسلام السياسي الطور الحرفي من تدمير مواقع التقدم،فهي مثلت الطور الصناعي الاشد كفاءة و اذى!
لم تهبط الانتفاضات والثورات العربيّة من عدم ولم تقم بلا سبب ، ولم تكن بمحض الصدفة لم يكن تواجد الكثير من التوجهات السياسية والاجتماعية والفكرية هي امتداد سياسي او استعماري بحت . فقد سبقها كل ذلك تراكم سلبيّ على مدى عشرات السنين، طال الحاكم والمحكوم، وانتهى بنا إلى خراب عميم. يرصد هذا الكتاب التردّي المتعاظم الذي عاشته المنطقة الممتدّة بين مصر غرباً والعراق شرقاً منذ احتكاكها بالغرب، والذي تحايلت عليه نُخب المنطقة وثقافاتها فهربت منه إلى قضايا مفتعلة أو مصنوعة وُصفت بـ"المصيريّة" لم ينتج عنها سوى انهيار البلدان والمجتمعات واحداً واحدا. فهل توفّر الثورات العربيّة فرصة جدّيّة للخروج من هذا المستنقع ومن الخرافات التي أدّت إليه؟ من افض الكتب التي فسرت وجود مقومات الثورات وأسباب الغضب وطريقة العصيان المدني الذي كان له أسباب كثيرة لمن يراقب الاحداث...
الفصل الثالث عشر من الكتاب بعنوان : (لا حدود للعفن)، بكونه بمثابة كشف تحليلي للأصولية والمتشددين. ولعل الأساس في هذا العفن الحاصل ولا محدوديته، طبقا لشرح صاغية، العداء للغرب، المتأصل في جميع مفاهيمه. ويفسر المؤلف ذلك: ((الحاضر يتداعى والعيش على الماضي يتعاظم. هو تأريخ للانهيار الذي حدث للمشرق العربي الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية هي محل توافق مع الشعارات العالم بمختلف الأيديولوجيات . سردية دخول المجتمعات العربية الى زمن الحداثة تحمل المجتمعات العربية بداخلها ما يعوق اندماجها في متجمعات ذات تعدديه ديمقراطية وقانونية عادلة وبالتالي يعد الاستبداد والذي يعاني من تلك المجتمعات حسب تلك الرؤيا نتاج لهذه المكونات. يبشر كتاب الانهيار المديد للمشرق العربي بانه انهيار مستمر وغير متوقف في منطقة لم تعرف الهدوء ابداً.
كتاب: الانهيار المديد .. الخلفية التاريخيَّة لانتفاضات الشرق الأوسط العربي
يعالج الكاتب في هذا الكتاب قضية أساسية وجوهرية أدت إلى حدوث ثورات الربيع العربي ألا وهي فشل مشروع الدولة-الأمة على المستوى الوطني والتبعات المترتبة عن هذا الفشل والمتمثلة بالعجز العربي (شعباً ونخباً) عن ولوج العصر بعقلية حداثية براغماتية تمكننا من التعامل مع الواقع كما هو لا كما يراد له أن يكون. فمنذ الاستقلال حتى يومنا هذا مازلنا نستهلك نفس الشعارات والمفردات (الوحدة العربية - فلسطين قضيتنا - الاستعمار سبب مشاكلنا - المؤامرات من أمامنا وخلفنا - اسرائيل إلى زوال ..الخ) والتي لا تنفع سوى لتحشيد وتعبئة الجماهير حول ايديولوجيات شعبوية متهالكة لن تصل بنا إلى أي مكان!
بنظرة خاطفة على أحداث التاريخ العربي نرى نتائج الخطاب السياسي المعاصر والعقلية المتجمدة الكامنة خلفه. فبعد انهيار السلطنة العثمانية على يد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لم يهضم العرب فكرة بناء دول مستقلة على أساس الدولة-الأمة بل آثروا التمسك بمفهوم الدولة-الامبراطورية والتي كانت هدفاً صعب المنال إن لم يكن وهماً منفصل عن أرض الواقع ومعطياته. هذا الأمل الوحدوي والضدية التي انبثقت منه كهوية تحفظ تماسك هذه الفكرة لمواجهة الآخر بكل تجلياته سواء الغرب المستعمر أو حتى الشريك في الوطن إن حاد عن جادة الصواب وطلب أن نختار هوية جامعة عوضاً عن الهوية العربية المفروضة عليه قسراً، كالأكراد في المشرق أو الأمازيغ في المغرب.
وعلى أساس هذه الضدية والتي تزداد طرداً مع تراكم الخسائر عاماً بعد عام، يسطع نجم القائد الشعبوي الأول على مستوى العالم العربي، جمال عبد الناصر. القائد العسكري صاحب التصريحات النارية يمنة ويسرة والذي سيحرر القدس كما فعلها من قبل "الناصر" صلاح الدين لكن الواقع لا يرحم أحداً فبدأ تهافت المشروع القومي الضدي العربي مع انهيار الوحدة السورية المصرية عام ١٩٦١ ومن ثم كانت الطامة الكبرى مع نكسة عام ١٩٦٧ والتي سميت نكسةً تخفيفاً من هول الصدمة، النكبة الثانية بعد نكبة فلسطين ١٩٤٨. رحل عبد الناصر لكن بقي فكره بلا وريث مما فرخ لنا قادة شعبويين غير قادرين على ملأ الفراغ من أمثال صدام والأسد والقذافي. هؤلاء القادة علموا أن الإرث الضدي الذي تركه لهم عبد الناصر لا يقبل القسمة على اثنين وبالتالي الحل يكمن في المزاودة على المعلم نفسه وأن يكونوا ملكيين أكثر من الملك في سبيل تخطي عقدة عبد الناصر ومنافسيهم على الزعامة. وللأسف كانت النتائج كارثية في أرجاء العالم العربي. سورية الأسد تتصارع مع الفلسطينين وحلفائهم اليساريين في لبنان والعراق صدام يدخل حرباً عبثية مع ايران لما يقارب العقد ويتبعها باحتلال الكويت في تناقض صارخ مع شعارات الوحدة العربية التي بنوا مشروعيتهم عليها.
هذا غيض من فيض مما يتطرق له الكاتب في ثنايا هذه الدراسة لكن يعتب عليه أنه ركز على خمس دول عربية فقط (مصر، سورية، العراق، لبنان والأردن) ولم يتناول دول المغرب أو الخليج العربي بالبحث اللازم ليكوّن صورة شاملة عن العالم العربي.
فكرة الكتاب مهمة، وجدير أن تستنبط الأسباب البعيدة التي أدت إلى هذه الأحداث القريبة، ولكنه لم يسلسل سرده بطريقة سُلَّمية توصل القارئ إلى نتائج الثورات وإنما سرد الأحداث المهمة بتفصيل غير مهم بطريقة الحكَّاء الممل، وأزعم أن اختياره لسنة 1883ليس الاختيار الأحذق وأن التاريخ مساره أطول والأسباب أبعد من هذا ولو جعل حملة نابليون على مصر فالشام نقطة لسرد الأحداث لأحسن
الكتاب لطيف إجمالاً لكن مشكلته الأساسية دفاعه غير المفهوم عن الحدود كما رسمت بوصفها أفضل الموجود. هس أفضل الموجود من وجهة نظر اليوم، لكنها ليست كذلك لو كنا نعيش في العشرينيات.