يعرض عليك تاريخ الصحوة العربية الاسلامية خلال القرن الخامس الهجرى التى مكنت للامة الاسلامية من جمع صفوفها لماجهة العدوان الصليبى , وهذه الصحوة يرتبط اسمها باسم (ملكشاه صاحب نصر ملأذكره ) الذى اوقف زحف دولة الروم على الوطن الاسلامى و لكن بطلها الاكبر بعد ذلك هو نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الذى كرس حياته لتجميع صفوف المسلمين و اعادة الوحدة الاسلامية و اعدادها للمواجهة المظفرة مع الصليبين .
ولد حسين مؤنس في مدينة السويس، ونشأ في أسرة كريمة، وتعهده أبوه بالتربية والتعليم، فشب محبًا للعلم، مفطورًا على التفوق والصدارة، حتى إذا نال الشهادة الثانوية في التاسعة عشرة من عمره جذبته إليها كلية الآداب بمن كان فيها من أعلام النهضة الأدبية والفكرية، والتحق بقسم التاريخ، ولفت بجده ودأبه في البحث أساتذته، وتخرج سنة (1352هـ= 1934م) متفوقًا على أقرانه وزملائه، ولم يعين حسين مؤنس بعد تخرجه في الكلية؛ لأنها لم تكن قد أخذت بعد بنظام المعيدين، فعمل مترجمًا عن الفرنسية ببنك التسليف، واشترك في هذه الفترة مع جماعة من زملائه في تأليف لجنة أطلقوا عليها "لجنة الجامعيين لنشر العلم" وعزمت اللجنة على نشر بعض ذخائر الفكر الإنساني، فترجمت كتاب " تراث الإسلام" الذي وضعه مجموعة من المستشرقين، وكان نصيب حسين مؤنس ترجمة الفصل الخاص بإسبانيا والبرتغال، ونشر في هذه الفترة أول مؤلفاته التاريخية وهو كتاب "الشرق الإسلامي في العصر الحديث" عرض فيه لتاريخ العالم الإسلامي من القرن السابع عشر الميلادي إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ثم حصل على درجة الماجستير برسالة عنوانها "فتح العرب للمغرب" سنة (1355هـ= 1937م).
عين حسين مؤنس بعد حصوله على الماجستير في الجامعة، ثم لم يلبث أن ابتعث إلى فرنسا لاستكمال دراسته العليا، فالتحق بجامعة باريس، وحصل منها سنة (1356هـ= 1938م) على دبلوم دراسات العصور الوسطى، وفي السنة التالية، حصل على دبلوم في الدراسات التاريخية من مدرسة الدراسات العليا، ثم حيل بينه وبين إكمال دراسته نشوب الحرب العالمية الثانية، فغادر فرنسا إلى سويسرا، وأكمل دراسته في جامعة زيوريخ، ونجح في الحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ سنة (1361هـ= 1943م) وعين مدرسًا بها في معهد الأبحاث الخارجية الذي كان يتبع الجامعة.
لما انتهت الحرب العالمية الثانية ووضعت أوزارها عاد إلى مصر سنة (1364هـ= 1945م) وعين مدرسًا بقسم التاريخ بكلية الآداب، وأخذ يرقى في وظائفه العلمية حتى عين أستاذًا للتاريخ الإسلامي في سنة (1373هـ= 1954م).
إلى جانب عمله بالجامعة انتدبته وزارة التربية والتعليم سنة (1374هـ= 1955م)؛ ليتولى إدارة الثقافة بها، وكانت إدارة كبيرة تتبعها إدارات مختلفة للنشر والترجمة والتعاون العربي، والعلاقات الثقافية الخارجية، فنهض بهذه الإدارة، وبث فيها حركة ونشاطًا، وشرع في إنشاء مشروع ثقافي، عرف بمشروع "الألف كتاب"، ليزود طلاب المعرفة بما ينفعهم ويجعلهم يواكبون الحضارة، وكانت الكتب التي تنشر بعضها مترجم عن لغات أجنبية، وبعضها الآخر مؤلف وتباع بأسعار زهيدة.
استهل د.حسين مؤنس بالقول بأن كتابة سيرة هذا المجاهد المسلم كانت وفاء بعهد قطعه على نفسه منذ سنين، وها قد جء وقت الوفاء به، وذاك لأنه أعجب أولاً بشخصية البطل نور الدين من جميع جوانبها، ولأنه ثانيًا رأى في أشد الحاجة إلى أخذ العبرة والعظة من عصر مضى تشابهت ظروفه مع عصرنا الحاضر، فنور الدين كان بطلاً قوميًا ظهر في زمان الحروب الصليبية واحتلالها لبعض المدن الإسلامية، وأهمّها القدس، وفي زمان انفراط الوحدة الإسلامية وضعف نظام الخلافة وكثرة الإمارات وتعدد الوحدات السياسية داخلها وانقسام تلك الوحدات السياسية على نفسها، وفي هذا كله لم يكن همّ نور الدين كهمّ من حوله في تحقيق مطمع شخصي له في الجاه أو الملك أو الغنى يتمثل في استئثاره بما تحت يديه من الفتوحات، أو الاكتفاء بما ورثه، بل كان أزهد ما يكون في كل هذا وكانت حياته جهادًا متصلاً ورحلة طويلة على صهوات الخيل لم تلق عصا تسيارها قط إلا حين الوفاة
وظهر هذا أوضح ما يكون كذلك، عندما بسط د.حسين مؤنس سيرة نور الدين أمامنا، وعرض في إعجاز فاتن مواقع معاركه على الخريطة، وأرانا أنه يقاتل هذا لا ذاك ويذهب إلى تلك المدينة لا تلك، ويسلك خط السير هذا ويترك الآخر، ويرحّب بعقد هدنة طويلة الأمد مع هذا الطرف ولا يعقدها مع الآخرين إلا مضطرًا وفي حالة طلبهم هم للهدنة ولسنوات قصيرة، ويتوجّه إلى مصر، ويرفض – في اختلاف رأي لا يفسد للودّ قضية – اتجاه خليفته في مصر: صلاح الدين، في اهتمامه بالبناء والتعمير والتوطيد للسلطان في مصر، ويرى ضرورة أن يجاهد صلاح الدين بما تحت يديه من الجند دائمًا وأبدًا وما دام خطر الحملات الصليبية قائمًا على بلاد العرب
وبسط د.حسين مؤنس كل هذا أمامنا في صفحات عديدة مشرقة العبارة، ثم قال أنه لم يكن كما صوّرته كتب التاريخ كفارس مغامر يضرب ضربة هنا وضربة هناك، وإنما كان هدفه غير المعلن والذي أبانت عنه أفعاله لا كلماته، هو توحيد الجبهة الإسلامية المشتركة من أجل صد مطامع الحملات الصليبية، فأمّن الشرق ثم ذهب ناحية أمارات الغرب الصليبية، فقاتهلم، وترك أمارة أنطاكية لكي لا يجمع عليه جنود الامبراطور البيزنطي التي كانت خاضعة له أسميًا، وفعليًا لملوك أوروبا قادة الحملات الصليبية، وكذلك قرر ألا يهاجم مملكة بيت المقدس هجومًا عامًا لمكانتها الدينية عندهم، فإن فعل هذا فإنه سيكون وحسب مسرّع لأمر إرسال أوروبا الحملة الصليبية الجديدة لتمنع المدينة المقدسة من الرجوع إلى أيدي المسلمين، فتركها إلى حين ثم اتجه إلى مصر، ليستقوى بها على المواجهة ويخلق فيها جبهة جديدة داعمة له من هذه الناحية المحورية وليزيد الحلقة إحكامًا على القوات الصليبية
ثم .. "ولكن الأجل لم يمهله بعد مصر إلا قليلاً"، فمات نور الدين، وانتقلت الراية إلى آخر جدير بها، ليتحقق على يد صلاح الدين هدف سلفه في استخلاص القدس ودحر الحملة الصليبية الثالثة
.
.
وهناك "دروس مستفادة" كان يؤكّد عليها د.حسين مؤنس طوال صفحات هذا الكتاب الخصيب، بأسلوبه الحماسي المتدفق دائمًا، والمتفائل أبدًا، وأول هذه الدروس أن الوحدة هي أساس قيام الدولة الإسلامية كما هو التوحيد قوام الدين الإسلامي، فمتى انفرط العقد انفرطنا معها، ومتى فطن أحدهم (كنور الدين) لما قد تصنعه الوحدة، لأدرك النصر ولاتسع أفقه وتسامح وتصانع في أمور داخلية كثيرة من أجل تقريب هذه الغاية، وثاني هذه الدروس، أن الإنسان يخلق ظروفه، وليس الظروف هي التي تخلق الإنسان، فقد كان في استطاعة المتشائم أن يرى الفساد وحب الأثرة والسلطان وضعف السلاطين وتخاذلهم وميلهم إلى أعداء دينهم على أقبح ما يكون في هذا العصر، فييأس من الاستمرار في المحاولة، ولكن نور الدين لم يفعل هذا طوال تاريخه، فقد بدأ نور الدين - كما أطال وكرر د.حسين مؤنس أكثر من مرة في كتابه هذا – بداية متواضعة، فلم يرث من ملك أبيه سوى إمارة صغيرة متواضعة القيمة الاستراتيجية، وتسبب الميراث كذلك في ظهور نزاع بينه وبين أخوته، هذا مع الكثير مع المشاكل الأخرى المتناثرة حوله سياسيًا وعكسريًا وماليًا، وفي ظروف وهزائم متوالية عانتها أغلب المدائن الإسلامية على أيدي الصليبين
ثم ماذا؟! .. ثم لم يمت نور الدين قبل أن يمتد صيته وذكره وانتصاراته من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه، ولا قبل أن تغطي جنوده الأراضي الإسلامية في الشام والعراق ومصر في عدد وعداد يُحسب لهما ألف حساب، وعلى أهبة دائمًا للجهاد والغزو، ولا قبل حتى استيقاظ الوعي الجهادي لدى عامة الناس وتكوين قوة شعبية إلى جانب القوات النظامية أذاقت الغزاة الكثير!، بدلا مما كانت يحدث من تخاذل الناس عن الدفاع عن المدينة عند تخاذل أمرائها في الدفاع عنها أو تسليمهم المدينة ورضاهم بدفع الجزية إلى الصليبين، وأشخصية واحدة تفعل هذا؟، بلى!، وشخصية واحدة كذلك قد تفسد الأمة بتشائمها وأراجيفها، في مصداق الحديث الشريف: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ
قال، قال، قال، قال، فما أسهل الكلام وما أوخم عاقبته!
ظهر نور الدين محمود على مسرح الحوادث في وقت اشتدت فيه الحاجة الى مثله فوجد الميدان أمامه مهيأ ليظهر مواهبه ، ومن نعم الله على صاحب المواهب أن يظهر في وقت يحتاج الناس فيه الى ما عنده , و أن يجئ و كأنه دواء اشتدت حاجة المريض اليه ، فيعظم به النفع و تنصقل مواهبه بالعمل و ينشرح صدره بالتوفيق ، و تصفو نفسه بتقدير الناس اياه و كأين من عظيم أتى ز الزمان دبر أو ظهر في زحمة من أمثاله أو اقبل و قد انقضت الحاجة اليه فأصبحت حياته في الحالات كلها و كأنها تطفيف لكيل و ربما وقعت المنافسة بينه و بين أضرابه فضاعت جهوده و جهودهم ، وأتت البلايا من وجوه المكاسب .....