أحسب وكأنّ العنوان قصّر عن المضمون قليلاً، ألا يبادر إلى الظنّ أن الكتاب بهذا العنوان يبدو كمختارات ومعرض خصيب لنماذج البلاغة العربية كما وردت في الرسائل، بلى!، ولكن لا، فهذا الجزء الذي يروي الرسائل العربية المتبودلة بين أبرز أعلام رجال العصر الأموي يفارق هذا الظنّ أشدّ المفارقة، فهو تاريخ متصل، منذ أن ظهر أمر الدولة الأموية على يد مؤسسها معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - إلى زوال دولته على يد العباسيين، أو منذ أن أرسل عبد الله بن عباس رسالته إلى الحسن بن علي - رضي الله عنهما - يحرّضه فيها على قتال معاوية كيلا يستتب الأمر له، ويبدأ قائلاً، ويبتدأ هذا الجزء من الكتاب بها أيضًا: أما بعدُ، فإنّ المسلمين ولّوك أمرهم بعد عليّ عليه السلام، فشمّر للحرب، وجاهد عدوّك، وقارِب أصحابك، واستُر من الظنين ذنبَه بما لا يلثم دينك، وولّ أهل البيوتات والشرف، تستصلح بهم عشائرهم، حتى يكون الناس جماعة
إلى أن يقول في ختام رسالته: فجاهدهم ولا ترض دنيّة، ولا تقبل خسفًا، فإنّ عليًا لم يُجب إلى الحكومة حتى غُلب على أمره فأجاب، وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل، فلما حكموا بالهوى رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله، ولا تخرجنّ من حقٍ أنت أولى به، حتى يحول الموت دون ذلك، والسلام
ويحول الموت دون ذلك، وتقوم الدولة الأموية، وتتوالى الرسائل رائحة غادية بين الخلائف وعمالهم على المدّن وبينهم وبين كبار قادتهم ورجالهم، وبينهم وبين الخارجين عليهم وأعدائهم، ثم تنتهي الرسائل عند الخليفة الأموي الأخير، مروان بن محمد (مروان الحمار) ، وخروج أمر أبي مسلم الخراساني - موطّد أركان الدعوة العباسية - عن السيطرة، وبعث الخليفة الأخير كتابه الأخير الذي كتبه له كاتبه الأشهر"عبد الحميد الكاتب"، والذي - كما قيل - قد "نفث فيه حواشي صدره، وضمّنه غرائب عجزه وبجره، وضمّنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم"، بل قد قال عبد الحميد الكاتب للخليفة الأموي الأخير مروان الحمار، عقب الانتهاء من كتابه رسالته الأخيرة تلك: قد كتبتُ كتابًا متى قرأه بطل تدبيره، فإن نَجَعَ .. فذاك، وإلا فالهلاك
ولم تصل إلينا تلك الرسالة، لأنها عندما وردت إلى أبي مسلم، لم يقرأها، وأمر بنار، ثم أحرقها بها، ثم مدّ يده وأخذ قصاصة لم تُحرق تمامًا منها، فكتب عليها ردّه الذي بعث به إلى مروان: محَا السيفُ أسطارَ البلاغةِ، وانتحَى عليكَ ليوثُ الغابِ من كل جانبِ
فإنْ تقدموا نُعمِلْ سيوفًا شحيذةً يهونُ عليها العَتْبُ من كل عاتبِ
وهو آخر ما قاله أبو مسلم الخراساني في أحداث هذا الجزء، بينما كان لسيفه بعد ذلك حديث طويل، وهذا الكتاب تاريخ حيّ ترويه الرسائل المتبودلة، مثله مثل الرويات الرسائلية التي تسير أحداثها جميعًا عن طريق إيراد الرسائل بين أبطالها، ومتى ما سكتت الرسائل كان واضع هذا الكتاب الأستاذ أحمد زكي صفوت، يذيّل الحواشي بموجز ما جرى بعد ذلك من أحداث، مثلما كان يفعل قبل إيراده الرسالة من التمهيد لها بعرض موجز كاف لسير الأحداث، وهو في كل تعليقاته أو هوامشه أو شروحه أو ترجيحه لرأيه في قراءة كلمة مصحَّفة على حساب أخرى، أو مقارنته بين المصادر التي أوردت الرسالة وإثباتها وترتيبها، هو في كل ذلك أستاذ قدير عالي الكعب في تلكم الفنون جميعها