جاذبية صدقى ( 1920 – 2001 ) روائية وصحفية مصرية، قدمت الرواية والقصة والدراسات المسرحية والترجمة وكتب الأطفال. كانت عضوة في نقابة الصحفيين واتحاد الكتاب وجمعية المؤلفين والملحنين وجمعية الأدباء والمجلس الأعلى للفنون والآداب. حصلت على جائزة مجمع اللغة العربية عام 1954.
من مؤلفاتها
"البلدى يؤكل" "مملكة الله" "الحب" "بوابة المتولى" "لمحات من المسرح العالمى" " القلب الذهبى" "ابن الفيل" "بين الأدغال" "نظرة عينيه تلك" "أهل السيدة"
قالت ماما عندما حدثتها عن الكتاب، إنها تتذكر اسم «جاذبية صدقي»، ثم لما أرتها صورتها، قالت إن جميلة، وأنا بالتأكيد أوافقها الرأي، فإن ابتسامتها الدائمة كانت أكثر ما يميزها رحمها الله، وإن كانت كثيرًا ما تجبر نفسها دائمًا على الابتسام، حتى ولو كانت تعلم إنها "ابتسامة صفراء"، ولكن لا ضرر، فالحديث يقول في آداب قراءة القرآن الكريم: ابكوا!، فإن لم تبكوا فتباكوا
جاءت لها دعوة في أوائل الستينيات، بأن تحاضر في أمريكا، في الآداب والثقافة المصرية وما إلى ذلك، فوافقت!، ومَن يستطيع الرفض، وسافرت وكتبت هذه اليوميات يومًا بيومٍ منذ يوم الثلاثاء 29 أغسطس، إلى يوم الرحيل الخميس 21 ديسمبر
ولكن قبل هذا، أكثر ما أحببته في هذه اليوميات هو هذا الحب الشديد التي تكنه المؤلفة لبلدها مصر، منذ تلقيها دعوة التدريس من جامعة إلينوي، إلى آخر يوم من مغادرتها لأمريكا، كان هذا الحب والشغف والإيثار والإخلاص والتفاني والافتنان ببلدها، أمرًا يثير الإعجاب حقًا، كان مصر حينذاك في تلك المرحلة المثمرة من الثورة، وتحديدًا في عام 1961، ونشوة الاشتراكية والوحدة العربية والتأميم ومشروعات النهوض بالصناعة والزراعة والتجارة، والأهم من ذلك كله وجود شخصية الزعيم القوي الكاريزمي الذي يؤمن به الجميع في وطنه والذي أثارت أفعاله الاهتمام في نواحي المعمورة، إذن كانت النشوة حاضرة وفي أقصاها، كل ذلك كان في الخلفية دائمًا خلال زيارة جاذبية صدقي لأمريكا، أقصد حب مصر!، فكانت أول فكرة لديها أن تحمل من مصنوعات بلدها ما يمكن أن تحمله بعد أن اشترت من أموالها الخاصة ما ملأ ثلاثة حقائب كبيرة، وذلك لكي تفتتح معرضًا هناك لمنتجات بلدها، وافتتحته بالفعل وصدّرته بصورة جمال عبد الناصر بالتأكيد!، ولا تتخيلون كم كان جمال عبد الناصر حاضرًا بشدة في هذا الكتاب
وهل تصدقون، أنها في آخر أيامها في جامعة إلينوي، وبسبب كثرة حديثها عن مصر وعبد الناصر والآمال اللامتناهية التي تنتظر مصر في الأفق القريب، كل هذا الحماس في عملها في التدريس وفي إنجاح المعرض نجاحًا باهرًا، وفي حديثها الدائم ونشاطها المبهر لأجل مصر، كل ذلك دفع أعضاء هيئة التدريس وحتى مدير الجامعة، إلى إعداد مفاجأة وداع لها، ففي حفلة وداعها، إذ قبل أن تقوم بشكر المجتمعين، تقدم منها العميد وناولها خطابيْن مغلقيْن، وطلب منها أن تفحهما، وكانت المفاجأة، حيث قام عميد الجامعة بإرسال رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يشكر فيها بلسان جميع العاملين مجهودات السيدة جاذبية صدقي، وللإفصاح عن عظيم تقديرهم واحترامهم للعمل الذي تقوم به، وهذا كان المحتوى العام للخطاب الأول، وكان مما ورد فيه هذه الفقرة الجميلة:
إنها ألقت حتى الآن حوالي أربعين محاضرة على جمهور من الشعب، وفي المدارس والجامعات، وقد أخبرتنا بالكثير عن أمجاد مصر القديمة، وما تتسم به النهضة الحديثة بمصر الآن، كما أنها قامت بعرض بعض الأفلام التي تعكس لنا روح الثورة المجيدة المتسمة بالسلام، وبعض الشرائط المسجلة للموسيقى العربية الجميلة، وفضلا عن ذلك، فقد أحضرت على نفقتها الخاصة معرضًا دقيقًا للمواد التي تعتبر عينات ممثلة لأجمل الفنون والصناعات المصرية، وقد ملأ هذا المعرض كافة أبهاء كلية «الفنون الجميلة» بالجامعة، وافتتح باحتفال يليق به، وأتيح للجمهور مشاهدته في تلك الحفلة السعيدة
إلى آخر هذا، بينما كان الخطاب الثاني الذي مادت الأرض تحت أقدام المؤلفة وهي تطالع الأسطر الأولى منه، فهو كان ردًا من الرئيس جمال عبد الناصر شخصيًا، شاكرًا فيه الكلمات الطيبة التي تفضل بإرسالها عميد جامعة إلينوي الأمريكية
كاد يغمي عليّ!، هل أنا تلك التي يتكلمون عنها هكذا؟!، حقًا، أنا؟، تُرى، هل أستأهل هذه التحية البالغة؟، إنني طوال فترة عملي بينهم لم أشعر بجهدٍ ما، ولا بإجهاد، لم أشعر إن هذا عمل، بل تسلية كبرى!، تسلية، وثقافة لي قبل غيري، وتجربة فذّة بالنسبة لإنسانة تحيا بين مهد طفلتها وبين مطبخها!، ثم إن الحديث عن بلدي هكذا طوال الوقت متعة، وأي متعة!، فإنني أشعر بشوقٍ شديد ولهفةٍ إليها، فسيرتها على لساني هكذا، وعلمها مرفوع عاليًا فوق سارية الجامعة تحية لها ولمعرضها المقام بها، وصوره المعلقة فوق جدران المعرض، وفصول الدراسة، ودهاليز الجامعة، حتى حجرة العميد علقت فيها صورة رئيسنا وصورة للنيل الوقور الخالد، هذا كله يرطّب شيئًا من لهفتي عليها، ويرضي قلبي المشتاق
ثم تقول عن هذه المفاجأة التي أعدها المحتفلون بها:
عادت عيناي تقفزان عبر السطور إلى أعلى الرسالة، إلى التاريخ المدون فوجدته: 13 أكتوبر!، واليوم: 27 نوفمبر
يا إلهي!، هذا الوقت طوله وأنا غافلة؟!، إنني لم أعرف شيئًا البتة عن ذلك الذي يدور خلف ظهري، لم تبدر من أحدهم أيّة بادرة تنم عما انتووا أن يفعلوه أو اشتمّ منها حتى ولو فكرة عابرة خاطفة عمّا أضمروه في الخفاء
يبدو إن هؤلاء الأمريكيين ليسوا بالسذاجة التي قد يبدون بها !
:D
ما يهم، عقب نجاح المعرض، واستمراره طوال فترة إقامتها في إلينوي، كان لابد أن يفضّ في النهاية عند مغادرتها، فتوزعت مقتنياته كهدايا على الأسرة الأمريكية التي استضافتها بترحاب بالغ، وعلى أعضاء هيئة التدريس، وعلى العميد بالتأكيد، وعلى الأصدقاء الأمريكيين الجدد، ومع كل ذلك تبقّى بعضًا مما لم يتم التصرّف فيه، فهداها تفكيرها إلى إرساله إلى السيدة الأولى للولايات المتحدة الإمريكية: جاكلين كنيدي!، فبعثت إليها عدة هدايا كانت قد جلبتها من خان الخليلي في مصر، وقسمت الهدايا إلى قسمين، قسمًا إلى الرئيس الأمريكي مباشرةً، وقسمًا إلى السيدة الأولى، وكان من الطريف إنها عددّت بالتفصيل بيانات هذه الهدايا، فهم خمسة إلى الرئيس، وسبعة إلى زوجته، فكانت الهدايا السبعة التي أهدتها للسيدة الأولى هي، والكلام لها:
أما مسز كنيدي فكانت هداياها الآتية: 1- قطعة من النسيج القطني الساتان المشجر، طولها أربعة أمتار وتصلح ثوبًا
2- قطعة من النسيج الأسود، برسوم فرعونية من اللون الأصفر، أربعة أماتر، وتصلح جونلة
3- عقد فرعوني من ثلاث طبقات، من المرجان الأحمر
4- إسورة فرعونية
5- حلق فرعوني
6- قطعة من النسيج الأبيض القطني المخرم الفاخر الذي بدأت مصانع بلادي تنتجه، واسمه "جيبير"، وتصلح تلك القطعة لصنع بلوزة سهرة رائعة
7- ثلاث مناديل رأس بلدية من الشيفون الشفاف الهفهاف، للمنديل الأول الأحمر اللون: فُل أبيض على أطرافه، وللمنديل الثاني الأزرق: ترتر براق له رنين موسيقي، وللمنديل الثالث الأصفر خرز مختلف الألوان والأشكال والأحجام
وقد طويتُ المناديل البلدية الثلاثة بعناية فائقة مع بقية الهدايا، داخل الصندوق الذي أرسلتها فيها، ولكنني وضعت معها ثلاث صور لي تبين المراحل الثلاث لكيفية إرتداء الإيشاربات السواريه الحديثة
نعم!، هذه هي الصور التي تظهر فيها السيدة جاذبية صدقي وهي تبين كيفية الارتداء
:D
ما يهم!، وصلت لها رسالة شكر من مسز كنيدي، بالتأكيد!!، ودعتها عند عروجها على واشطنون أن تأتي لزيارة البيت الأبيت، وقد كان!، وخمنوا ماذا
التقت المؤلفة بالسيدة الأولى الأمريكية، في عدة دقائق دافئة معدودة
يا إلهي!، جميلة هي، ورشيقة جدًا، رشيقة وأنيقة في فستانها الأسود الضيق، وحذائها المفتوح
.
.
وجاذبية صدقي أسلوبها في الكتابة يعكس طبيعتها تمامًا، تخيّلت هذه الكلمات متواثبة من مكانٍ لآخر وذات روح طيبة وبسيطة ومحبّة للجميع، مثل صاحبتها تمامًا، ويا ربي، كل هذا النشاط انهار فجأة، ومتى، قالت في السطور الأخيرة من هذا الكتاب:
استمتعت برحلتي واستفدت وأفدت وتعلمت وتبادلت المعرفة مع آخرين، لكنني الآن وأنا أغمض عيتي واضجع في مقعد الطائرة العائدة بي إلى أوطاني أشعر بقواي كلها تفارقني!، كلها دفعة واحدة!، الحمد لله أنني لم أشعر بذلك الوهن، ولا بذلك الخمول الذي يزحف عليَّ، ولا بتلك اللهفة على الراحة والنوم، سوى الآن
حبيبتي يا بلادي - أوحشتني
مرحبًا مصر
باي أمريكا
!
إذن فعالم هذا الكتاب البهيج، كان حقيقةً في يومٍ ما من أيام الستينيات، وما أدراك ما الستينيات، الستينيات التي قالت يومًا بلسان الحال :