إنَّ كتاب ’فتح الباري بشرح صحيح البخاري‘ للحافظ ابن حجر العسقلاني من أَجَـلِّ شروح صحيح الإمـام محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ؛ بل هو أَجَلُّها على الإطلاق، على كثرتها واختلاف أصحابها، حتى فاق ما تقدَّم منها وما تأخَّر عنه. ولا يزال هذا الشرح من أهمِّ كتب الإسلام، ولا يزال العلماء ينهلون منه، ويُعجبون من بديع تصنيف الحافظ، وحسن بيانه، وسعة علمه، ودقة فهمه، في جميع أبواب العلم؛ من الحديث، وعلم الرجال، والعلل، واللغـة، والتفسيـر، والفقه، والأصول، والتوحيد، والتاريخ، والأدب، فهو بحقٍّ موسوعة زاخرة لعلوم كثيرة. قال السَّخاوي في ’الذيل على رفع الإصـر‘: (وزادت تصانيفـه ـ أي: ابن حجر ـ التي معظمها في فنون الحديث، وفيها من فنون في الأدب، والفقه وأصوله، وأصول الدين، وغير ذلك، على مئة وخمسين تصنيفاً، ورُزق فيها من السَعد والقَبول ـ خصوصاً ’فتح الباري‘ الذي لم يُسبَق إلى نظيره ـ أمراً عجيباً). ولما قيـل للشوكاني: أما تشرح الجامع للبخاري كما شرحـه الآخرون من العلماء؟ قال: ’لا هجرة بعد الفتح‘. وكتاب ’فتح الباري‘ موسوعة علميـة فريدة، ومكنز لأصول العلم، إلا أنَّ طبيعة هذا الشرح، وطبيعة المشروح ـ ’صحيح البخاري‘ ـ تفرِّق الفرائدَ والفوائدَ العلميـة تحت تنوع الأبواب واختلافهـا، واختلاف حديث كل باب، وكذا منهج البخاري في كثرة تكرار الأحاديث؛ الأمر الذي يحول بين طالب العلم والاستفادة من هذه الموسوعة، إلَّا أنْ يقرأ ’الفتح‘ من أوله إلى آخره، وقراءة ’الفتح‘ من أوله إلى آخره مما يوصي به العلماء، ويحضُّون عليه، إلَّا أنَّ ضخامة هذا الشرح الذي يقع في ثلاثة عشر مجلداً من القطع الكبير، وينتظم في أكثر من ثمانية آلاف صحيفة، ربما كان سبباً يحول بين الراغبين في علوم هذه الموسوعة وبين الاستفادة منها. أ ـ الدراسات السابقة المختصَّة بكتاب ’فتح الباري‘: ومن هنا اتجهت جهود العلماء والمهتمين من طلبة العلم إلى العناية بـ ’فتح الباري‘، وتقريب علومه بين يدي الأمة، فكثرت الدراسات وتنوعت حول ’الفتح‘، واتخذت قالبَ التخصص بإفراد كل صنف من صنوف العلوم بدراسة مستقلة؛ من الحديث، والمصطلح، والرجال، والتفسير، واللغة، والتاريخ، وألِّفت في ذلك الرسائل الجامعية؛ لنيل شهادتي الدكتوراه والماجستير، وفيما يلي بعضُ الدراسات والمصنَّفات التي خدمت ’فتح الباري‘؛ الجامعي منها، وغير الجامعي: 1- ’أنيس الساري في تخريج وتحقيق الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري‘ في أحد عشر مجلداً، تأليف: نبيل بن منصور بن يعقوب البصارة، طباعة مؤسسة الريان للطباعة والنشر. 2- ’إتحاف القاري بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخاري‘، تأليف: محمد عصام عرار الحسيني، طباعة دار اليمامة، دمشق. 3- ’استدراكات الحافظ ابن حجر على متقدميه في فتح الباري‘، إعداد: وسيمة العجمي، رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود 1426ﻫ. 4- ’الروايات التاريخية عن الخلافة الراشدة والدولة الأموية في فتح الباري؛ جمعاً وتوثيقاً‘، رسالـة دكتوراه من الجامعة الإسلامية، إعداد: يحيى بن إبراهيم اليحيى، دار هجر، الرياض 1996م. 5- ’منهج ابن حجر في العقيدة من خلال كتابه فتح الباري‘، تأليف: محمد إسحاق كندو، رسالة ماجستير، طباعة دار الرشد. 6- ’السيرة النبوية من فتح الباري لخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني‘، تحقيق: د. محمد الأمين بن محمد بن محمود بن أحمد الجكني، رسالة دكتوراه، طباعة دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت. 7- ’الأحاديث التي حكم عليها ابن حجر في فتح الباري‘ من كتاب الوضوء إلى آخر كتاب الصلاة من الجزء الأول، تأليف: د. عبد الرحمن الصاعدي. 8- ’تجريد أسماء الرواة الذين تكلم فيهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري، ومقارنة كلامه بما قاله في تقريب التهذيب‘، تأليف: نبيل منصور البصارة، الناشر دار الدعوة، الكويت 1407ﻫ. 9- ’منهج الحافظ ابن حجر في فتح الباري‘، تأليف: جميل الشوادفي، رسالة دكتوراه، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 10- ’منهج الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري‘ مع تحقيق الكتاب من أول (كتاب الصلاة) إلى نهايـة (باب: المرأة تطرح على المصلي شيئاً من الأذى)، دارسة وتحقيق: عبدالله الجعيثن، رسالة دكتوراه، الجامعـة الإسلاميـة بالمدينـة المنورة. 11- ’القواعد الأصولية المتعلقة بباب الحكم والمباحث اللغوية، والتطبيق عليها من كتاب فتح الباري‘، تأليف: أحمد فرحان الإدريسي، رسالـة دكتوراه، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 12- ’توجيـه القاري إلى القواعد والفوائد الأصولية والحديثية والإسنادية في فتح الباري‘، تأليف: حافظ ثناء الله الزاهدي، الناشر جامعـة العلوم الأثرية، باكستان. 13- ’معجم المصنفات الواردة في فتح الباري‘، تأليف: مشهـور حسن سلمان، الناشر دار الهجرة، 1411ﻫ. 14- ’تراجعات ابن حجر في فتـح الباري‘، تأليف: مشهور حسن سلمان، الناشر مكتبة الخراز، جدة، 1418ﻫ. 15- ’عقيدة التوحيد في فتح الباري‘، تأليف: أحمد بن عصام الكاتب، طباعة دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1983م. 16- ’غبطـة القاري في بيان إحالات فتح الباري‘ لأبي صهيب العدوي، طباعة مكتبة ابن تيمية بجدة. 17- ’الروايات التفسيريـة فـي فتـح البـاري جمعـاً ودراسـة‘ للباحـث: عبد المجيد الشيخ عبد الباري، رسالة دكتوراه، الجامعة الإسلامية بالمدينة. 18- ’موارد ابن حجر العسقلاني في علوم القرآن من كتاب فتح البـاري‘ للباحث: محمد أنور صاحب بن محمد عمر، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 19- ’قرائن الترجيح في المحفوظ والشاذ، وزيادة الثقـة عند الحافظ ابن حجر في كتابـه فتح الباري‘ للباحث: نادر السنوسي العمراني، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 20- ’جهود ابن حجر اللغويـة في فتح البـاري‘ للباحث: أحمد بن علي المصباحي، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، كلية اللغة العربية وآدابها عام 1417ﻫ. 21- ’لمحات أصولية عند المحدثين، فتح الباري نموذجاً‘، تأليف: الطيب كريبان، رسا...
الصورة : مخطوطة من كتاب "تسديد القوس مختصر مسند الفردوس" بخط مؤلفه ابن حجر العسقلاني احتل الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني مكانة مرموقة في تاريخ الفكر الإسلامي، وتعد مؤلفاته واحدة من أمهات الكتب والموسوعات العلمية التي تقوم عليها المكتبة الإسلامية، وابن حجر واحد من علماء المسلمين الموسوعيين الذين كتبوا في علوم الإسلام المختلفة، فنبغوا ووصلوا فيها إلى القمة.
نسب ابن حجر العسقلاني هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الكناني العسقلاني الشافعي المصري القاهري المولد والمنشأ والدار والوفاة. المعروف بالحافظ ابن حجر العسقلاني. مولد ابن حجر العسقلاني ولد ابن حجر –رحمه الله- في الثاني والعشرين من شعبان سنة 773 هـ ، في منزل كان يقع على شاطئ النيل، بالقرب من دار النحاس والجامع الجديد، وظل ابن حجر –رحمه الله في بيته هذا حتى انتقل منه في أواخر القرن الثامن الهجري إلى القاهرة، حيث تزوج بأم أولاده فسكن بقاعة جدها منكوتمر المجاورة لمدرسته المنكوتمرية داخل باب القنطرة، بالقرب من حارة بهاء الدين، واستمر بها حتى مات [4].
أسرة ابن حجر العسقلاني نشأ ابن حجر في أسرة تشتغل بالعلم وتشجع عليه، فقد اشتغل أبوه بالعلم والفقه ومهر بالآداب، موصوفاً بالعقل والمعرفة والديانة والأمانة ومكارم الأخلاق ومحبة الصالحين والمبالغة في تعظيمهم، وأما أمه فهي من بيت عُرف بالتجارة والثراء والعلم، ولابن حجر أخت اسمها (ست الرَّكب)، قال عنها ابن حجر: "كانت قارئة كاتبة أعجوبة في الذكاء، وهي أمي بعد أمي"، ويذكر ابن حجر –رحمه الله- أن له أخًا من أبيه، قرأ الفقه والفضل،وعرض المنهاج، ثم أدركته الوفاة، فحزن عليه والده حزنا شديدا، وذكر ابن حجر –رحمه الله- أن والده حضر إلى الشيح يحيى الصنافيري، فبشَّره بأن الله تعالى سيخلف عليه غيره ويعمره، فكان مولد ابن حجر- رحمه الله- بعد ذلك بقليل. وذكر السخاوي أن الشيخ الصنافيري بشَّر والد ابن حجر –رحمه الله- بقوله: "يخرج من ظهرك عالمٌ يملأ الأرض علمًا" [.
نشأة ابن حجر العسقلاني نشأ ابن حجر العسقلاني –رحمه الله- في أسرة تحب العلم وتشجع عليه، وهذا قدر الله له أن يهيئ له جوًا علميًا وبيئة صالحة تأخذ بيده إلى العلم، حتى صار له شأن عظيم بين الناس، وشاء الله -تعالى- كذلك أن ينشأ ابن حجر- رحمه الله- يتيمًا أباً وأمًا، فحُرم من عطف أبيه وعلمه كما حرم من حنان أمه، إلا أنه –رحمه الله- تغلب على ظروفه وكافح في حياته حتى نال السؤدد بين الناس بالعلم والحديث. نشأ ابن حجر –رحمه الله- مع يتمه في غاية العفة والصيانة والرياسة في كنف أحد أوصيائه زكي الدين الخروبيّ، وهو من كبار التجار في مصر، ولم يألُ الخروبي جهدًا في رعايته والعناية بتعليمه، فأدخله الكتاب بعد إكمال خمس سنين، وكان لدى ابن حجر ذكاء وسرعة حافظة بحيث إنه حفظ سورة مريم في يوم واحد [6]. وأكمل ابن حجر حفظه للقرآن على يد صدر الدين السَّفطي المقرئ، وهو ابن تسع سنين. واصطحب الزكي الخروبي ابن حجر معه في الحج عند مجاورته في مكة أواخر سنة 784هـ، وفي سنة 785 هـ أكمل ابن حجر اثنتي عشرة سنة، ومن حسن حظه أن يكون متواجدًا مع وصيه الخروبي في مكة، فصلى بالناس التراويح في تلك السنة إمامًا في الحرم المكي. ويمكن أن نستقرأ من هذه الأخبار بوادر نبوغ الحافظ ابن حجر المبكرة، والتي تتمثل في إتمامه القرآن صغيرا وإمامته للناس في الحرم المكي وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وهو سن ربما يعتري الأطفال فيه رهبة وخوفا، إلا أن نبوغ الطفل الصغير وذكائه وحسن تربيته ونشأته أهلته لأن يكون كذلك في غاية النباهة والثبات. وبعد رجوع ابن حجر –رحمه الله- مع وصيه الخروبي من الحج سنة 786 هـ حفظ عمدة الأحكام للمقدسي وألفية العراقي في الحديث والحاوي الصغير للقزوينبي ومختصر ابن الحاجب في أصول الفقه ومنهج الأصول للبيضاوي، وتميَّز ببين أقرانه بقوة الحفظ، فكان يحفظ الصحيفة من الحاوي الصغير من مرتين الأولى تصحيحا والثانية قراءة في نفسه ثم يعرضها حفظا في الثالثة ، ويذكر السخاوي أن حفظ ابن حجر –رحمه الله- لم يكن على طريقة الأطفال في المدرسة، وإنما كان حفظه تأمُّلا على طريقة الأذكياء. وظل ابن حجر في كنف وصيه يرعاه إلى أن مات الزكيّ الخروبي سنة 787هـ، وكان ابن حجر قد راهق، فلم تعرف له صبوة ولم تضبط له زلة. وفي سنة 790 هـ أكمل ابن حجر –رحمه الله- السابعة عشرة من عمره، فقرأ القرآن تجويدا على الشهاب الخيوطي، وسمع صحيح البخاري على بعض المشايخ، كما سمع من علماء عصره البارزين واهتم بالأدب والتاريخ. وفي هذه الفترة انتقل ابن حجر –رحمه الله- إلى وصاية شمس الدين بن القطان المصري فحضر دروسه في الفقه والعربية والحساب، وفي سنة 793هـ نظر في فنون الأدب، ففاق أقرانه فيها، حتى أنه لا يكاد يسمع شعرا إلا ويستح