يتمحور الكتاب حول الفلسفة الفردانيَّة وكيفَ تحوَّلنا إلى مجتمع أفراد لا إلى مجتمع تحكمهُ روح المجموعة. كما يتطرّقُ إلى النَّزعة الفردانيَّة من زاوية أنثروبولوجيَّةٍ. يرى دو بروتون أنَّ ذات الفرد قد دخلت في مرحلة من التلاشي والانهيار ولهذا وجبَ تخليصها بخلقِ أدواتٍ تعبيريَّة مختلفة لها، من شأنها أن تقومَ بتحرير الفرد وخلقِ روحٍ مغايرةٍ في داخلهِ من جديد.
Professeur à l'Université de Strasbourg, membre de l'Institut universitaire de France et chercheur au laboratoire Cultures et Sociétés en Europe. Anthropologue et sociologue français, il est spécialiste des représentations et des mises en jeu du corps humain qu'il a notamment étudiées en analysant les conduites à risque.
Es profesor de la Universidad de Estrasburgo y miembro del Instituto Universitario de Francia. Muchas de sus obras se han traducido al español y han sido publicadas por editoriales como Nueva Visión, Seix Barral y La Cifra.
ختم لوبروتون كتابه "اختفاء الذات عن نفسها" بعد حديث طويل عن الانكفاء، والهروب، والعزلة، والتعب، ومحو الهوية؛ بقوله: "الكتابة والقراءة والإبداع بصفة عامة، والمشي، والسفر، والتأمل، كل هذه الأنشطة هي ملاجئ أقل حدة من تلك التي حاولنا مسحها خلال هذا الكتاب" كتاب رائع، ومهم في بابه.
يثقل علينا وجودنا في بعض الأحيان. فنرغب في أن نتحرّر، ولو لمدة محدودة، من الضرورات التي ترتبط به. فكما لو أننا نمنح أنفسنا استراحة من أنفسنا كي نستعيد أنفاسنا، ونخلد إلى الراحة. إذا كانت ظروف عيشنا بلا شك أفضل من ظروف عيش أجدادنا، فإنها لا تعفينا مما هو أساس، أي أن نعطي معنى وقيمة لوجودنا، وأن نشعر بالارتباط بالآخرين، ونحس بأن لنا مكانا ضمن الروابط الاجتماعية. عندما يتخذ المعنى طابعا فرديا، فيحرر من التقاليد والقيم المشتركة، فإنه يرفع كل سلطة. فيصبح كل فرد سيد نفسه، ولا يكون عليه أن يقدم الحساب إلا لذاته. إن تفكك الروابط الاجتماعية يعزل كل فرد، ويجعله مسؤولا عن حريته، وعن التمتع باستقلاله الذاتي، أو أنه، يعمل، على العكس من ذلك، على رده إلى إمكانات باطنية قوية لكي يتأقلم ويضفي على الأحداث دلالان الإحساس بالنقص والفشل الشخصي. إن الفرد الذي لا يتوفر على وقيها، والذي تنقصه الثقة الكافية في نفسه، يشعر أنه عرضة للفشل، فيكون عليه أن يكون سند نفسه لكونه لم يتلق السند من الجماعة التي ينتمي إليها. وغالبا ما يغرق في جو من التوتر والقلق والارتياب، ما يجعل حياته عسيرة. لا تكون لذة العيش متوفرة على الدوام. يطمح كثير من معاصرينا إلى تخفيف الضغوط التي تثقل كاهلهم، وإلى إلغاء ذلك الجهد الذي ينبغي بذله دون انقطاع لكي يظل المرء هو هو على مر الزمن، ومها كانت الظروف، ولكي يكون دائما في مستوى المتطلبات إزاء نفسه وإزاء الآخرين. وحتى لو لم تكن هناك صعوبة ضاغطة، فإن الرغبة تنبع، في بعض الأحيان، في التحرر من الذات، ولو لمدة محدودة، هروبا من رتابة الحياة وهمومها. فكل تخفف مفيد. وهو يمكن، أحيانا، من فك الروابط والتخفف من الضغوط. نسلفا في مجتمع تفرض فيه المرونة الاقتصادية، والعجلة والسرعة والمنافسة والفعالية الخ.. نفسها فأن يكون المرء ذاته لا يكون دائها أمرا من المتيسر، من حيث إنه ينبغي عليه، في كل لحظة، أن يهيئ نفسه لمواجهة العالم، وأن يتلاءم مع الظروف، ويتحمل تبعات استقلاله الذاتي، ويظل في المستوى. فلا يكون عليه أن يولد وينمو ويكبر، وإنها أن يعيد بناء نفسه على الدوام، وأن يظل معباً، فيعطى معنى لحياته، ويرسى أعماله على قيم. ان يكون المرء فردا مهمة عسيرة، خصوصا إذا كان عليه أن يكون هو ذاته. إن السرعة، وتدفق الأحداث، وهشاشة الشغل، والانتقالات المتعددة، كل هذه الأمور تحول دون نشأة علاقات متميزة مع الآخرين، فترمي الفرد في العزلة. وحده تواصل الزمن، ومتانة الروابط الاجتماعية، وتجذرها، وحدها بإمكانها أن تتيح الفرصة لإقامة صداقات دائمة، وبالتالي، أشكالا من الاعتراف على المستوى اليومي. فالعلاقات الاجتماعية عن قرب، على سبيل المثال، تتم بكيفية أكثر سهولة وسيولة، وتكون سريعة الزوال وسطحية، بفعل الحركة الدائبة لساكني الشقق في الدرب أو في الحي. فيصبح من الصعب التعرف على الجيران. ويغدو الفرد الحديث غير مشدود إلى شيء بعينه، فهو يطلب الآخرين، ولكنه يطلب كذلك بعدهم عنه. يذكرنا م. غوشي بأن المواطنة كانت، حتى السنوات الأخيرة، اقترانًا بين العام والخاص. كان على كل فرد أن يتملك وجهة نظر الجميع، وأن يتخذ موضعه كواحد من بينهم، ضمن حركة لا يضيع فيها لا هذا ولا ذاك. أما اليوم، «فإن الفصل هو السائد، وعلى كل فرد أن يثبت خصوصيته أمام مؤسسة العام التي لا يطلب منه في أي لحظة أن يتبنى رأيها. وعلى المكلفين بالمهمة أن يتدبروا الأمر»
يطلق دافيد لوبروتون اسم البياض على حالة غياب الذات نفسها، مهما كانت درجتها حدة، إنها انفصال عن الذات، بشكل أو بآخر، نظرا لما يلقاه المرء من صعوبة أو من عقوبة كي يكون هو ذاته. في جميع الأحوال، تكون هناك رغبة في خفت الضغوط. الوجود لا يعطى بيسر، وغالبا ما يكون مصدر عناء وتعب. حينئذ، يكون البياض استجابة للشعور بالتشبع، وبأن الفرد قد امتلأ عن آخره. إنه بحث عن علاقة مخففة مع الآخرين، وهو مقاومة تواجه مستلزمات بناء هوية في سياق النزعة الفردانية الديمقراطية للمجتمعات الغربية. بين الروابط الاجتماعية وبين العدم، ترسم منطقة وسيطة، وكيفية من افتعال الموت للحظة. في بعض الأحيان، فإن الاكتئاب والإرهاق، وانهيار الرابط المهم بالآخرين، بالحياة الشخصية.
التعب المنشود يمكن للتعب أن يكون موضع اختيار لكي يمحي المرء قليلا، ويستعيد بهجة امتلاء أن يكون هو ذاته بعد الاستراحة، إلا أنه ينبغي، في هذه الحال، ألا يكون مفروضا، «لا نستلذ التعب إلا إذا لم نكن مرغمين عليه. ليس هناك من تعب فرح إلا إذا كنا مغمورين فرحا قبل أن نتعب» (كريتيانChrétien، 1996، 28). هذا ما يكون عليه الأمر عند الانخراط في نشاط بدني شاق، لكنه كأن تمارس البستنة، وتقطيع الخشب، والقيام بمهمة معينة من أجل نفسك أو من أجل الآخرين. من خلال الانخراط في مجهود دائم، و/ أو مع غياب الاستراحة، فإن التعب يكون حالة من أجل الاختفاء، واتحاء مؤقتا بدافع العناء، بحيث يدع المرء نفسه تنزلق برفق في عالم منكمش، حتى ولو لم تكن الإحساسات طيبة. إحدى مزاياه هو أنه يجعل تركيز الذهن أمرا عسيرا. لا شيء يشده، فهو يسري، فيكون من الثقل بحيث لا يمكن حمله. ثم إنه يضعف من هامش المناورة المعتادة ضمن المجال اليومي أو المهني، فيخفف جزءا من المسؤولية. وهو يؤدي بالمرء إلى أن يطفو فوق الأحداث بنوع من مبرر الانسحاب. لا يعود الانخراط المعتاد في الوقائع اليومية متوفرا على وسائل عمله، فالانتباه يتبدد. التعب انفصال، وهو يكون، في بعض الأحيان، من التفاقم حتى يدفع الفرد لأن ينغمس فيه أكثر فأكثر. فيضيع في مهمته، أو أنه يتعاطى أعمالا بدنية أو رياضية طويلة المدى.
في قلب البياض (into the wild 2007 فيلم عن قصته )
حتى وإن لم يكن كريس ماككاندليس Chris McCandless من التائهين، وإنها كان مسافرا في توقف، كان رمزا لذلك البحث عن اختفاء اتخذ في النهاية طريق البياض الثلجي، أي طريق عالم أملس، منتظم، طاهر، تلغى فيه المعالم. هذا الأمريكي الشاب المنحدر من أسرة ميسورة من الساحل الشرقي للولايات المتحدة، هاجر والديه خلال صيف 1990، من غير أن يخبرهما، وذلك بعد حصوله على شهادة نهاية دراساته. في هذه الفترة، أهدى ما وفره إلى جمعية خيرية، وترك سيارته، وكل ما يملكه تقريبا، وأحرق الأوراق النقدية الموجودة في محفظة جيبه. غيّر اسمه فأصبح يحمل اسم ألكسندر سوبيرترامب. ظل والداه يعتقدان أنه لا زال يتابع دروسه الجامعية في جامعة إيمري التي كان مسجلا فيها، إلا أنه كان بالفعل يعيش حياة متشرد، فيعمل على إخفاء مساره من خلفه. ارتبط بالتقليد العتيق للهوبو hobo والتشرد، للعامل المتجول، المتنقل من مدينة لأخرى، بوسائله الخاصة. كانت تحركه رغبة في العودة إلى فلسفة الحياة البسيطة للإصغاء إلى الطبيعة، وكان يريد أن يكون تلميذا لتورو الذي كان غالبا ما يعمل على ترديد أقواله أمام محدثيه. كان يكاتب أحيانا أخته، كما كان يكتب مذكراته. ربط علاقات صداقة قوية مع بعض الأشخاص الذين يلاقيهم. في بعض الأحيان كان يعمل بعض الأسابيع قبل أن يحمل من جديد حقيبة ظهره. بعد مضي عامين من التجوال، انتقل إلى شمال جبل ماككينلي، في بياض الثلج. أربعة أشهر، وجد صيادو الأيائل جثته في بقايا سيارة.
في اليابان على وجه الخصوص، هناك مراهقون وشباب ناضجون يقررون الانقطاع عن العالم. وهم يرفضون كل اتصال مع الخارج، فيضعون أنفسهم خارج الدائرة بأن ينغلقوا في إحدى غرف منزل الوالدين، أو بألا يغادروا قط شقتهم. يبتعدون عن هزات العالم، ويتخلون عن هموم الإنجازات المدرسية، والانخراط في الشغل، بل وحتى الضروريات الأساسية للحياة الاجتماعية. يختارون نوعا من التوحد بأن ينغلقوا في عالم باطني لا تربطه بالعلاقات الاجتماعية أي صلة، اللهم إلا عبر الشاشة. إنهم يشعرون بأنهم أعطوا كل شيء، وأنهم صرفوا كل طاقتهم، وأنهم أفرغوا من جوهرهم. فأن يظلوا رهن إشارة الآخرين، وأن يخرجوا من بيوتهم، لقضاء المهمات الضرورية للوجود في أحضان الروابط الاجتماعية، كل ذلك يتطلب توترا يشعرون أنهم لم يعودوا قادرين عليه. الأحداث من حولهم لم يعد لها من تأثير عليهم، وأسرهم لا تعنيهم، حتى وإن لاحظوا معاناة أقربائهم. إنهم خارج تدفق المعلومات التي تهز العالم بعيدا عن عالمهم الصغير. أحيانا، لا يتمكن والداهم من اقتحام غرفهم، فيدعون صحن الغذاء عند الباب. هي فترة انسحاب قد تطول وقد تقصر. يبلغ عدد هؤلاء نحو 250000، أغلبهم ذكور. إلا أن هذا الانسحاب خارج الروابط الاجتماعية، وهذا الانطواء على الذات، يمتد خارج اليابان، وهو يمس بلدانا أخرى عديدة. يقضي هؤلاء المراهقون أو الشباب الناضج يومهم أمام التلفزيون، أو وحدة التحكم في الألعاب مهملين ما تبقى. وهم يكثرون من النوم، ويقضون حياة بعيدة عن التنقل، متمركزة حول شخصهم من خلال حاسوبهم. لا ينفكون يحاورون آخرين لا يعرفون وجوههم، لأنهم يرفضون كل مواجهة، تجنبا للقاء. أجسادهم لا توجد إلا بشكل افتراضي. وهم يعيشون مثل الرهبان محاطين بأقوى الآلات التكنولوجية التي يجري العمل بها اليوم. أحيانا، وبعد سنوات من النسك الباطني، يعودون إلى الروابط الاجتماعية، ويبذلون جهدهم لتدارك تأخرهم المدرسي أو للبحث عن عمل. في هذه الحالة لا يكون البياض إلا مجرد وقفة لإعادة بناء الذات. في نمط آخر، الأوتاكو (otaku) هم أيضا شباب منسحبون عن العالم، ومنغلقون في فقاعاتهم. وهم يبذلون جهدهم للتواصل مع محيطهم، وهم لا يعترف بهم داخل مجتمعهم، وينغلقون في غرفهم لكي يصبوا اهتمامهم على شغفهم بالتماثيل، ولعب الأطفال، والحواسيب، وألعاب الفيديو، والرسوم المتحركة، والمانجا، أو موضوعات أخرى تحشد جزءا أساسيا من علاقتهم بالعالم، اعتبارا بأن الباقي أمر تافه. وهم يعلمون أنها انشغالات يراها الآخرون تافهة صبيانية، لكنها وحدها هي التي تعطي وجودهم كثافة وشدة.
الاختفاء في الآخر
وجه آخر للاختفاء يتم في الانخراط ضمن طائفة ما، أو في تطرف ديني . ففي مجتمعاتنا الغربية، يجد الاعتقاد تحققه على مستوى الفرد،يحدث انخراط الشاب في الغالب إثر أزمة مع الأسرة، وبهدف النأي لإيجاد مكان آخر بعيدا عنها للاطمئنان. خلال أوقات الأزمة والفشل المدرسي أو الجامعي، وخلال فترة البطالة والانفصال، أو تفاديا لتعذر إضفاء الشاب قيمة على وجوده، هي كلها أسباب تنذر بالانسحاب مؤقتا. لكن الشاب لا يقرر إلا بالنسبة إلى الخطوات الأولى فحسب، لأن الوضع غالبا ما ينفلت منه بعد ذلك. يتراوح عمر مريدي الطائفات، أو الجماعات المتطرفة في الغالب ما بين ثماني عشر وخمس وعشرين سنة، فهم لا يحققون ذواتهم في المجتمع، ويحاولون إلقاء المسؤولية عليه في صعوباتهم الذاتية وتستفيد هذه المجموعات المنغلقة على ذاتها من هفوات الشاب وجروحه المعنوية، إذ تراهن تقنيات الانضمام في الحقيقة على الإحباط والشعور باللامعنى، واللااندماج في المجتمع، وبالنسبة للجماعات التي تصب في الإرهاب، تراهن على الاستياء، وكراهية الآخر من حيث هو المسؤول عن جميع الشرور.
التخدير سعيا وراء الغيبوبة
كان تعاطي الكحول في مجتمعاتنا الغربية أقرب ما يكون الى البحث عن السكر، والخفة، والهيجان، وكان يشكل جزءا من طقوس الفحولة عند الجماعات الذكورية حيث يعد أخذ الكحول بمثابة شهادة تميز . وكان الإناث مقصيات منه، فالتعاطي النسوي للكحول لم يكن قد انتشر بعد، أو كان يتم بكيفية متسترة، مقرونا بصورة سلبية. صحيح أن هذا النوع من التعاطي، بالتأكيد لا زال قائما الى اليوم، بل إنه يتخذ شكلا أكثر حدة. إنه يدل على البحث عن غياب خفيف، ومؤقت، يكاد يكون هذيانا، حيث يظل هناك وعي نسبي، ولكن خارج متطلبات الحياة العادية، يبقى العقل فيه طافيا على السطح، وقد تخفف، كما أن الهموم يتم نسيانها. يدخل الكحول متعاطيه في جو احتفاليه.
عن أزمة الفرد في الأزمنة المعاصرة؛ أو " الهوية وفوضي الأزمنة وتعايشها في حياتنا" ( من أنا، من أكون، ماذا يفترض أن أكون، ولماذا،….؟ وتناقضاتها في بنيته النفسية ووعيه، علي نحو قد تؤدي في عديد الأحيان إلي شروخ نفسية, وأزمة روحية بين زمنه الشخصي والعائلي وفي إطار الجماعة والفردية, وبين زمن حياته اليومية المعاصرة التي يتداخل فيها الزمن الكوني أو العولمي. فالعالم في ذاته، والعالم خارج الذات، لا وجود لهما إلا من خلال الدلالات التي يسقطها الفرد عليهما. وأن الإحساس بأنه هوهو ، وأنه فريد ، ومتماسك وأنه يقف على أرض صلبة، كل ذلك ليس إلا مجرد وهم شخصي ينبغي للآخرين أن يدعموه على الدوام بحسن نية يزداد أو يقل. لا يكف الفرد يولد. وظروف عيشه تبدّله، بمقدار ما يؤثر فيها. إنه يظل هوهو على مر الزمن، في الوقت ذاته الذي يعرف فيه تحولًا بشكل غير محسوس ، وأحيانًا بشكل عنيف تحت نيران الظروف. إنه يتغير لكي يظل هو ذاته. ليست الهوية هي التطابق، وإنما هي العبور.) عن سبل الاختفاء لتحقيق الذات بعيداً عن الهوية الظاهرة وحكم الآخرين ( ألا تعود أحدًا) . عن الأوقات التي تحلو للفرد مع ذاته منفرداً في نشاط ما كالقراءة، أو السفر وحيدًا، أو اللامبالاة كحيلة دفاعية لتجنب الألم وكحجة للغياب. عن فقدان الشغف في أن تكون جزء من الآخر، وتفصيل في حياتهم، أن لا تكون عبئاً أو العصا التي يتوكأ عليها، هي الرغبة التي تخالج النفس أحياناً في التحرر من عبء الوجود ، والارتباطات والمشاريع والرغبات. التخلص من الممارسات الروتينية القديمة لأجل ولادة من جديد في مكان آخر وبهوية أخرى ليبدأ المرء من جديد حياته بمعطى آخر جديد. أن تكون الحاضر الغائب، أن تتلاشى في زاوية يصعب ملاحظتها، منها الاختفاء في الآخر ! ك الانخراط في طائفة ما. عن أزمة المعنى والاحباط والشعور باللامعنى، واللااندماج في المجتمع. عن الهويات الهشة؛ "الفرد هو دائمًا مسلسل متنقل "
والسؤال هو : إلى أي حد يتغير الوعي بالذات مع مرور الوقت وانسياب الزمن؟
اشتغل الكاتب في مادته على العديد من المفاهيم التي تمس الوعي واللاوعي، الهوية واللاهوية، الذات، المعنى واللامعنى. و قدم في مادة الكتاب أشكال أدبية ثرية عن الاختفاء أو الذوبان. كذلك تحدث عن أثر التقدم في العمر ( الشيخوخة) على هوية المرء وعلاقاته بالعالم، وأثرها في روابطه الاجتماعية، وما يصاحبها من أمراض كالزهايمر "الزهايمر كمرض بيولوجي - نفسي اجتماعي" ؛ تلاشي الشخص أو الشخصية من الوجود الذاتي، و عن الآخر. كذلك الإدمان وعلاقته باختفاء الفرد ( الغرق في النشوة ونسيان الألم، وفقدان الاحساس بالزمن والواقع والآخر) .
كتاب جميل في بابه و يطرح في ذهن القارئ العديد من الأسئلة حول الهوية من حيث هي إشكالية وجودية تقع بين حدّي الاطمئنان والفزع، وكيفية التعامل معها في واقع هو سرديتها ؟!
كتاب:اختفاء الذات عن نفسها المؤلف: دافيد لوبروتون عدد الصفحات ٢٥٢ من دار نشر ..صفحة٧
نوع الكتاب علم نفس ، بداية تم شرائه هذا الكتاب في معرض الكتاب في الشرقية- واكثر مالفت انتباهي واخافني في نفس الوقت هو عنوانه،عناوين الفصول جذبتني و كان خوفي في محله عندما بدأت بقراءة المقدمة، يتحدث الكاتب في المقدمة عن الأسباب التي يلجأ لها الاشخاص لكي يخفف أو يختفي أو يتحرر من وجوده ولو كان مؤقتا والبعض دائما في هذا العالم شديد الحركةولما تتعرض لها في حياتهم الشخصية والمهنية من ضغوطات في البحث عن فسحة أو عطلة لكي يتخلص فيها عن روابط من المجتمع المحيط به واطلق الكاتب على هذه الحالة حالة غياب الذات عن نفسها باسم البياض أي انفصال الذات بشكل او بآخر تكون في وضع لا مبالاة يتولد عن صعوبة الحياة وتغيير الاشياء يخترع لنفسه وسائل مؤقته لكي يتخلص من ذاته وذكر أمثلة بالتفصيل في كل الفصول مثل على هذا الااختفاء (بالنوم -التعب المنشود -الانغماس في النشاط الأنشطة -أو الامتناع عن الطعام -الانخراط في طوائف سواء كانت دينية أو سياسية -هجرة المكان -تغيير الهوية-التخدير (الإدمان )-الهوس في العاب التحديات الخطرة التي تؤدي الى الاغماء الللحظي- وذكر الزهايمر الشخوخه و أنها ليست مسألة عمر إنما قويه علاقة بالعالم ونوع من الرفض للواقع هروباً من الذات قد لااتفق مع بعض ماجاء في الكتاب ولكن الموضوع حقيقي ، اخيراً تعليقي بعد تتمت الكتاب.. أن قد تُفاجأ بشخصك أنت او أحد الأشخاص من حولك يمارسون طقوس اختفاء الذات هروباً او رفضاً للواقع وستدرك ان جميع ماسبق من علل وقلق نفسي يعود الى غياب المعنى الحقيقي في حياة الشخص ..
عندما نحس بوطئه الحياة وعبئ الوجود وعندما تثقل كواهلنا هويات مزيفة أكرهنا لتقمصها فإن للنفس مسالكها وسراديبها الخفية لكي تنفلت مؤقتا من واقعها ومن بعدها الاجتماعي وتمحي في الغياب والعزلة رغبة في بداية جديدة، وللذات طرقا عديدة للإمحاء أو الاختفاء منها وفي هذا الكتاب يتناول لوبروتون الطرق الأكثر تطرفا لاختفاء الذات عن نفسها... لحظات حميمة عشتها مع هذا الكتاب منتشيا بالاقتباسات الجميلة ولحظات اختفاء الذات عن نفسها في عالم القراءة... لحظات تنفلت الذات عن نفسها قبل أن تغرق مجددا في عالم ثقيل...
Esta vez Le Breton me dejó mas inquietudes que certezas. Entre la desaparición de sí y la evasión hay una línea muy tenue, que filosóficamente (y sin duda el autor es conocedor profundo de la filosofía continental) se puede diferenciar con claridad y distinción si consideramos los diferentes niveles en que se piensa la autoconciencia: Conciencia de sí, la relación de sí a sí, y la conciencia como síntesis de representaciones del pensamiento. En ese sentido, el punto débil del que ya considero mi autor favorito, es que a la conciencia que se está formando (el adolescente) lo ubica en la desaparición de sí, con ello pienso que la equipara con la evasión y me pregunto si eso es adecuado. También inquieta su tratamiento a los desaparecidos, que hace pensar en las desaparecidas, a las cuales no aborda. En ese rubro entran los migrantes que no pueden ser tratados como transfugas. El doloroso desarraigo no tiene nada de poético. Las demencias de la vejez, en cambio, las muestra como el pulso desgarrador del mundo contemporáneo, en donde el sujeto no puede coincidir con su propio mundo. Poner en liza al "sí mismo", esa certeza casi inobjetable para decirnos que se trata de una creencia a la que damos nuestro asentimiento, es un atrevimiento que no se puede tomar a la ligera. Tenemos que plantearnos muy seriamente la tarea de reflexionarlo.
مضى وقتٌ طويل لم أقرأ كتابًا مهمًا في موضوعه ومتَجاهل في الأوساط الاجتماعية. ولأني مؤخرًا ومؤخرًا فقط أصبحت أهجو الفردانية في هذا الزمن فأنا معجبة بما قدمه الكتاب خصوصًا التفصيل عنها في المقدمة، وأتمنى أن يُطرح الأمر بكثرة وكثافة. أعلم أحيانًا نكون مضطرين لهذا النمط ونُساق إليه غصبًا، إلا أنني لا أستطيع انكار فداحة تبعاتها على الفرد والمحيط به.
أريد أن أقرأ المزيد من كتب دافيد لوبروتون، هذه هي الخطة!
Realmente no sabría decir algo mucho mejor que la sinopsis de la contraportada. Pero puedo recomendarlo a todo aquel que empiece a interesarse en el tema. Es corto y presenta ejemplos de fenómenos que denomina "desaparición de sí", "búsqueda de la blancura", etc. (como pueden ser algunos ejemplos de la adolescencia con las drogas o la autoasfixia), otros como la desintegración de la identidad en el Alzheimer, otros que surgen como mecanismos psicológicos de protección (renunciar a diversas formas de responsabilidad, trabajo, estudios, familia, o cargas de todo tipo, con muchos ejemplos literarios), desorientación existencial, etc., etc.
El autor es antropólogo/sociólogo, y aunque no haya yo leído textos de antropología, diría que se nota que no es un filósofo, ni un politólogo, o un psicólogo puro. No es que sea un libro erudito o de investigación. Tiene otros libros escritos sobre algunos de los asuntos de los que habla aquí que parece que profundicen más (aunque no todos están traducidos al español). Me pareció interesante ver recogidos en un mismo libro estos diversos fenómenos. Toda esta serie de "salidas" a nuestros problemas, o todos estos callejones sin salida, parecen ser algo menos extraño cuando se juntan de esta manera. Podríamos imaginar un panorama de códigos e instituciones sociales, comportamientos fuera de lo aceptable, responsabilidades, etc. aunque solo sea desde esta esquinita que presenta el libro. (También podría ser falso lo que estemos imaginando en un plano general: Marc Cejalvo)
« Exister par intermittence, avec des phases de retrait, et non plus dans la continuité de soi. Déni chimique de la réalité, quête symbolique du coma, de la blancheur pour ne plus être atteint par les aspérités de l'environnement. Emprisonnement du temps dans les effets recherchés d'une molécule, même s'il faut pour cela se démettre de soi au profit de la régulation chimique. Qu'il s'agisse de toxicomanies, d'alcool, ou d'usages de solvants, la quête est celle de l'absence. »
Très fort et parfois dur à lire (moins à cause du style d’écriture que du contenu), Disparaître de soi est un livre qui fait longtemps regarder le plafond après avoir fini un chapitre. Tombé au bon moment.
This book isn't the result of one or several sociological surveys, rather thoughts about several social evolutions Le Breton rallies under the same standard of "whiteness": the way a person somehow withdraws from oneself (some kind of mild depression, "Bartleby syndrome", people choosing to "disappear", teens and binge drinking, Alzheimer disease, etc.). He is refering to Alain Ehrenberg's theory on the weariness of the self as the new malaise in our post-modern societies. The reasoning is a bit loose but it makes sense nevertheless. PS : Le Breton's prose is a much more pleasant read than Ehrenberg's!
من أفضل الكتب التي تحدثت عن موضوع امحاء الفرد عن نفسه .. قرأت هذا الكتاب في ظروف صعبة استطعت رؤية نفسي فيه و بعض من تصرفاتي في الآونة الأخيرة جسدتها الحروف .. بقدر ما الموضوع مهم لنا كأفراد لنفهم انفسنا و الآخرين بقدر ما الموضوع مؤلم و صعب الخروج منه أتمنى في يوم من الأيام إيجاد الفرصة لإعادته ... كما أتمنى ان أجد طريقة لمحاربة هذا الإختفاء الذي اعاني منه الفترة الأخيرة .
فكرة الكتاب تبدو طريفة لكنه يخلو من تحليل صراع الذات مع الظروف وأيضًا من رصد الضغوط اللي تكبت الذات حتى تختفي أو حتى من ممارسات وأفكار التهرب من ثقل الشعور بالذات يتكلم من زاوية سلبية عن النوم والزهايمر والكحول واللهو ماذا إذًا عن اختفاء الذات في الحبّ والفنّ والعبادة ونحوها المعالجة واللغة ضعيفة
كتاب جميل للأنثروبولوجي المعاصر لوبرتون يحلل فيه ظاهرة عبّر عنها بالبياض، وتعني حالة من الرغبة تجتاح الإنسان في أن ينزوي ويتلاشى ويبتعد ويختفي هربًا من إكراهات الهوية والالتزامات العملية والاجتماعية كي يولد من جديد.
لعل في عنوان الكتاب ما يوحي عن مضمونه إختفاء الذات عن نفسها، البعض يعتمد على الغياب المادي والآخر الروحي وما بينها يتوه الفرد سعيًا في محو الذات، وفي كل تجربة يُسقط معنى لذلك التيه والاغتراب. أتذكر حين قال كافكا "في معظم الأوقات، من نبحث عنه بعيدًا، يقطن قربنا" ماذا لو تعلم الإنسان أهمية أن يختلي بنفسه حتى يعيد تقييم الوجهة والقصد في خضم هذه الحياة السريعة والمتقلبة؟ ذاتك بالقرب منك فقط أحسن الإنصات لها ! في نهاية الكتاب قال دافيد لوبروتون " الكتابة والقراءة والإبداع بصفة عامة، والمشي، والتأمل، الخ. كل هذ الأنشطة هي ملاجئ أقل حدة من تلك التي حاولنا مسحها خلال هذا الكتاب. إنها فضاءات لا يكون فيها على أي كان أن يقدم الحساب ويخضع للمساءلة، إنها فضاءات تعطيل ميمون، سعيد ومبتهج بذاته، وهي طريق غير مباشرة تعيدك إلى نفسك، بعد بضع ساعات أو بضعة أيام أو أكثر. وهي وسائل متعمدة لاستعاد الحيوية والحياة الحميمية، واسترجاع طعم الحياة" هنا يتتبع دافيد لوبروتون أساليب وأسباب التخلي عن الذات والسعي في محوها عند الإنسان الحديث، كتاب رائع.
الاختفاء في النظر إلى العالم من زاويا مغايرة عن الحقيقة التي لا نريد تذكرها ، نصنع لنا قوقعتنا الخاصة نسميها البياض أي حالة غياب الذات عن نفسها من خلال أنشطة معينة يسرف بها الانسان كل وقته وطاقاته سواء كانت عادة سلبية أو إيجابية كالادمان بكل حالاته التعصب ، الانهيار في العمل أذ يصبح الشخص فاقد للسيطرة على وعيه في توزيع مهامه اليومية يكون كل يومه عمل بلا فترات راحة أو اهتمام بالجسد، من بدايات نمو الفرد طفولة ومراهقة الى مراحله الأخيرة في الشيخوخة يتعقب الكاتب أشكال اختفاء الذات عن نفسها بشرح دقيق سلسل وممتع ممزوجاً بالأدب والفلسفة والسينما .. كانت رحلة مثمرة .
اقتباس: إذا كان الحلم ملاذه للاحتماء من قسوة العالم فإنه كان يحدد له ملامح الواقع، إنه يُؤخذ ضحية لعبته الخاصة من غير أن يكون مخدوعًا. كتب :(عندما كنت طفلاً، كان عندي ميل أن اخلق من حولي عالماً وهمياً، وان أحيط نفسي بأصدقاء ومعارف لم يسبق وجودهم، منذ عرفت نفسي على أنني ما ادعوه أنا، أذكر أنني قد حددت في ذهني مظهر كثير من الشخوص اللاواقعية، وحركاتها ومزاجها وحكايتها، كانت بالنسبة إليّ مرئية هي كذلك، فكنت أمتلكها مثلما امتلك أشياء ما ندعوه، عن خطأ ربما، الحياة الواقعية.
________
ان يهجر المرء ذاته، مسلماً نفسه لحركة الشوارع، متحولاً إلى مجرد عين ترى، كان يمكنه أن يفلت من ضرورة التفكير، وهذا ما كان، اكثر من أي شيء آخر، يجلب له جزءاً من السلام، وفراغًا باطنياً مخلصاً. كان هذا كل ما كان يطلبه من الأشياء: أن يكون في لا مكان.
_________
إن تجربة البياض هي تجربة الموت والولادة من جديد، ليس فقط عن طريق اللعب بقدر متجدد باستمرار ولكن أيضاً من خلال المرور المقصود إلى فضاء المعنى الذي لم يعد ذاك الذي للوعي العادي أو المألوف، دون ان يكون هو وعي الموت كلية.
__________ ✨أضفته لقائمة سيقرأ مرة ثانية يوماً ما. ✨
" الذات هي التي تصنع مخدرها" في المجمل الكاتب أراد التركيز على حالة تصيب جميع البشر بدون استثناء وهي الرغبة في التخلص من الذات شرح بالتفصيل أولا ماهو فصل الذات عن الواقع وأطلق عليه مصطلح "بياض" وهي انفصال مؤقت وبعض الأحيان يكون دائمي عن أي ارتباط اجتماعي و أي تواصل وأي عمل، شرح أشكال هذا البياض و الطرق المتبعة في مجتمعات الغرب لخوضه منها المخدرات و النوم و الخمور و حتى الانعزال للقراءة والكتابة ، كلها تنحصر لتخفيف الألم الناتج من تعدد الذوات و الحيوات داخلنا بسبب اضطرار كل فرد أن يحوي ذوات متعددة و أقنعة تناسب مصالحه مع المجتمع ، ف ذاتك مع العائلة تختلف عن ذاتك مع المجتمع و مع زملاء العمل و غيرها. الجميل في الكتاب هو أنه شرح بعض التفاصيل بواسطة التطرق لروايات متنوعة و أفلام عالمية و حتى علماء قرروا هجران كل شيء و الانغلاق على ذاتهم فقط - الذي يعطي للكتاب أهميته هو سهولة مفرداته و شرحه المبسط بدون تعقيد و متعة الاقتباسات و قصص الروايات المتطرق لها و ضرب أمثلة عن واقعنا الحالي.
عند الشروع في قراءة الكتاب، كنتُ أتهيأ لمواجهة أطروحة فلسفية جافة عن الاغتراب المعاصر، غير أنّ العمل سرعان ما كشف عن نفسه بوصفه نصًّا أكثر عمقًا وقلقًا وإثارة مما توقعت؛ نصًّا يخترق بأدوات تحليل دقيقة وشديدة الوضوح المظاهر المتطرّفة والملتبسة للرغبة في التلاشي من ثقل الذات، لا باعتبارها حالة شعورية عابرة من الانفصال، بل كخيار واعٍ أحيانًا، ومستميت في أحيان أخرى، لإخماد ضجيج الهوية، وتثاقل المسؤولية، وإملاءات المجتمع. ولعلّ أكثر ما جعل الكتاب آسرًا هو جرأته على تتبّع أشكال هذه الرغبة حتى في أكثر صورها خطورة، متجاوزًا حدود التنظير ليعرضها كخبرات ملموسة يعيشها الأفراد بأجسادهم وعقولهم. لقد وجدتُ نفسي وأنا أقرأ حديثه في النوم كملاذ مؤقت، انسحاب لطيف لبضع ساعات من قسوة الواقع، لأكتشف مع لو برتون أنّ ما أراه هروبًا صغيرًا ليس سوى نقطة على خط متدرج يمتد نحو مناطق أشد قتامة وراديكالية.
يقدّم المؤلف طيفًا واسعًا من طرق التلاشي، من الانسحاب المادي التام عبر مغادرة الحياة فجأة بلا أثر، إلى الانمحاء الرمزي الذي يُمارس على الجسد والعقل. فالمغامرات الخطرة، على سبيل المثال، لا يقرؤها بوصفها بحثًا عن مجد، بل استراتيجية لإلغاء الذات عبر لحظة قصوى تمحو كل ما قبلها. والأنوركسيا محاولة لجعل الجسد نفسه يتوارى شيئًا فشيئًا، فيما الإدمان يتجلى كحملة منهجية لتفكيك الذات كيميائيًا وصولًا إلى حالة العدم. وحتى الأفعال التي تبدو أبسط، مثل البحث المتعمّد عن الإرهاق أو الانغماس في ألعاب تكرارية، تُفهم هنا بوصفها سعيًا لمنح الذات فسحة من البياض، أي انقطاع مؤقت عن العالم. ويستحضر الكاتب مثال فرناندو بيسوا الذي خلق هويات متعدّدة ليصبح في النهاية لا أحد بعينه، كما يذكّرنا بإميلي ديكنسون التي اختارت الانسحاب الكامل من الحياة الاجتماعية لتبلغ حالة من الوجود لغير أحد. أما أعتى صور الاختفاء وأكثرها مأساوية، فيجدها في داء الزهايمر، حيث يتعرّى الكائن تدريجيًا من ملامحه الفريدة قبل موته الجسدي.
إنّ ما يميز مقاربته هو تعاطفه السوسيولوجي والأنثروبولوجي مع هذه الحالات، بعيدًا عن أي نزعة للحكم الأخلاقي. فهو يضع إغراء الاختفاء في سياق عالم يحتفي بالنجاح الفردي في الوقت الذي يراكم فيه مستويات غير مسبوقة من القلق والعزلة وضغط الأداء. بهذا المعنى، تصبح الرغبة في التلاشي استجابة متناقضة لإكراه الظهور الدائم كذات ناجحة ومحدّدة. وهو يرى أن هذه الظاهرة ليست فشلاً أو مرضًا بالمعنى التقليدي، بل داء صامت يتسرّب في حياة الكثيرين دون أن يُسمّى، وينبثق من انهيار العلاقة الحيوية بين الذات والعالم والآخرين والزمن.
في قلب هذا العمل يبرز مفهوم البياض كشغف بالحضور الغائب، عطش للندرة في عالم فائض. ومن خلاله يعيد لو برتون قراءة الاكتئاب والاحتراق النفسي لا بوصفهما أعطابًا، بل بوصفهما آليات بقاء متناقضة، انسحابات قسرية من وجود مُستعمر بعجلة لا تنتهي، توقفات ضرورية تمنح الذات فرصة لاستعادة التوازن والمعنى. وفي قراءته للسلوكيات الخطرة عند المراهقين – من المخدرات إلى التشرّد – لا يفسّرها كنزعة انتحارية، بل كصرخة حياة، كاختبار يائس ضد الفوضى الداخلية، حيث الغاية ليست الفناء بل احتمال البقاء.
هكذا يكشف الكتاب أنَّ الذات ليست جوهرًا ثابتًا بل علاقة متحركة مع العالم، وأنّ إغراء الاختفاء هو انعكاس مباشر لتصدّع هذه العلاقة. لقد تجاوزت قراءتي له حدود الفضول الأولي، إذ حوّل شعورًا غامضًا بالضيق المعاصر إلى ظاهرة ملموسة قابلة للفهم والتحليل. ومن إدراك هروبي الصغير إلى النوم، وجدت نفسي أواجه وعيًا أكثر إزعاجًا: أن هناك من يمضي إلى حدود قصوى، حيث يصبح الصمت الأبدي أو الانسحاب النهائي أشبه بالحل الوحيد الممكن.
يأخذنا دافيد لوبروتون فى رحلة شيقة مع بداية الإنسان فى أن يثبت خصوصيته فى هذا العالم مع الاحساس بالذات و إنتصارها أمام متطلبات الحياة الاجتماعية و حالات البياض المتمثلة فى كل حالات الاختفاء التى يمكن أن يسلكها الإنسان هروبا و إنسحابا من كل شئ بداية من الروابط الإجتماعية حتى تلاشي هويته و قد تعرض للحديث عن الانفصال عن الأهواء و الرغبة فى عدم الانسياق وراءها كا نوع من أنواع الزهد الرواقي و تناول أيضا مسألة " أن الفرد فى بعض الأحيان لا يجد مكانه فى العالم فيحس بأنه مختلف و أنه غير معنى كثيرا بالحركات التى تجرى من حوله بما أنه يكون غارقا فى منفى باطنى .. وصولا لأنه يقتصر على العيش فى عالمه الخاص .. و تحدث عن ماجورانا و ظروف اختفائه إلى الآن و تناول أمثلة مثل : روايات بول أوستر و كيف أن شخصياتها متغيبة عن ذاتها .. و أخيرا تناول الهويه من نحو وصفها بأنها جوهر الذات و انتهاء بتلاشي الهويه و غيابها و مشكلاتها ثم ختم عن طريق استطراقه لفكرة الوعي و الهوية الديكارتيه و استشهد أيضا بقول كانط الذى أعجبني كثيرا ( إن الناس لم يصنعوا من الأخشاب الصلبة و المستقيمه التى نصنع منها أعمدة البناء) فى المجمل كتاب رائع جدا جدا جدا و لكن ملحوظه أخيرة و هي أنه يمكننا الاختفاء دون أن نطمس هويتنا أو نتعرض للمخاطر و ذلك عن طريق الابداع مثل القراءة والكتابة و المشي و التأمل ..إلخ كما نوه المؤلف عن الابداع فى اخر الكتاب .
كتاب يتكلم عن الذات وطرق اختفاءها المتعددة والمتنوعة ، من نوعية الكتب التي تنتهي منها وانت راغب في اعادة قراءتها مرة اخرى في وقت لاحق .. أحببته بسيط ويصل لك بسهولة ، أحببت كل اقسامه وبالأخص أشكال الاختفاء الأدبية 💙
هل هناك فعلا من يرغب في الانسلاخ عن ذاته والتحول الى شخص اخر غير ذاته الحقيقية، دون ان تكون هذا الرغبة نانجة عن اي دوافع مرضية، سواء نفسية او ذهنية؟ طبقا للكاتب، الاجابة هي نعم، وبكثافة.
يستعرض المؤلف حالات متعددة لأناس قرروا ان ينسلخوا عن ذواتهم من خلال عدة وسائل، كالتقوقع داخل غرفهم، استهلاك المخدرات، معاقرة الخمر، الاختفاء وراء شخصيات مزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، او الانقطاع التام عن عائلاتهم ومعارفهم، وغيرها من الوسائل المتاحة لمن فقدوا معنى الحياة.
كما يقدم الكاتب اجابات غير شافية عن الاسباب الرئيسية التي تدفع هؤلاء الى العزلة. لكن السبب المشترك بينهم في هروبهم عن انفسهم هو انعدام قدرتهم على التقرب من ذواتهم والتعرف عليها واستكشاف إمكاناتهم الانسانية.