يقدم بطرس البستاني في هذا الكتاب تأريخًا أدبيًّا يتناول فيه أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام في حياتهم وآثارهم، ولا يكتفي بالوصف بل يتجاوز ذلك إلى النقد، وقد استهل البستاني كتابه بلمحة تاريخية عن العرب وديارهم، حيث بَحَث في جغرافيتهم، وأصولهم التي انحدروا منها، وتنوع قبائلهم، ثم تطرق إلى السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أفرزتهم، وهو بهذا المعنى يقدم لنا رؤيةً تحليليةً ونقديةً عميقة لهؤلاء الشعراء والأدباء.
تسعة أعشار الكتاب حديث عن الشعر والشعراء، مذ تبلور الشعر كفن جاهلي مستعص بأوزانه وقوافيه إلا على القليل، يتقلب مع الشعر بتقلب أغراضه وأزمنته، ويستعرض قصص الشعراء وحكاياهم مع غرمائهم أو مع محبوباتهم، ويتتبع تأثر الشعر ببداوة الشاعر أو تحضره وتقربه من ذوي السلطان.
قليل وصلنا من كثير ضاع وامحى، في مجتمع لم يكن يعرف للتدوين والكتابة طريقا، بل كان يستعيض عن كل ذلك بمخيلة وقادة تكاد تحفظ كل شيء، فحفظت لنا السبع الطوال ومديح النابغة في أولياء نعمته، وهجو الحطيئة على شبع بطنه وتهاجي جرير مع الأخطل والفرزدق، وحفظت لنا تغزل جميل بن معمر ببثيناه وتشبيب عمر بن أبي ربيعة بالحسان القاصدات مكة للحج، كما خلدت لنا خمريات الأعشى ولامية الشنفرى ورثاء الخنساء والمهلهل في أخويهما، ومدافعة كعب بن زهير وحسان بن ثابت مشركي قريش وشعرهم. ويعمل الكاتب هنا -وهو العربي محتدا والمناوئ ديانة- نقدا مستظرفا لكل ما شذ من الروايات والأخبار عن أحوال هؤلاء مما نحله الرواة سهوا أو إغراضا تزلفا للخلفاء من بني أمية.
بعيدا عن الشعر والشعراء ثمة ألوان أدبية أخرى لا تقل بلاغة وإعرابا يتصدى لها الكاتب ولأصحابها، إذ طالما اشتهر الحجاج الثقفي بخطبه الرنانة في رؤوس العراق التي أينعت، ويخلد التاريخ ذكر علي بن أبي طالب في خطبته الجامعة "البتراء"، كما نبغ في الكتابة عبد الحميد وإليها نسب، وفي الرواية برع حماد وبها انتسب كذلك "الراوية"، وحسبنا هنا أنه ألقى 2900 قصيدة جاهلية في مجلس واحد يوم امتحنه الوليد بن يزيد، ولا عجب في ذلك، يوم كان العربي يلقي الشعر سليقة، ويأبى اللحن في الكلام، وكانت العربية تجري منه مجرى دمه.
هذا كتاب أدب وتاريخ ونقد عرض فيه مؤلفه للعصر الجاهلي وصدر الإسلام والعصر الأموي ، استأثر الشعر بالنصيب الأكبر فيه. يمتاز الكتاب أنه كتب بلغة جميلة سلسلة يذكر أهم شعراء وخطباء وكتاب كل عصر فيعرض لعصرهم وأحواله ويترجم لهم ويذكر ما امتازوا به ويختار أهم نتاجهم الأدبي فيشرحه وينثر معانيه مقرباً لها إلى القارئ المعاصر وهو أجمل ما في الكتاب وأظن أنه مفيد للمبتدئ ولمن يريد أن يمر على هذا الأدب مراً سريعاً في صورة حسنة. وهو في هذا قد ينقدهم ويعرض روايات مختلفة وهو في الجملة كتاب حسن ومؤلفه نصراني ولم يعجبني أسلوبه في عرض تاريخ الصحابة. هذا الكتاب أول تجربة لي في جهاز الكيندل وقد حملته من موقع هنداوي وللأسف أنهم لم ينقلوا أغلب المختارات الشعرية والنثرية في الكتاب فذهبوا بشطر حسنه للأسف فاضطررت إلى الرجوع للنسخة الورقية. أما الكيندل فهو جهاز عظيم.