First published in 1978 Nasser and His Generation is one of the most important books on modern Egyptian history. It goes much further than a simple history of the Nasser regime or a psychobiography of the Egyptian ruler. It examines his personality, attitudes and beliefs and how these were informed or acquired and seeks to explain what and who he was. But it also considers Nasser to be a representative of a generation of Egyptians, many of whom rode on his bandwagon to power, serve him, and then more or less promptly forgot him. The first two parts set the scene for the emergence of the military regime, highlighting the disintegration of the old political order which the Free Officers overthrew in 1952. Part Three deals with Nasser in his several capacities as absolute ruler of Egypt and his relations with Arabs, Israel and the rest of the world. Part Four provides a depiction of Nasser as the absolute ruler and Part Five attempts a general assessment of Nasser’s personality and his impact on Egypt. Based on archival sources and extensive interviews with many of his associates, closest members of his family and his deepest enemies, this volume is a must read for any student of political history, African studies, Middle East studies and political science.
Panayiotis Jerasimof Vatikiotis was an American political scientist and historian of Levantine Greek origin. He was an internationally respected scholar who specialized in the modern history of the Middle East. Professor Vatikiotis was a graduate of The American University in Cairo, and earned his doctoral degree at Johns Hopkins University. He taught at several universities, among them UCLA, Princeton, Indiana University and his alma mater AUC; he was a prolific writer and editor throughout his career. At his death, he was Emeritus Professor of Politics at the School of Oriental and African Studies, University of London, where he had also taught for many years.
لا يعتبر هذا الكتاب سيرة ذاتية لجمال عبد الناصر بقدر ما هو مرآه لعصره، وتسليط للضوء على أهم العوامل التي شكلت عقلية وفكر عبد الناصر ورفاقه وجيله بشكلٍ عام، مع محاولة لتشريح وتحليل شخصيته المركبة. بدأ الكتاب بعرض سريع للمعلومات الأولية عن عائلة عبد الناصر، ومولده ونشأته، وعلاقته المتوترة بوالده كثير التنقل والذي تزوج بعد وفاة والدة جمال، وانتقاله المتكرر ما بين القاهرة والإسكندرية، ومشاركته في المظاهرات والاحتجاجات الطلابية، وسعيه بعد معاهدة 1936 لدخول الكلية الحربية ثم كلية البوليس وفشله في ذلك ليدخل كلية الحقوق، ثم يعاود الكرة وينجح في دخول الكلية الحربية عام 1937. تحدث عن أهم الكتاب والمفكرين الذين تأثر عبد الناصر وجيله بكتاباتهم في هذه المرحلة وجعل على رأسهم العقاد بعبقرياته الإسلامية، والحكيم برواياته المرتبطة بالتراث الفرعوني، أو الروايات الناقدة للاستعمار وأحوال المجتمع مثل عودة الروح، وإليهما أهدى مقدمة كتابه فلسفة الثورة. وأشار الكاتب إلى أن عبد الناصر بشكلٍ عام كان – وظل – شغوفاً بقراءة ومتابعة الصحف والمجلات أكثر من الكتب. كما أشار لأهم الأحزاب والحركات المؤثرة على شباب هذه الفترة وأغلبها حركات راديكالية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وحركة – ثم حزب - مصر الفتاة‘ بالإضافة إلى الأحزاب الشيوعية، وأنه من الملاحظ أن أغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة كان إما منتمياً – أو سبق له الانتماء – إلى إحدى هذه الجماعات. أفرد الكاتب فصلاً للحديث عن جماعة الإخوان المسلمين أشار فيه لمدى انتشارها في المجتمع وداخل الجيش ودورها في حرب فلسطين وفي الكفاح المسلح في القناة، وإن أشار إلى أن الجماعة – قبل حلها على يد النقراشي – كانت تحظى بتعاطف، بل وبدعم حكومي، بما يوحي أنه في إطار سعي القصر لاستغلال قوة الجماعة إزاء الأحزاب والوفد. وأفرد الكاتب قبل ذلك فصلاً خاصاً – أعتبره من أهن فصول الكتاب - للحديث عن مصر الفتاة ومؤسسها أحمد حسين، وهي كجماعة راديكالية معادية للاستعمار قد حظت بتعاطف ونوع من الدعم من بعض كبار قادة الجيش الوطنيين كالفريق عزيز المصري واللواء صالح حرب، أو الساسة كعلي باشا ماهر، ويشير الكاتب إلى خضوع الحركة أحياناً لبعض أشكال الاستغلال من القصر وبعض الساسة وعلى رأسهم علي ماهر، وكذلك تلقيها تمويلاً من العملاء الإيطاليين وكذلك المخابرات البريطانية، وفي رأيي أنه إن كان من المفهوم ما يخص القصر والإيطاليين (من منطلق العداء المشترك للإنجليز)، فإن التفسير الوحيد للتمويل من المخابرات البريطانية أنها كانت محاولة لشراء الحركة واستقطابها، لكن سلوك أحمد حسين يوضح أنه لم يبع نفسه ولا حركته للعدو. أشار الكاتب لتطور خطاب الحركة وسياستها وتحولها من حركة إلى حزب سياسي، وتطور الخطاب من الوطني القومي إلى الإسلامي الاشتراكي، وتكوين فرق القمصان الخضراء والدعوة إلى نشر الروح والثقافة العسكرية بين أفراد الشعب، والإيمان بأن الكفاح المسلح هو الطريق للتحرر، والدعوة صراحةً لذلك، وبدء اللجوء للعنف ومحاولات الاغتيال ومنها محاولة اغتيال النحاس، والمشاريع الاقتصادية التي دعت الحركة لها ومنها بناء سد بأسوان، وتحويل مصر إلى مجتمع صناعي، والمناداة بمجانية التعليم..إلخ. ومن المتفق عليه لأي مطلع على سيرة عبد الناصر هو أنه كان مرتبطاً بكل الحركات السياسية الراديكالية قبل الثورة، بما يوحي لكل حركة أنه كان عضواً منتمياً لها، لكنه في الحقيقة لم يكن منتمياً إلا لنفسه، لكن التفاصيل سابقة الذكر عن فكر وأهداف مصر الفتاة تجعلنا نتفق مع الكاتب في أن هذه الحركة كانت أكبر مؤثر على رؤية وفكر عبد الناصر، بدليل سعيه لتطبيق أغلب المشاريع التي دعت إليها، واحتفائه ببعض قياداتها وإسناد بعض المناصب إليهم مثل فتحي رضوان – وإن لم يسلم آخرون من الاعتقال شأنهم شأن غيرهم – كما أن عبد الناصر نفسه قد أشار في بعض خطبه لانضمامه لمصر الفتاة بالفعل. ويشير الكاتب إلى أن أحمد حسين قد سعى لإدخال عدد من الشباب المنتمين للحركة للكلية الحربية وكان منهم عبد الناصر، وإن كان لم يجد دليلاً على أن الحركة هي التي نجحت في جعله يُقبل بالكلية عند تقدمه للمرة الثانية، وهذا السعي لمد أذرع للحركة داخل الجيش يذكرنا بمحاولات مثيلة في سوريا لساسة من أشهرهم أكرم الحوراني والتي أدت لتسييس الجيش بشكلٍ كبير، وأعتقد أن المثال في الحالة المصرية كان أقل نجاحاً، وإن كان هذا الجيل من الضباط قد تشكل وعيه في خضم الصراع السياسي بين الأحزاب والحركات وفي ظل فساد القصر وسطوة الاستعمار، لكنهم بعد أن وصلوا للسلطة، جففوا كل منابع السياسة التي قد تسمح بوجود أجيال مسيسة مثيلة بين الضباط قد تنقلب بدورها في المستقبل، أي أنهم وصلوا للسلطة على مطية السياسة ثم عقروها، أو كما قال القائل: أخدوا السلم معاهم لفوق. تتعرض الفصول التالية من الكتاب إلى المحطات الرئيسية في حياة عبد الناصر وجيله، من نشأة تنظيم الضباط الأحرار، إلى الثورة والإطاحة بالملك، إلى نجاح عبد الناصر في التخلص من خصومه والانفراد بالحكم، وصولاً لأهم ما واجهه عبد الناصر من أحداث خلال مرحلة حكمه المطلق (العدوان الثلاثي – الوحدة مع سوريا – القومية العربية - التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية – العلاقة مع إسرائيل..إلخ)، اعتمد فيها الكاتب على ما اطلع عليه من كتب ومقالات وخُطب، بالإضافة للمقابلات الشخصية مع عدد من الشخصيات المرتبطة بعبد الناصر. وكان من أهم هذه الفصول الفصل الخاص بالحكم المطلق والذي فصل مظاهر هذا الحكم وشهادات بعض زملاء عبد الناصر من مجلس قيادة الثورة على نزوع عبد الناصر إلى التحرك المنفرد حتى من قبل الثورة – مثل محاولة اغتيال حسين سري عامر – وكذلك ترتيب الأمور بحيث تنتهي النقاشات في مجلس الثورة إلى تحقيق إرادته الشخصية ورؤيته. وكان من الفصول المهمة أيضاً الفصل الذي جمع تقييمات عدد من المفكرين للحقبة الناصرية، مثل لويس عوض وتوفيق الحكيم وفؤاد زكريا، وكان من أهم ما لفت نظري في تقييم لويس عوض هو قوله أن الناصرية على نحو ما قدمها عبد الناصر هي مفهوم سلبي، حيث قال"كانت مسيرة عبد الناصر بأسرها تقصد إلى تدمير هذا الشيء أو ذاك، ولم تعمد إلى بناء أو تأسيس شىء ما"، ويمكن التأكيد على ذلك بمحاكمة مباديء الثورة الستة، فلو سلمنا بنجاح البنود السلبية الثلاث المعتمدة على القضاء على الاستعمار والاقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم – وأعتقد أننا الآن يمكننا أن نقول أن حتى هذه البنود لم تنجح - فإن الثورة لم تنجح بدورها لا في إقامة جيش وطني قوي، ولا تحقيق عدالة اجتماعية بالشكل المرجو، وبالتأكيد لم تقم حياة ديمقراطية سليمة. يجد القاريء في مواضع مختلفة تذكيراً بأن هذا الكتاب نُشر عام 1978، أي بعد سنوات قليلة من وفاة عبد الناصر، وهو ما يثير إشكالية الكتابة عن الحدث التاريخي، وهل يمكننا أن نتناول حدثاً تاريخياً بالدراسة والبحث والتحليل، وهو لم يمضِ عليه سوى سنواتٍ قليلة، بما يصاحب ذلك من نقص في المراجع والمصادر وفي مقدمتها الوثائق التي لم تُنشر بعد، أضف إلى ذلك أننا نعلم أنه بعد صدور هذا الكتاب قد صدرت العديد من الكتب التي تعرض السير الذاتية والشهادات والاعترافات لشهود العصر من المحيطين بعبد الناصر، سواء كانوا من الضباط الأحرار أو من عمل بالقرب منه أو حتى خصومه، وهذه الإشكالية تناولها ويليام شايرر في مقدمته لكتابه (صعود وسقوط الرايخ الثالث) والذي نُشر في منتصف الخمسينيات بعد أقل من 10 سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية، وذكر أن بعض المؤرخين يقولون أنهم الآن فقط – أي في منتصف الخمسينيات – يمكنهم أن يتناولوا بالدرس والكتابة التاريخية مرحلة الحروب النابوليونية، لكنه جادل في أن عمله يتميز بعوامل عدة، منها كونه شخصياً أحد شهود العصر لعمله في ألمانيا خلال فترة صعود هتلر ومتابعته لذلك، ولتمكنه من لقاء عدد من القادة والمسئولين الأحياء سواء من الحلفاء أو الألمان، بالإضافة لتمكنه من الاطلاع على كم كبير من الوثائق التي استولى عليها الحلفاء. وعليه،فإن الدراسات قريبة العهد من الحدث – مثل الكتاب الذي بين أيدينا – لن تخلو أبداً من فائدة، فالكاتب تمكن من اللقاء المباشر والحديث مع عدد من الساسة والمفكرين والمسئولين المحيطين بعبد الناصر وكذلك بعض أفراد أسرته، كما أنه أقام بمصر لفترة فكان على قدرٍ لا بأس به من الاطلاع والفهم للمجتمع وصار بدوره من شهود العصر، ولكنه بطبيعة الحال سيفتقد للجزء الخاص بالوثائق، وهو ما سيشترك فيه مع أي دراسة لاحقة في ظل حجب الوثائق الرسمية المصرية عن الباحثين. أضف إلى ذلك، أنني أرى أنه من المفيد الاطلاع على الدراسات التي يُعدها باحثين غير مصريين، فهم حتى لو صاحبت دراساتهم بعض الخلط بسبب اختلاف اللغة والخلفية الفكرية، فإن هذه الدراسات لا تخلو من رؤى جديرة بالأخذ في الاعتبار، لأن المرء من حينٍ لآخر يحتاج إلى عينٍ غريبة عنه، يستطيع أن يرى بها ما لا تتيحه له عينه! ومع إطلاعي السابق على عددٍ لا بأس به من الكتب والمذكرات المرتبطة بالعهد الناصري، فقد صادفت بعض المعلومات الجديدة علي في هذا الكتاب، ومنها سعي عبد الناصر قبل الثورة للتواصل مع حزب الوفد للتنسيق حول تحرك مشترك بين الحزب والجيش لغل يد الملك عن التعدي على الدستور، وهو ما يشير إلى أنه ربما لم تكن فكرة الانقلاب فكرة نهائية في ذلك الوقت عند عبد الناصر، أو ربما كان جساً للنبض ومحاولة تكتيكية لا أكثر. أضف إلى وجود العديد من التحليلات من الكاتب أتفق معها، ومنها أن نجاح عبد الناصر الأولي كان جزءاً كبيراً منه نتاج تحالف الحظ معه، وتغير الظروف العالمية الذي أدى لهذا النجاح، فالجلاء لم يكن ليتحقق إلا لأن عبد الناصر لم يتمسك بالسودان ووافق على إبقاء قاعدة بريطانية في قناة السويس، لكن كان هذا مصاحباً لأفول شمس الإمبراطورية البريطانية في هذه الفترة، ويقول الكاتب "إن السبب في تأميم قناة السويس، ونجاة عبد الناصر من الإطاحة به بواسطة إنجلترا وفرنسا عام 1956 إنما يرجع إلى تغير موازين القوة في العالم، فعبد الناصر لم يطرد الإنجليز من مصر، بل الحقيقة هي أن بريطانيا لم تجد محيصاً عن الخروج من مصر والجلاء عنها، وكل ما في الأمر أن هذا تزامن بمحض الصدفة مع حكم عبد الناصر لا غير، فقد حالفه الحظ أن يكون حاكماً لمصر إبان هذا المنعطف التاريخي"، وهي ملحوظة سليمة وفي الوقت ذاته لا يجب أن يُفهم منها أنها تقلل من دور عبد الناصر وكفايته الشخصية، فهناك من يعيش في وسط تغيرات وإنقلاب موازين عالمية ويجبن أن يتحرك للأمام أو ينتهز الفرصة، وهناك شخصيات فذة تستطيع أن تقرأ الواقع الجديد وتقتنص الفرصة، وعبد الناصر – رغم بغضي الشخصي له – كان شخصية فذة، وإن كان استبداده كان السبب الرئيس في هزيمته وإدخاله ��لبلاد والأمة كلها في النفق الأسود للهزيمة والاستبداد والذي لم تخرج منه حتى الآن. من الفقرات المضحكة المبكية التي صادفتني قول الكاتب "كانت ثمة مسحة من التفاهة تمتزج مع جدية عبد الناصر الظاهرة في سعيه إلى تحقيق غاياته، فقد سأله أحد الصحفيين العرب يوماً في مطلع عام 1957 بعد أحداث السويس: (وما هي خططك الآن يا سيدي الرئيس؟)، فانفجر عبد الناصر ضاحكاً، وبسط راحة يده في الهواء وقال بصوتٍ هادرٍ ضاحكاً: (والله ما أعلم، وهل أنا رجل خطط؟)"، وهي سيرة مستمرة نشهدها عياناً إلى يومنا هذا. وأختم بهذه الفقرة المعبرة التي نقلها الكاتب عن أحمد حسين – مؤسس مصر الفتاة – في حديثه عن عبد الناصر بعد وفاته، فيقول "الرجل لا يستحق التقديس ولا الرفض، فقد عاش حياته وأدى دوره في مصر كحاكم مطلق، وهو ليس أول حاكم مطلق في تاريخ مصر، ولن يكون آخرهم، فالشعب المصري أسلس الشعوب انقياداً للحاكم، وهو يغري دائماً حكامه ويدفعهم إلى الانفراد بالحكم، فيحولهم إلى طغاة مستبدين، فحكام مصر مجني عليهم في الواقع، فمهما كانت نواياهم حسنة، فإذا امتد بهم الأجل واستمروا طويلاً في الحكم، فلا يلبثوا أن يكونوا طغاةً مستبدين".
جمال عبدالناصر وجيله للكاتب الانجليزي اليوناني الأصل البروفسور فاتيكيوس، المتخصص في التاريخ العربي المعاصر، والذي قضى قسماً من حياته في فلسطين موظفاً في السلك الإداري للإنتداب البريطاني.
قدم الكاتب تفسيراً لحياة الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر في فترة تاريخية حرجة تعتبر نقطة تحول في تاريخ المنطقة، كما قدم توضيحاً للتكوين السياسي له ولرفاقه من الضباط الأحرار وأبناء جيلهم الذين ترعرعوا في الثلاثينات واشتد عودهم في الأربعينات واندفعوا إلى ممارسة العمل السياسي في الخمسينات والستينات.
في النهاية، هو كتاب ابن عصره، مشكور أستاذ نبيل اللهيب على الترجمة المتقنة حقًا الممتعة، ومشكورة مدارات على توفير نسخة من كتاب تُرجم بشكل جعل قرائه يعتقدون أنه عن مصر الفتاة لا عن عبد الناصر. لا يتابع فاتيكيتويس كرونولوجيا سردية في تاريخه هذا لعبد الناصر، بل هو يقسم إرثه كمسارات ومحطات وعلاقات ويناقشها، ربما تجد الكرونولوجيا في مناقشة فترة التأسيس أي الجزء الأول من الكتاب في مرحلة بناء الشخصية لجمال عبد الناصر، قدم فاتيكويتس نهاية لكتابه من 10 أسطر رائعة جدًا وتُعين كل قارئ للتاريخ ومهتم على مهمة التعاطي مع تقييم الشخصيات التاريخية والوقائع والأمر الواقع، ولكن، هناك بعض الهنات التي لا تُغتفر للكتاب رغم أننا اعتبرناه أنه ابن عصره، أي سنة 1978، وما توفر آنذاك من مصادر وشهادات ومراجع للفترة الناصرية. للكاتب وجهة نظر تحقيرية ستجدها تتردد كثيرًا في الكتاب "الاستبداد أصله شرقي" "ضحل الثقافة كحال أبناء البلد" إلخ من تلك الهنات التي يمكن أن يكون مردها لمرحلة سيطرة استشراقية لم تكن قد تحررت منها الأكاديمية الغربية كما نعلم، ولكن، لا مشكلة. المشكلة الحقيقية هي في افتراضات الكاتب التي اعتبرها حقيقة وليست افتراض في ضوء ما توفر، يفترض الكاتب مثلًا أن شخصية عبد الناصر شخصية ضحلة الثقافة، لا يقرأ سوى الصحف، ولا يهتم بالثقافة الرفيعة في السينما والأدب والفن. الواقع عكس ذلك تمامًا، في كتابه "عبد الناصر: آخر العرب" اطلع سعيد أبو الريش على سجلات استعارات وقراءات الطالب\جمال عبد الناصر، نحن نجد لشخص في سن السادسة عشرة مجموعة من العناوين والكتابات ذات الأثر التي لا تصنع في النهاية إلا شخصًا عظيمًا، قراءات عن نابليون وأتاتورك وقراءات أدبية مثل سانين وروبنصن كروز حتى أنه أطلق روبنصن كروز لقبًا على رفيق عمره عبد الحكيم عامر بسبب اعتقاده بوجود شبه. ولكن ربما غاب عن الكاتب أن يفتش عن تلك الزاوية من حياة عبد الناصر، ولكن لا يحق له التبجح بوصفه بالجاهل أو ضحل الثقافة. كذلك يفترض الكاتب أن عبد الناصر تحركه الأحداث دون دراية، نعم عبد الناصر الضابط لا يُقارن بعبد الناصر الريّس ثم عبد الناصر الزعيم في أواخر عمره، يتغيّر ويتعلم بالتجربة والخطأ، ولكن أي حديث عن أن يد الله كانت تدخله التجارب دون إرادة أو وعيّ، هو محض هراء، يفترض الكاتب أن عبد الناصر لم يتنبه لإفريقيا مثلًا إلا مؤخرًا بعد هزيمة مشروعه الوحدوي العربي، وهذا لا يحق بموجب ما نعرفه من تاريخ عبد الناصر وحركة الوحدة الأفريقية، لقد بلغ اهتمام الرجل إلى حد أنه كان قارئًا لأدبيات ماركوس جارفي، أنا لا أبالغ وأقول أنه آمن بالبان نيجرويزم مثلًا، ولكنه كان يعي الحراك الأفريقي مبكرًا، وكان إيمانه بالقضية الأفريقية حد أنه حارب في حرب البيافرا بعد هزيمته في يونيو بأيام قليلة. وهناك الكثير من الهنات الأخرى التي يسعها ذلك الكتاب، ولكنه في النهاية لم يتقادم، وما زال يحتفظ بقيمته ككتاب تأسيسي يجب العروج عليه لكل من اهتم بعبد الناصر وجيله
صعود من رحم القلق: مراجعة لكتاب "جمال عبد الناصر وجيله" تأليف ب. ج. فاتيكيوتس وترجمة أحمد نبيل اللهيب ونشر مدارات للأبحاث والنشر
جاء الكتاب في 503 صفحة من القطع المتوسط وتوزع على خمسة أقسام وعشرون فصلاً. أوضح الكاتب في مقدمة الكتاب غرضه من هذه الدراسة، فقد نوه أن الكتاب لا يسير على سنن التراجم والسير الذاتية ولا ينتهج نهج الأبحاث النفسية للقادة والحكام، بل غرضه الرئيس هو تناول السياق الذي ظهرت فيه شخصية عبد الناصر بالدرس والبحث، وتسليط الضوء على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نشأ فيها عبد الناصر وجيله لما لها من أثر كبير على سلوكهم، ثم تتبع حركة عبد الناصر ورفاقه في هذا السياق انتهاءً بتقلدهم حكم مصر، ومحاولة رصد ظلال حكم عبد الناصر على الصعيدين المحلي والعربي.
القسم الأول: التكوين السياسي جاء القسم الأول في أربعة فصول، سعى الكاتب فيها أن يرسم ملامح التكوين الشخصي والسياسي لعبد الناصر، متتبعًا مسيرة نشأته الأولى التي تميزت بعدم الاستقرار، نتيجة تنقل والده المتكرر بحكم عمله، مما أفضى إلى حياة أسرية مضطربة وعلاقة متوترة مع الأب، خاصةً بعد وفاة الأم المبكرة وإخفاء الخبر عنه. كان لهذه التجارب أثر عميق في نفسه، وأسهمت في انطوائه وميله للانعزال، كما تزامنت مع اضطراب سياسي واسع في ثلاثينيات القرن العشرين، وجد فيه ناصر مناخًا محفزًا لانخراطه المبكر في الحراك السياسي الطلابي من خلال انضمامه لجمعية مصر الفتاة. وقد انسجمت هذه الجمعية، ذات النزعة القومية الاشتراكية الإسلامية، مع مزاجه وتطلعاته، لا سيما وأنها أبرزت مفاهيم مثل الجندية والعزة والكرامة، التي ستغدو لاحقًا من مفردات خطابه السياسي. كما أضحت الكلية الحربية بالنسبة له أداة لإعادة تشكيل الذات وتجديد الروح، على خلاف دوافع أغلب أبناء جيله الذين توخوا منها الوجاهة الاجتماعية أو العائد المادي. وقد أفرد الكاتب فصلين كاملين لتناول جمعية مصر الفتاة ومؤسسها أحمد حسين وجماعة الإخوان المسلمين باعتبارهما الكيانين الأكثر تأثيرًا على الحراك السياسي لتلك الفترة وعلى الجيل الذي انتمى له عبد الناصر ورفاقه، ويُبرز الكتاب مدى تأثير مصر الفتاة – ومعها جماعة الإخوان المسلمين – في تكوين وعي الجيل الذي ينتمي إليه ناصر، وهو جيل اتسم بتطلعات مبهمة، وهوية وطنية مضطربة، وأحلام لم تتبلور في مشروع فكري متكامل. وفي خضم حراك طلابي نشِط، وإخفاقات حزبية متكررة، بدت البلاد مهيأة لتغيّر جذري، توجته نكبة 1948 التي شكّلت دافعًا جوهريًا لتحرك ناصر وجيله. ويرى الكاتب أن عبد الناصر وجد في الإخوان نموذجًا للتنظيم، واستفاد من شبكاتهم داخل الجيش، لكنه سرعان ما تخلّى عنهم بعد نجاح الانقلاب، لإدراكه خطورتهم على مشروعه الفردي في الحكم. وقد ذهب الكاتب إلى أن أزمة الهوية الشخصية لدى عبد ناصر وجيله التقت مع أزمة أمة كاملة، وقد صور هذا في سردية تشرح السياقات النفسية والفكرية والسياسية التي مهدت لصعود هؤلاء الضباط وعلى رأسهم عبد الناصر.
القسم الثاني: الوصول إلى السلطة جاء أيضًا في أربعة فصول، تتبع فيها جذور حركة الضباط الأحرار والدور الرئيس لعبد الناصر في تنظيمها وتحريكها مرورًا بساعة الانقلاب وتوطيد أركان السلطة وإزاحة الخصوم وانتهاءً بالانتصار المطلق لعبد الناصر. يتتبع الكاتب في هذا القسم بدايات تكوّن تنظيم الضباط الأحرار والدور المحوري الذي لعبه عبد الناصر في تأسيسه وقيادته حتى لحظة الانقلاب. ويظهر مدى تأثير شخصية اللواء عزيز المصري، الذي ألهم جيل الضباط بأفكاره الوطنية ومقولته الشهيرة بأن "لا خلاص إلا بانقلاب عسكري"، كما كانت جماعة الإخوان المسلمين صاحبة الأثر الأبلغ في تشكيل وعيهم، لا سيما بعد مشاركتهم في حرب فلسطين، كما بدا هذا التأثير على جيل الضباط الأحرار في كراهيتهم للأحزاب ونفورهم من الديمقراطية. وقد جمع بين أعضاء التنظيم انحدارهم من طبقات اجتماعية متقاربة وتجارب مشتركة في سنوات المراهقة، ما جعلهم يتطلعون إلى السلطة، غير أن تشتتهم وفقدانهم لرؤية موحدة مهد الطريق أمام عبد الناصر للهيمنة على التنظيم بفضل طموحه وانضباطه الشديد. استغل ناصر ما وصفه الكاتب بأزمة النظام، حيث بدت الفجوة بين الحكم القائم وطموحات جيل الشباب اتسعت إلى حد الانفجار، فشرع في التحرك بسرية تامة، مستفيدًا من تجارب الماضي العنيفة والسلمية، رافضًا التسرع حتى تأكد من نضوج الظروف لانتزاع السلطة. وما إن تحقق الانقلاب بنجاح، حتى أيقن عبد الناصر أن السلطة في مصر لا يمكن أن تبقى دون "ملك" يقودها، فبدأ مشروعه للهيمنة الكاملة، واضعًا نصب عينيه السيطرة على الضباط أولًا، ثم المشهد السياسي برمّته. وقد نجح نجاحًا باهرًا في إزاحة الملكية والأحزاب وكبار رجال الطبقة الحاكمة من المشهد، في سياق صراع بدا حتميًا بعد نجاح الثورة، إذ لم يقوَ خصومه على الصمود أمام الضربات المتتالية التي وُجهت إليهم. عمد الضباط إلى سلسلة إجراءات كبتت أي مقاومة، فحلّ الخوف محل المعارضة، ثم حلّ الصمت، قبل أن تبدأ مرحلة تصفية الحلفاء؛ فهُمّش الضباط اليساريون، وفككت بنية الإخوان التنظيمية، فخسروا بذلك حضورهم السياسي. وكان التحدي الأكبر لعبد الناصر هو شخص محمد نجيب، الذي مثّل تهديدًا مباشرًا لطموحه في الانفراد بالسلطة، لاسيما بعد أن حظي بدعم الإخوان واليساريين الذين رأوا فيه بديلاً واعدًا. إلا أن ناصر - رغم اشتداد العاصفة - لم ينهزم، بل استثمر سيطرته على الجيش بوساطة عبد الحكيم عامر، وعلى الإعلام من خلال هيئة التحرير، وعلى النقابات عبر ضباط موالين له، ليحسم الصراع لصالحه ويثبت أركان حكمه بلا منازع. القسم الثالث: حاكم مصر جاء في خمسة فصول وهو أكبر أقسام الكتاب. وقد تناول هذا القسم سؤالًا محوريًا: كيف تمكّن عبد الناصر بعد اعتلاء عرش مصر من الحفاظ على حكمه ليغدو في نظر المصريين "الريس" والبطل المخلص الذي طال انتظاره؟ ويقدم الكاتب إجابته عبر محورين رئيسين؛ الأول هو إحكام عبد الناصر قبضته على مفاصل الدولة، لا سيما الجيش والأجهزة الأمنية والإدارية، والثاني هو سياساته الاجتماعية والاقتصادية، فضلًا عن تواصله الدائم مع الجماهير من خلال خطاباته. فقد رأى في الجيش الدعامة الأولى لسلطته، واستعان بصديقه عبد الحكيم عامر لتأمين السيطرة عليه، لا كمؤسسة عسكرية فحسب، بل كمؤسسة بيروقراطية تتدخل في السياسة وتصدر العقوبات. وقد مكنته قيادة عامر من توظيف الجيش لخدمة أهدافه، وإن أتى ذلك على حساب الكفاءة القتالية التي تراجعت بشكل بالغ، بدءًا من العدوان الثلاثي، ومرورًا بحرب اليمن، وصولًا إلى الهزيمة الكارثية في 1967. في موازاة ذلك، أقام عبد الناصر هرمًا معقدًا من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي كانت تتعاون أحيانًا وتتنافس أحيانًا أخرى، يديرها رجال من الدائرة الضيقة للنظام من الوزراء والقيادات السياسية، ولم يتجلِّ تعقيدها إلا بعد نكسة يونيو. وقد ظل ناصر يدير شؤون الحكم بنفس السرية والحيطة التي اتبعها في الإعداد للانقلاب، فأسّس تنظيمات سياسية متتابعة وهي هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي، لكنه لم يثق بأي منها، مفضلًا أن يستند حكمه إلى شعبيته الشخصية. أما المجالس التشريعية، فلم تكن سوى أدوات صورية، تابعة بالكامل لإرادة "الريس". نجح عبد الناصر في بناء نظام هرمي يحتكر فيه السلطة على القمة، حيث لم يُفسح مجالًا للمنافسة سوى لبطانته المقرّبة، بينما انشغلت شلل الضباط وأصحاب النفوذ في التنافس على الامتيازات حتى في خضم أزمة اقتصادية طاحنة بين عامي 1965 و1966. وفي هذا السياق المضطرب، دخلت البلاد نكسة 1967، وكان ناصر حينها منهكًا روحيًا وجسديًا، فاقدًا لسند حقيقي من رفاق الثورة أو من المدنيين الذين لا يملكون أدوات القوة كالعسكر والأمن. ويخلص الكاتب إلى أن عبد الناصر كان مؤيدًا لحكومة تخدم الشعب، لكن دون أن تكون منبثقة منه؛ إذ رأى نفسه حاكمًا مطلقًا ومصلحًا أوحد، يجمع بين نزعة الاستبداد ونوايا الإصلاح. ناقش الكاتب في فصل مستقل دوافع عبد الناصر العروبية، مؤكدًا أنها لم تكن خيارًا سياسيًا بقدر ما كانت مسألة مصيرية لتحرير المنطقة من الهيمنة الغربية، وإفساح المجال أمام مصر لتدير شؤونها باستقلال، مستفيدًا من المزايا الاقتصادية والإستراتيجية لهذه التوجهات. وقد أفرد الكاتب فصلاً لتتبع المواجهة مع إسرائيل، بدءًا من تجاهلها نسبيًا حتى 1954 إلى تصاعد الصراع، خاصة بعد العدوان الثلاثي وانتهاءً بهزيمة 1967، ويبرز كيف نظر عبد الناصر لإسرائيل باعتبارها رأس الحربة للإمبريالية الغربية، ما جعل الصراع معها وجوديًا. ويرى الكاتب أيضًا أن جانبًا من هذه المواجهة كان مدفوعًا بدوافع نفسية، إذ شكلت إسرائيل تحديًا شخصيًا لكبرياء عبد الناصر وشعورًا دائمًا بالذل والرغبة في الانتقام.
القسم الرابع: الريس جاء في ثلاثة فصول، يتناول الكاتب في هذا القسم عبد الناصر بوصفه "الريس" والزعيم الذي التحم بشعبه في علاقة استثنائية، حيث يرصد الكاتب هذه العلاقة بوصفها علاقة رومانسية وجدانية، تجسدت فيها روح الجماهير في شخصية عبد الناصر، الذي رأى فيه المصريون المخلّص الذي طال انتظاره، لا لبرنامجه السياسي أو الاقتصادي، بل لما اتسم به من صفات "ابن البلد" القريب من الناس، وغير المنتمي للنخبة المتغربة. وبرغم ما أفضت إليه سياساته من جمهورية شكلية ومبتسرة تفتقر إلى مؤسسات حقيقية تمكّن الشعب سياسيًا واقتصاديًا، فقد ظل عبد الناصر يروي ظمأ الجماهير لحالة من الإحياء الوطني والتحدي المستمر، وهو ما منحه شرعية رمزية لم تفقد بريقها طيلة سنوات حكمه. ويستعرض الكاتب في فصل كامل الدور الحاسم الذي لعبته خطابات عبد الناصر الجماهيرية في تثبيت مكانته داخليًا وخارجيًا، واصفًا إياه بأمهر خطيب عرفه العرب في العصر الحديث. وقد ركز عبد الناصر في خطاباته على مفاهيم الكفاح الدائم والمقاومة المستمرة، خصوصًا في أوقات المحن والكوارث، كما أوهم الجماهير بمشاركتهم في صنع القرار من خلال اطلاعهم المتكرر على ما بدا وكأنه أسرار وخفايا للسياسة الداخلية والخارجية. وقد مكنه هذا الأسلوب في التواصل المباشر بالكلمة المنطوقة من تجاوز المؤسسات السياسية الوسيطة، وتعزيز موقعه كقائد فوق الهياكل المؤسسية التقليدية. ويُختتم هذا القسم بمناقشة كيف نشأ هذا النمط من الحكم المطلق في ظل تماهي عبد الناصر مع مشاعر الجماهير من شكوك وتطلعات، وبتأثير من إحساسه الشخصي بالانكسار وتجاربه الوطنية مع الهوان، ما أضفى على قراراته طابعًا انفعاليًا وانتقاميًا. وقد رحبت الجماهير بهذا النسق السلطوي، إذ رأت فيه تعبيرًا عن رغبتها في الثأر من الأنظمة السابقة، سواء كانت محلية أو استعمارية، فالتفّوا حول "الريس" لا حول سياساته، وساروا خلفه دون تمحيص أو مساءلة. القسم الخامس: شخصية عبد الناصر وآثاره في مصر يتناول الكاتب في هذا القسم تحليلًا مركبًا لشخصية جمال عبد الناصر وآثارها العميقة على بنية الدولة المصرية. وقد بدأ هذا التحليل بالصحة الجسدية والنفسية لعبد الناصر وانتهى بالتقييم الفكري لتجربته في حكم مصر. يستعرض الكاتب بدايةً الجانب الصحي لعبد الناصر، مشيرًا إلى معاناته المزمنة من أمراض السكري والنوبات القلبية التي اشتدت قبيل وفاته، ويتساءل إن كان لهذه العلل تأثير ما على توازنه العصبي والنفسي. ثم ينتقل إلى صفاته الشخصية التي عدّدها من الصلابة والتكتم والسرية الشديدة إلى الحساسية المفرطة والاعتداد بالنفس وحدة المزاج، مؤكدًا أن هذه السمات ساعدته على إحكام قبضته على رفاقه وعلى المشهد السياسي عمومًا، منذ تنظيمه السري وحتى حكمه المطلق لمصر. ويشير الكاتب إلى قدرة عبد الناصر على التواصل الساحر مع الجماهير والتأثير فيهم بما يشبه التنويم المغناطيسي، غير أنه يتوقف عند سؤال جوهري مفاده: "إلى أي درجة سحر عبد الناصر نفسه وغيب عقله؟" في خضم هذا، في إشارة إلى مدى تصديقه للصورة البطولية التي رسمها لنفسه وروّج لها أتباعه. كما لم يغفل الكاتب عن التوقف عند بساطة عبد الناصر في معيشته وازدرائه للترف الذي طالما لازم السلطة، وهي سمة أسهمت في تعميق صورته كزعيم شعبي متقشف. يختم الكاتب القسم بتقييم تركة عبد الناصر السياسية والاجتماعية من خلال آراء عدد من المفكرين المصريين البارزين مثل لويس عوض وتوفيق الحكيم وفؤاد زكريا. ويتفق هؤلاء على ضرورة الإقرار بالإنجازات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي حققها عبد الناصر، وبالتحولات الجذرية التي أحدثها في مصر والعالم العربي، إلا أن هذا السرد للإيجابيات كان مجرد توطئة لنقد صارم لتجربته التي اختزلت السلطة في شخصه، وتجاهلت تأسيس مؤسسات سياسية حقيقية، وابتدعت آلة قمع مؤسسية أضعفت روح الشعب وقضت على حس المبادرة لديه، فغدا متلقيًا سلبيًا لا فاعلًا في مصيره. ويخلص الكاتب إلى أن إرث عبد الناصر الحقيقي تمثّل في بناء طبقة بيروقراطية وتكنوقراطية جديدة تدين بولائها للدولة وتُناط بها مهمة الحفاظ على النظام، لكنها طبقة بلا رؤية واضحة أو أيديولوجيا متماسكة، نشأت في غياب لبوصلة فكرية، الأمر الذي عمّق من أزمة الدولة بعد غياب عبد الناصر. وفي الفصل الأخير، جاءت خاتمة الكتاب التي لخص فيها الكاتب غرضه الرئيس من الكتاب ألا وهو تسليط الضوء على شخصية محورية في تاريخ مصر ومنطقة الشرق الأوسط وذلك بالتعرف على السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لجيل كامل، وهذا السياق ضروري لعدم الوقوع في إشكالات منهجية قد تصل بالباحث إلى رسم صورة كاريكاتورية غير متماسكة للشخصية محل البحث، وقد أشار أن مسعاه اكتنفته تحديات كبيرة أبرزها شح المعلومات وميل عبد الناصر الشديد للسرية والتكتم، الأمر الذي يصعب على أي باحث رسم صورة دقيقة للشخصية.
ملاحظات سريعة: أراد المؤلف أن يرسم صورة مركبة لعبد الناصر وجيله، فتوسّل لذلك أدوات متعددة، أبرزها التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع. ويمكن النظر إلى الكتاب كبورتريه لشخصية لعبد الناصر، رسم فيه المؤلف ملامحه الرئيسة، ونجح في إشراك القارئ في عملية التنقيب عن جذور شخصية بدت على الدوام عصيّة على الفهم بفعل تناقضاتها الظاهرة. طرح المؤلف أسئلة صعبة، لكنه لم ينجرّ وراء الإجابات السهلة التي كثيرًا ما تكرّرت في الكتابات الكثيرة، سواء المحلية أو الغربية، حول شخصية عبد الناصر وتجربته. ورغم مرور ما يقرب من نصف قرن على صدور الكتاب (1976)، إلا أن القارئ يلمس بوضوح صلته الحية بواقعنا المعاصر، حيث لا يزال تأثير عبد الناصر وجيله حاضرًا ومتشابكًا في تفاصيل كثيرة من المشهد العربي. ومع ما يبدو من حرص المؤلف على تقديم طرح موضوعي، إلا أن بعض تحيزاته الغربية كانت حاضرة، وتجلّت بشكل واضح في معالجته لصراع عبد الناصر مع إسرائيل؛ إذ بدت رؤيته متحاملة في مواضع، بل تكاد تلامس حدود العنصرية. أكثر ما شدّني إلى الكتاب، وجعلني أُتمّه سريعًا رغم كبر حجمه، هو الترجمة الرائعة التي أتحفنا بها الزميل المترجم الأستاذ أحمد اللهيب. فلولا الإشارة إلى أنه نص مترجم، لأيقن القارئ أنه مكتوب أصالة بالعربية، لما فيه من أسلوب رشيق وصياغة سليمة خالية من التكلّف. اللغة مستقيمة، والتراكيب جزلة، والصياغة تنم عن حس أدبي وجودة قريحة، بعيدة كل البعد عن الترجمة الحرفية أو جمود الأسلوب الأكاديمي. ولا يسعني إلا أن ألاحظ الإخراج المميز للكتاب والغلاف الفني من تصميم أحمد الصبّاغ الذي يتناغم تمامًا مع موضوعه، ما يعكس اهتمام الدار وعنايتها بتقديمه في أفضل صورة ممكنة.
يبتعد ڨاتيكيوتس عن الأسلوب الكرونولوجي المعتاد في كتابة السير، ويعتمد بدلًا من ذلك مقاربة تحليلية تقوم على ربط عبد الناصر ببيئته، أي جيل الضباط الأحرار، وظروف نشأتهم، وتعليمهم، وموقعهم من التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر الملكية.
يرى أن عبد الناصر لم يكن ظاهرة معزولة، بل انعكاسًا لمرحلة تاريخية تتسم بأزمة الطبقة الوسطى، وصعود الدولة القومية، والانهيار التدريجي للنظام الليبرالي الملكي. يُركّز الكتاب على مفهوم "الجيل"، باعتباره وحدة تحليل، لا أقل من الفرد ولا أكبر من المجتمع كله. يسعى المؤلف لتبيان كيف أن جيل عبد الناصر كان مشبّعًا بروح التمرد، ومأخوذًا بمزيج من القومية العربية والرغبة في العدالة الاجتماعية، دون أن يملك رؤية دقيقة لكيفية إدارة الدولة الحديثة. وهذه النظرة تضع المشروع الناصري في إطار رد الفعل على التهميش والتبعية الغربية، أكثر من كونه مشروعًا نهضويًا متكامل الأركان.
في رصده للتكوين السياسي لناصر، يقول كان قادة مجلس قيادة الثورة ينتمون إلى ذلك الجيل الذي نشأ في ظل سنوات الثلاثينيات، لم يجمع بينهم أيديولوجيا مشتركة سوى طرد المحتل. يركّز فاتيكيوتس على مصادر تكوين ناصر الأولى، فيُرجِعَها إلى " جمعية مصر الفتاة" التي أسسها أحمد حسين وفتحي رضوان، ويحاول التدليل على ذلك من خلال رد أفكار ناصر إلى منابعها عند أحمد حسين ومصر الفتاة مثل كلامه عن " الجندية" في كتابه فلسفة الثورة، والتأميم والإصلاح الزراعي ..الخ.
كانت مصر الفتاة لا تدّخر جهدًا في الدفع بأعضائها إلى الكلية الحربية، وقد دعّم علي ماهر وعزيز المصري هذا التوجّه لمنافسه الوفد، ولم يكن الضباط الأحرار متأثرين فقط بمصر الفتاة، بل وبالإخوان المسلمين، وبالتالي يخصص ڨ��تيكيوتس الكثير من الصفحات لدراسة فكر أحمد حسين والإخوان المسلمين، وقد قامت مصر الفتاة بتوجيه فكر الضباط الأحرار حول ضرورة إزاحة الحكّام المستبدين عن سدة الحكم.
بالنسبة للإخوان أعجب الضباط الأحرار بالنظام السري للجماعة ودوره في مكافحة المحتل، وكان لهم تغلغل كبير في صفوف القوات المسلحة، وفي بداية انقلاب يوليو، لعب الإخوان دورًا في مساندته، قبل أن يطيح بهم ناصر، ويسأل ڨاتيكيوتس عن سبب سهولة نجاح الانقلاب، فيرى أنه بسبب كون كبار الضباط لم ترتبط مصالحهم بالنظام، فلم يستميتوا في الدفاع عنه.
يبدو أن ناصر كان يخشى قوة الإخوان التنظيمية، ولم يكن في يوم يؤمن بأفكارهم، من ناحية أخرى لم تكن أفكار الضباط الأحرار والقرارات التي أصدروها في بداية الانقلاب مرجعها فترة خدمتهم بالجيش، بل مصدرها ما تلقّوه من الجماعات السياسية، ثم بدأت عملية توطيد أركان السلطة عبر مستويين، الأول السيطرة التامة على القوات المسلحة، والثاني تحييد القوى السياسية.
وفي صفحات عديدة وعبر سطور مريرة يحكي ڨاتيكيوتس قصة الصراع على السلطة، الإطاحة بالإخوان ونجيب والماركسين ثم تصفية الضباط لبعضهم بعضًا، والعصف بالقانون وتكريس الاستبداد العسكري المقيت، وبحسب الكتاب فإن الصراع على السلطة في الفترة ما بين فبراير، ومارس ١٩٥٤ هو الذي رسم ملامح الطريق الذي سار عليه ناصر لاحقًا. لكن لماذا أذعنت الجماهير لناصر؟ يقول الكتاب بسبب الانجذاب لفكرة المخلّص.
وأدرك ناصر من واقع تجربته أن الكلمة الأولى والأخيرة للجيش، وبدأ في السيطرة عليه وتصفية حركة التمرد بداخله، وبدأ ناصر ينظر إلى رفاقه من الضباط، نظرة المفترس إلى فريسته على حد تعبير " حسين ذو الفقار صبري" شقيق " علي صبري" .
يسلط الكتاب الضوء على الإصلاحات الناصرية، وهدف المؤلف هو الوقوف على أسبابها، فيرى أن الإصلاح الزراعي مثلًا مبدئه وأصله كان قرارًا سياسيًا، يهدف إلى تقويض الطبقة البرجوازية القديمة من الباشاوات، ولا يستطيع تقييم تجربة السد العالي ( وقت كتابة الكتاب في السبعينيات) لكنه قال أنه مثّل رمز الشموخ والكبرياء، وينظر إلى فكرة التأميم بوصفها عملية أراد بها ناصر امتلاك مصادر الثروة بحيث يفرض سلطته عليها ويتحكّم بها، وليس مجرد إعادة توزيعها.
يشرح الكتاب من جهة أخرى أنّ القومية العربية كانت أداة من أدوات ناصر في بناء زعامته الأسطورية، واستخدم في ذلك البروباجندا وشبكة مخيفة من أجهزة المخابرات. في بداية الانقلاب رأت الولايات المتحدة أن النظام الناصري معتدلًا في موقفه من إسرائيل، لكن مع صعود شعبية ناصر بمهاجمة الاستعمار، بدأ يصف إسرائيل بأنها " ربيبة الاستعمار"، وفي نهاية حياته حتى مع قبوله مبادرة روجرز لم يكن مستعدًا للاعتراف بإسرائيل . وفي نوع من التكهن بالمستقبل يقول ڨاتيكيوتس أنه ربما لو امتدّ العمر بناصر لسلك مسلك السادات، وهذا أمر مشكوك فيه صراحة.
يشيد الكتاب بنزاهة ناصر المالية، لكنه يؤكد أن ناصر كان على علم بفساد رجاله وتربّحهم، ومع ذلك تركهم، ووفق الكتاب كان ذلك بالنسبة لناصر وسيلة من وسائل السيطرة عليهم. الكتاب جميل جدًا صراحة، حتى وإن شابه بعض المبالغات في ظل عدم وجود وثائق، وهي مشكلة واجهت المؤلف في السبعينيات وتكلم عن ذلك، ومازلنا بلاشك نعاني من ذلك الأمر إلى الآن، لكنه اعتمد على تحليل خطابات ناصر، وقراءة العديد من المصادر عنه العربية والأجنبية، ويُعد إبراز المؤلف لدور مصر الفتاة في تشكيل وعي ناصر من الأمور المميزة حقًا في الكتاب، وربما هي أهم أجزاءه بشكل مطلق.
وبالنهاية نشيد بالترجمة الراقية والجميلة للمترجم الرائع أحمد اللهيب الذي جاءت ترجمته كنص عربي أصيل، حتى أن بعض الكلمات ردّها المؤلف للعامية لتطابق كلام ناصر من خطاباته.
قرأت كتاب "جمال عبد الناصر وجيله" لبي. جيه. فاتيكيوتيس بعد أن سمعت عنه كثيرًا باعتباره مرجعًا مهمًّا لفهم الحقبة الناصرية، وفعلاً وجدت فيه غنىً كبيرًا في التفاصيل وتحليلات معمّقة لمرحلة حاسمة في تاريخ مصر الحديث. الكتاب لا يركّز فقط على شخص عبد الناصر كفرد، بل يوسع دائرة الرؤية ليشمل الجيل الذي نشأ في ظل الاستعمار، وعاصر ثورة 1952، وشارك بوعي أو بدون وعي في تشكيل المشروع السياسي والاجتماعي الذي حمله النظام الناصري.
يبدأ فاتيكيوتيس برسم خلفية تاريخية دقيقة للوضع في مصر قبل الثورة، الفساد السياسي، هيمنة الأسرة المالكة، تدخلات القوى الأجنبية، وضعف المؤسسات المدنية. ثم ينتقل إلى تفكيك تركيبة "الضباط الأحرار"، موضحًا كيف أنهم لم يكونوا جماعة أيديولوجية متماسكة، بل مجموعة من الضباط الشباب من خلفيات اجتماعية متنوعة، جمعهم الاستياء من الواقع أكثر مما جمعهم مشروع مستقبلي واضح. هنا، يقدّم الكاتب تحليلًا مثيرًا للاهتمام حول التناقضات الداخلية في صفوف الحركة منذ بداياتها، وكيف أن عبد الناصر استطاع بدهاء سياسي وحنكة تنظيمية أن يفرض نفسه كقائد لا منازع لها، حتى داخل دائرة الضباط أنفسهم.
من أبرز ما يميز الكتاب هو تركيزه على بنية النظام الناصري من الداخل. فاتيكيوتيس لا يكتفي بسرد الأحداث الكبرى مثل تأميم قناة السويس أو الوحدة مع سوريا أو هزيمة 1967، بل يغوص في آليات الحكم. كيف تم تفكيك الأحزاب السياسية، وبناء جهاز أمني واسع، وتحويل النقابات والاتحادات إلى أدوات للدولة بدلًا من أن تكون ممثّلة للشعب. كما يتناول بتفصيل كبير العلاقة المتوترة بين الجيش والدولة المدنية، ويشرح كيف أن المؤسسة العسكرية لم تكن فقط حامية للنظام، بل أصبحت جزءًا عضويًّا منه، بل وصاحبة القرار الفعلي في كثير من المفاصل.
ويولي الكاتب اهتمامًا خاصًّا للبعد الاجتماعي والاقتصادي، فيشرح سياسات الإصلاح الزراعي، والتأميم، والتوسع في التعليم المجاني والرعاية الصحية، موضحًا كيف أن هذه السياسات رغم نواياها التقدمية أدت في كثير من الأحيان إلى بيروقراطية مفرطة، وركود اقتصادي، وازدواجية في الهوية بين "الدولة الحديثة" و"الواقع التقليدي". كما يعرض بجرأة لفشل مشروع الوحدة العربية، لا كحلم انهار بسبب المؤامرات الخارجية فقط، بل بسبب غياب رؤية مؤسسية مشتركة، وتفاوت في البنية السياسية بين الدول العربية.
أيضًا، يخصص فاتيكيوتيس فصولًا مهمة لتحليل شخصية عبد الناصر ذاتها، طموحه، خطابه الشعبوي، علاقته بالجماهير، وصراعه الداخلي بين كونه "زعيمًا كاريزميًّا" و"رئيس دولة" يحاول بناء مؤسسات. ويعرض كيف أن خطابه المتكرر عن "العدو الخارجي" كان أحيانًا وسيلة لتبرير التضييق على الحريات الداخلية، وكيف أن شعبيته الهائلة لم تمنع تآكل قاعدة الدعم الاجتماعي مع مرور الوقت، خاصة بعد هزيمة 1967.
الكتاب غني أيضًا بتحليلاته للعلاقات الدولية، موقف مصر من الحرب الباردة، علاقتها المعقدة مع الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وسياستها في أفريقيا والعالم الثالث. فاتيكيوتيس لا ينكر دور عبد الناصر كصوت مسموع في حركة عدم الانحياز، لكنه يشير إلى التناقضات في سياسته الخارجية، خصوصًا حين كانت المبادئ تُضحّى من أجل مكاسب تكتيكية قصيرة المدى.
بالطبع، لا يخلو الكتاب من زوايا رأيتها منحازة أو مبسّطة أحيانًا خاصة في تصويره لأي توجّه وطني أو قومي على أنه انعكاس لميل "استبدادي" أو "عاطفي" لكنني حاولت ألا أتوقف كثيرًا عند هذه النقطة، لأن القيمة الحقيقية للكتاب تكمن في كمّ المعلومات والتحليلات التي يقدمها، حتى لو اختلفت مع بعض استنتاجاته. كما أنني قرأت الكتاب ولم يكن هذا الأمر غير متوقع فداخل كل كاتب غربي لابد من بقايا صليبية ما هنا أو هناك عندما يتحدث عن الشرق.
في المجمل، "جمال عبد الناصر وجيله" ليس كتابًا سهل القراءة، ولا هو سرديّ بسيط. إنه عمل أكاديمي كثيف، مليء بالتفاصيل السياسية والمؤسسية، وقد يشعر القارئ العادي أحيانًا بالإرهاق من كثرة الأسماء والمناصب والصراعات الداخلية. لكنه في الوقت نفسه مصدر لا غنى عنه لمن يريد أن يفهم ليس فقط ماذا حدث في عهد عبد الناصر، بل كيف حدث، ومن صنع القرار، وما هي الآليات التي حوّلت ثورة شعبية إلى نظام مركزي شديد التعقيد.
أنصح به لكل من يهتم بالتاريخ المصري الحديث، لكن مع تذكير دائم: اقرأه كجزء من الحوار، لا ككلمة نهائية. التاريخ لا يُروى من زاوية واحدة، وعبد الناصر وجيله يستحقون أن نسمع أصواتهم هم أيضًا وليس فقط من يراقبهم من بعيد.