بعد أن أنهيت المجلد الأول من مذكرات رئيس الوزراء السوري السابق في العديد من الوزارات السورية في عهدي الانتداب والاستقلال, أدركت كم أننا نفتقر لتلك القامات الفكرية العظيمة التي عملت في السياسة والاقتصاد السوريين ردحا من الزمن, ساهموا من خلالها في صياغة شكل سوريا بعهدها الحديث, قبل أن تجلب عليها لعنة الانقلابات العسكرية والتي كانت الدول الخارجية من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية جزءا كبيرا من داعميها, مما حدا بالبلد للتدهور فيما بعد. فمن الملفت للنظر ما جمع النظام البرلماني في سوريا من أسماء لامعة في وقت واحد تحت قبته العظيمة, فكيف لنا أن نتغافل عن ذكر أسماء كالتالية أسمائهم: خالد العظم شكري القوتلي فارس الخوري سعد الله الجابري جميل مردم هاشم الأتاسي عبد الرحمن الشهبندر فخري البارودي ناظم القدسي محسن البرازي لطفي الحفار ساطع الحصري صبري العسلي سعيد الغزي عبد الرحمن الكيالي رشدي الكيخيا أنصار الكتلة الوطنية وأنصار حزب الشعب والعديد العديد من الأسماء اللامعة في تاريخ سوريا في عهدي الانتداب والاستقلال. ما ميز تلك المذكرات في جزءها الأول وهو لهجة الصدق المتبدي في لسان محدثه, فهو لا يترك شخصية بدون الإحاطة بكل جوانبها, وما فاجئني هو تلك الصورة الأسطورية التي كنا أخذناها عن رؤساء جمهورية ورؤساء وزراء سابقين حيث عرض لنا العظم الصورة الواقعية والصادقة عنهم كشكري القوتلي وفارس الخوري وسعد الله الجابري وغيرهم, بالإضافة لنقده الذاتي لنفسه وإبراز نقاط القوة في إداراته المتعاقبة في رئاسة مجلس وزراء سوريا وفي عضويته البرلمانية. ولكن مهما أحاط بتلك الأسماء من ايجابيات وسلبيات فعلينا أن نعترف بأن تلك التجربة الديمقراطية الرائعة من السنوات الأخيرات لعهد الانتداب غلى سنوات الاستقلال لما قبل انقلاب حسني الزعيم,كانت تلك التجربة في زهوتها الأولى, غضة,طرية, لم يستقم عودها بعد, لم تروى من خبرات الناس لاحقا, بل تم وأدها في الانقلابات التي تلت ذلك العقد, ولو كان لتلك البلد أن تستمر في ذلك النفس الديمقراطي والدستوري والبرلماني لكان وضع سوريا الآن مختلف جدا عن ما آلت إليه الأحوال, ولكن لو لا يوجد لها مكان في التاريخ, وهنا نعود للواقع ونُسَلِّم بأموره تاريخه كما حصلت, لنستفاد منها لاحقا في تجاربنا كاملة. مذكرات خالد العظم على كل سوري ملم بتاريخ بلاده أن يقرأها ويستقي العبر منها, علَّ في أحد الأيام يظهر لنا شخصيات تستطيع مجابهة الصعوبات كما واجه أبطال الاستقلال ذلك الزمن.
خالد العظم واحد من أبرز الساسة السوريون في مرحلة ما قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال، وهو سليل عائلة ضاربة فى النفوذ والحكم في دمشق. في هذا الجزء يركز علي طفولته وصباه وصولاً لمرحلة بدايات اشتغاله بالسياسة وتوليه الوزارة او رئاستها أكثر من مرة. اللافت للنظر في أي قراءة للمرحلة التاريخية سواء فى سوريا أو مصر أن الفترة الزمنية اللاحقة على الحرب العالمية الأولي حتي بداية الخمسينيات هي تواجد قامات سياسية عظيمة، والقصد هنا هو وجود سياسيين متمرسين فى أساليب السياسة والحكم وكلهم على درجة رفيعة من الكفاءة السياسية حتي ولو أستخدم بعضهم قدراته السياسية فى سبيل أغراض ومصالح شخصية. اما المرحلة التي تبدأ منذ منتصف القرن أو بالأحرى مرحلة ما بعد الانقلابات العسكرية فأهم ما يميزها هو افتقار الساحة السياسية لرجالات السياسة العظام.. فقط اهل العسكر الذين استولوا على الحكم هنا وهناك وأغلبهم باستثناءات قليلة محدودو الكفاءة والخبرة السياسية.
أنهيت المجلد الأول من مذكرات رئيس الوزراء السوري خالد العظم ،كنت متعطشاً لسرد أكبر عن فترة 1920-1936 ولكن إبتعاد خالد عن السياسة في تلك الأثناء حال دون ذلك .
المجلد الاول ركز في قسمه الاول على الأحداث السياسية التي عاصرتها وعاشتها سوريا" سقوط الامبراطورية العثمانية -ولادة سوريا الكبرى - سقوط الدولة بيد غورو وأصدقائه" وكان بطل هذا السرد بالغالب هو والد خالد ( محمد العظم )
أما القسم الثاني فكان عن سوريا بعد 1936 ونضوج الحل السياسي مع فرنسا وتشكيل الحكومات وانتخاب شكري القوتلي وصراع الجابري والخوري والمواقف الوطنية والرؤى المختلفة بين تعنت الكتلكة ومرونة خالد التي صبت في مجملها في صالح الإستقلال