ما المتعة في الأدب، والشعر خاصة، في معرفة أن شيئا يشبه شيئًا، فما قيمة هذا البيت المشتهر في ديوان عَديّ بن الرقَاع، والذي يساق عادة منفردًا مستقلاً عن سياقه:
وتقصده: تصيبه، والبهجة: الحُسْن، وعَرَضًا: أي انها لم تخطط لهذا أو تعمد له، ولن يصطادها: هو، رغم أنه ممتلء (مُعلَّل) القلب منها والرغبة بها. ولكنها منيعة
والبكر بمعنى فتيّة، كما أن "البكر من الإبل بمنزلة الفتيّ من الناس"، والبكر من الدوابّ أيضًا: التي وضعت بطنًا واحدًا، فواحدها هو بكرها، وأرض قفر: موحشة، والعهاد: المطر، فهي منيعة كظبية فتيّة منجبة، وهي فريدة ومن دلائل هذا التفرّد عن غيرها طلبها لطعامها في أصعب الاماكن، أي القفر، وأسوأ الظروف، أي المطر.
والعُقدة: من المرعى هي جانب الأرض الذي يكثر فيه المرعى والكلأ (أي النبات الذي ترعاه الدوابّ)، وجمعها عُقَد، وعِقَاد، فهو موضع انعقد فيه الخير أو الكلأ، أو التفّ وتداخلت فيه فروع الشجر والنبت، والبراق: جمع برقة، والأصل في البرق هو بهرة البياض، وأُطلق على البراق الذي هو دابّة الإسراء هذا الاسم لبياض لونه، والبراق في البيت هو صفة أرض ذلك المرعى الصعب الوعر، وهي الأرض الذي يكثر فيها الحصى والرمل ويغلب البياض على لونها المشهود تحت الشمس ومدّ البصر، وهي أرض مرعى الأثل والسدر والطلح والعوسج
وفي لسان العرب، العلجان: "شجر أخضر مظلم الخضرة، وليس فيه ورق وإنما هو قضبان كالإنسان القاعد، ومنبته السهل، ولا تأكله الإبل إلا مضطرة"، والعرد: "حمض تأكله الإبل ومنابته الرمل وسهول الرمل" فهذان: شوك وحمض
في اللسان كذلك: "وعرك الإبل في الحمض: خلاها فيه تنال منه حاجتها. وعركت الماشية النبات: أكلته"
فيصبح معنى البيت: أن ما عانته الظبية في تناول هذا المرعى المرّ الملتفّ النبات الشائك الغليظ، ودخولها فيه للرعي، أدى إلى جروح جبينها.
خَضَبَت لَها عُقَدُ البِراقِ جَبينَها من عَركِها عَلَجانَها وَعَرادَها كَالزينِ في وَجهِ العَروسِ تَبَذَّلَت بَعدَ الحَياءِ فَلاعَبَتْ أَرآدَها
والأرآد: جمع رئد، وهو الترب والصديق، والترب هو المقارب لك في السن، فمعنى الشطر الأخير: لاعبت العروس صويحابتها من بعد الحياء، ولكن ما معنى أن يقول إن خضاب نباتات الرعي الشائكة الملتفة لجبين الغزال، أي جرحها له، هي "كالزين في وجه العروس تَبَذَّلَتْ بعد الحياء فَلاعَبَتْ أَرآدَها"؟
أما خضاب الجبين من أثر الرعي في البيت السابق فهو جرح الجبين لا ريب فيه، لأن "كلّ لوْنٍ غَيَّر لوْنَه حُمْرةٌ، فهو مَخْضُوب"، فماذا يقصد بالزين في وجه العروس؟ قالوا إنّ الزين هنا هو "نقطًا في وجه العروس تكون من زعفران"، وقد يكون كذلك خضاب الحنّاء، غير أن خضاب العروس عادة يكون في الشعر والكفين والقدمين، لا في الوجه، وقد يكون حلية للعروس، ولكن أي حلية موضعها الوجه؟ هناك المخازم، والتي هي حلقات ذهبية وغيرها توضع في الأنف، وهناك كذلك قُرط الجبين، وهو قطعة ذهبية عادة تتدلى على الجبين ولا تزال شائعًا في زينة العروس الهندية التقليدية - ولكن إذا كان هذا فأي معنى للتشبيه لكي يقال إن هذا الزين تأثر بشيء ما فلاعبت العروس بعده صويحاتها وشاركتهن الرقص من بعد الحياء؟! - فيتبقى أن الزين في الوجه قد يكون هو الحُسن مجرّدًا، وهو ملاحة العروس، المبرزة كثيرًا يوم عرسها المشهود، وهنا فإنّ عديّ بن الرقاع قد قصد أن العروس يوم عرسها تكون تمثالاً جامدًا من جمال، من شدة حياءها، حتى لكأنها صنم مُزيّن
وإن هذه الظبية الفتية التي يصف منعتها ورعايتها للمرعى الصعب وسط هذا القفر وجرح جبينها من مدّها رأسها وعلك الشوك والحمض الذي وجدته هذه الظبية مع ذلك لم تكن وحدها، بل كانت أُمًّا تُزْجي معها صغيرها، أي تسير به وسط هذا كله.
والعالج: "هو ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض"، والمتحيّر: الممتلأ بالماء، "وتَحَيَّرَتِ الأَرضُ بالماء إِذا امتلأَتْ"، وقفرًا: "هو الخلاء من الأرض"، وتُريّب: "أمر ريّاب : مفزع"، فوحوش هذه المنطقة الخطوة في حالة سقوط المطر وجري السيل وتعذّر السير، لا تؤمن فيه على ترك أولادها فيه، فحالة المنطقة "تُفزّع" الوحش فيه على أولادها، فكيف وهذه الظبية قد نزلت من مكان عال إلى مكان منبسط غارق في الماء. وأمامها صغيرها، دون خوف أو تردد.
وبقية الأبيات في مشهد الظبية تصف وعورة هذا الطريق الصعب التي سلكته الظبية وصغيرها، ومشهد الظبية ككلّ لا يتجاوز السبع أبيات، سبع أبيات لم يكن فيهما إلا تشبيهان اثنان لا ثالث لهما. وكل تشبيه منهما كان يؤدي غرضًا فنيًا يفيد في رسم صورة المشهد، وليس لمجرد إظهار البراعة في التشبيه، فالتشبيه الأول ظهر عندما كان يصف أكلها للنبات الشائك وخضب الشوك لجبينها خلال ذلك، فترك المشهد ليشبهها بالعروس التي تبذّل جمالها في عرسها بملاعبتها صويحباتها، والتشبيه الثاني جاء عندما وصف قرون صغيرها القصيرة حديثة الإنبات برؤوس أقلام البوص المغمسة بالحبر. ويشترك في الموضعين عامل الزمن بين المشبه والمشبه به، ففي الموضع الاول، هو ذلك الوقت الذي يمر في عرك الظبي للشوك والحمض واستغراقه فيه حتى انجراحه دون أن يحس، وهو فيه أيضًا ذلك الوقت الذي يمر في حركة العروس مع صويحباتها ونسيها لنفسها في اللعب واللهو دون أن تحس هي أيضًا - وفي الموضع الثاني هو ذلك الوقت الذي يمر في كلمة "تَزجي أَغَنَّ"، من سير الظبية الحذر في المكان العالي الزلق إلى بطن الوادي، ومعها صغيرها المتقدم مثلها، وهو فيه أيضُا ذلك الوقت الذي يمرّ في "أَصابَ مِنَ الدواةِ مَدادَها" لقلم يدخل الدواة ويخرج منها مغمّسًا بالحبر، أو هو لم يزل يسيل منه.
فهذه هي الوظيفة الفنّية للتشبيه في إطار القصّ، فلولاه كيف كان سيحسّ أحد بهذه الحركة الزمنية في المشبّه، فتزجي أغنَّ، هذه لقطة من بعيد قد لا ينتبه أحد لتفاصيلها، ثم جاء المشبّه به ليحوّل المشهد إلى لقطة مقرّبة، كلوز أب، ولولاها لما أحسسنا كأننا نملك الزمن بالتمهّل في مراقبة مروره.
. .
وهذا ديوان من عيون الشعر العربي، وعديّ كان يتمهّل في نظم الشعر، ولا يخرجه للناس إلا بعد عناء وتهذيب ومراجعة مستمرة.
فكان شعره كله من طبقة عالية ليس فيها ساقط أو غثّ، وهذه القصيدة التي فيها أبيات الظبي التي تزجي وليدها طلاوتها تستعاد في كل وقت، وهي متمهّلة غاية التمهّل في نسجها الفريد.