What do you think?
Rate this book


108 pages, ebook
First published January 1, 2009
فأقول: »يا أمي.. لك مؤونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولي مؤونتي من المتنبي والشريف الرضي والأغاني وهازليت وتاكري وديكنز وماكولي؛ ولا غنى بك عن سمنك وبصلك ولا بي عن هؤلاء؟« فتبتسم وتقولي: »طيب«.. وتدعو لي بالتوفيق. وكنت أشتري ديوان الشعر ورقاً، أعني بغير غلاف أو تجليد، ليتسنى لي حين أخرج من البيت أن أحمل معي ملزمة أو ملزمتين، أقرأ فيهما وأنا جالس في مقهى، أوَسبيل الحيَاة إذ أتمشى على شاطئ النيل. وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب؛ وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نتفرق لا تدور إلا على ما نقرأ؛ وكان أحدنا يلقى صاحبه في الطريق اتفاقاً فيقول له: »لقد عثرت على كتاب نفيس بغلاف فتعال نقرأه« لا يدعوه إلى طعام، أو شراب، أو سينما، أو لهو، بل إلى قراءة كتاب وكان كل من يقع على كتاب قيم يخف به إلى صاحبه فينبئه به ويلخصه له ويحضه على اقتنائه. وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين يحثوننا على التحصيل وييسرون لنا أسبابه، ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب »الرسمي« كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين
العربي والإنجليزي؛ وغيرهما أيضاً من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة. وتزوجت وفي صباح ليلة الجلوة ودخلت مكتبتي ورددت الباب وأدرت عيني في رفوف الكتب، فراقني منها ديوان »شيللي« فتناولته وانحططت على كرسي وشرعت أقرأ ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة وكانوا يبحثون عني في حيث يظنون أن يجدوني — في الحمام — وفي غرفة الاستقبال وفي »المنظرة — حتى تحت السرير بحثوا، ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة لأني )عريس( جديد لا يعقل في رأيهم أن يهجر عروسه هذا الهجر القبيح الفاضح وكانت أمي في )الكرار( أو المخزن تعد مالا أدري لهذا الصباح السعيد فأنبأوها أني اختفيت كأنما انشقت الأرض فابتلعتني، وأنهم بحثوا ونقبوا في كل مكان فلم يعثروا لي على أثر، فما العمل؟ فضحكت أمي وقالت: ليس في كل مكان — اذهبوا إلى المكتبة فإنه لا شك فيها. فقالت حماتي وضربت على صدرها بكفها: في المكتبة؟ يا نهار أسود! هل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟ فقالت أمي بجزع، اسمعي.. كل ساعة من ساعات الليل والنهار وقت كتب.. افهمي هذا وأريحي نفسك، فإن كل محاولة لصرفه عن الكتب عبث. فقالت حماتي: »لو كنت أعرف هذا … مسكينة يا بنتي … وقعت وكان ما كان.« فقالت أمي: »هل تكون مسكينة إذا وطدت نفسها على هذه المعرفة؟ ويحسن أنتكبحي لسانك، وأن تدعي الأمر لبنتك فإنه من شأنها.« فلم تكبح لسانها بل قالت: »لو كانت ضرة.. لكان أهون«