مولده ووفاته في البصرة. كان كثير التطواف في البوادي، يقتبس علومها ويتلقى أخبارها، ويتحف بها الخلفاء، فيكافأ عليها بالعطايا الوافرة. أخباره كثيرة جداً. وكان الرشيد يسميه (شيطان الشعر). قال الأخفش: ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من الأصمعي. وقال أبو الطيب اللغوي: كان أتقن القوم للغة، وأعلمهم بالشعر، وأحضرهم حفظاً. وكان الأصمعي يقول: أحفظ عشرة آلاف أرجوزة. وللمستشرق الألماني وليم أهلورد كتاب سماه (الأصمعيات-ط) جمع فيه بعض القصائد التي تفرد الأصمعي بروايتها. تصانيفه كثيرة، منها (الإبل-ط)، و(الأضداد-ط)، و(خلق الإنسان-ط)، و(المترادف-خ)، و(الفرق-ط) أي الفرق بين أسماء الأعضاء من الإنسان والحيوان..
لم ينقطع اهتمام العلماء المتقدمين والمتأخرين من فجر الإسلام وحتى يومنا هذا بالشعر العربي القديم، وتنوعت جهودهم بين النقد والحفظ والشرح والتحليل، وفي كتاب "فحولة الشعراء" للأصمعي خُطَّ نموذجاً لهذا الاهتمام العلمي الجليل.
عبد الله بن قريب بن عبد الملك بن أصمع، وُلد في البصرة عام ١٢٣ هـ، المدينة التي كانت مركزًا ثقافيًا مزدهرًا بالعلماء والشعراء والأدباء، فتلقى تعليمه على يد كوكبة من أعلام عصره، في مقدمتهم أبو عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة-، والخليل بن أحمد الفراهيدي، والإمام جعفر الصادق، وحماد عجرد، وحماد بن سلمة.. وغيرهم.
تميّز الأصمعي عن أقرانه بمنهجه الفريد في هذا الكتاب في جمع المادة الشعرية، وتوجّهه إلى البادية للسماع من الأعراب، وجمع بحر زاخر من الشعر لم يصل إليه غيره، وقد عُرف بمكتبته الضخمة، وذكر بأنه عندما سافر مع الرشيد إلى الرقة حمل معه ثمانية عشر صندوقًا من الكتب، مؤكدًا أنه خفف الحمولة، وأنه لو أتيحت له فرصة لحمل أضعاف ما حمل.
تبوّأ الأصمعي مكانة مرموقة في مجالات معرفية متنوعة، شملت الشعر ونقده، والتفسير، والحديث، والنحو، وامتاز بذاكرة فذّة وذكاء حاد، إلى جانب خفة الروح وبراعته في رواية النوادر، وانتشرت أخباره وأقواله حتى أصبح من النادر العثور على مرجع أدبي أو غيره إلا وذكر فيه.
يضم كتابه هذا آراءه وانتقاداته في مجموعة من شعراء الجاهلية والإسلام، وقد نقلت أولًا عن تلميذه أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان، ثم عن أبي حاتم تلميذه ابن دريد -اللغوي المعروف-. ولم يقدم الكتاب تعريفًا شاملًا لمفهوم "حولة الشاعر"، فعندما سأل أبو حاتم أستاذه الأصمعي عن معنى الفحل، أجاب: "من كان له فضل على غيره". غير أن المعاجم اللغوية مثل لسان العرب قدمت تعريفًا نصه: "فحول الشعراء هم الذين غلبوا بالهجاء من هجاهم، مثل جرير والفرزدق وأشباههما"، إلا أن هذا التعريف يبدو قاصرًا عمَّا حدَّدته معايير الأصمعي، فنجده يصف شعراء بالفحولة لأسباب متنوعة: طفيل الغنوي: فحل لأنه "غاية في النعت". كعب بن سعد الغنوي: ليس من الفحول إلا في المرثية لتفرده فيها. لبيد: ليس بفحل رغم جودة صنعته، لأن شعره يفتقر إلى الحلاوة. الحويدرة: لو أنتج خمس قصائد مثل قصيدته المشهورة لكان فحلًا. ومن هذه الأمثلة يستنتج لقارئ بأن الأصمعي يقيس فحولة الشعراء بمعايير ثلاثة: جودة السبك، وبراعة المعنى، والإنتاج الشعري.
ويروي ابن دريد أن الأصمعي كان يفضل النابغة الذبياني على جميع شعراء الجاهلية، وقد أكد هذا التفضيل في آخر حواراته قبل وفاته عندما سُئل عن أول الفحول فأجاب: "النابغة الذبياني"، ولم يطل الأصمعي حتى غيّر رأيه بعد طول عمرٍ وتأمل، فقال: "بل أولهم جميعًا في الجودة امرؤ القيس، وله السبق والتقدم، وجميعهم أخذوا من قوله واتبعوا مذهبه"، واستشهد بقول امرئ القيس: وقاهم جدهم ببني أبيهم وبالأشقين ما كان العقاب
معتبرًا إياه من أعظم ما قيل في الشعر.
وفضّل الأصمعي النابغة على زهير بشكل قاطع، قائلًا: "ما يصلح زهير أن يكون أجيرًا للنابغة" واعتبر أوس بن حجر أشعر من زهير، وأثنى على طفيل الغنوي الذي كان يُسمى في الجاهلية "المُحبَّر" لحسن شعره، وقال عنه: "طفيل عندي في بعض شعره أشعر من امرئ القيس"، ونقل رأي معاوية بن أبي سفيان في طفيل: "دعوا لي طفيلًا، فإن شعره أشبه بشعر الأولين" .
أظهر الأصمعي تحفظًا في الحكم على شعراء العصر الإسلامي، فعندما سُئل عن جرير والفرزدق والأخطل، قال: "هؤلاء لو كانوا في الجاهلية لكان لهم شأن، ولا أقول فيهم شيئًا لأنهم إسلاميون"، رغم تحفظه الظاهري، نقل عنه أبو حاتم أنه كان يفضل جريرًا على الفرزدق، وأبدى إعجابًا خاصًا بالأخطل قائلًا: "لو أدرك الأخطل من الجاهلية يومًا واحدًا، ما قدمت عليه جاهليًا ولا إسلاميًا".
أرى أن كتاب فحولة الشعراء -والله أعلم- كتابًا نقديًا مهمًا لمن أراد الوقوف على منهجية الأصمعي في تقييمه للشعراء، وتحليل الشعر، والكشف عن معاييره النقدية، غير أن الفائدة الكبرى منه تكون لمن هو عارف ومختصّ في هذا المجال.