كانت بدايته جميلة، في كلامه عن الأخلاق الإسلامية التي تستمد مصادرها من القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة والتسليم، وعلى العرف
واستمرت هذه البداية الجميلة أيضًا في الباب الذي يليه التي تحدث فيه بشكل فاتن عن حالة المجتمع الأندلسي في عصر ملوك الطوائف، من ثلاث نواح مؤثرة، الناحية السياسية والاجتماعية والفكرية
وبدأ الكتاب في التدهور، ففي كل صفحة كنت أقول كيف يمتلك المؤلف هذه القدرة الهائلة على التطويل، فالكتاب سبعمائة وسبعون صفحة!، ولا أدري لماذا هذا العدد الكبير من الصفحات لأنه من الممكن اليسير أن يصير الكتاب إلى أقل من نصفه دون أن يكون نصيب قارئ الكتاب المختصر أقل من نصيب قارئ الكتاب الأصلي المطوّل على أي حال!، فهذا التطويل الخارق كان يدور حول دائرة محددة من الشعراء، وهم لا يخرجون في الغالب الأغلب عن: ابن زيدون، وابن خفاجة، وابن المعتز، وابن الحداد، وابن شهد، والمعتمد بن عباد، وبالتأكيد: الإلبيري الزاهد ذلك الذي يعد أكثر مَن ورد ذكره من الشعراء في هذا الكتاب، وهو يشبه زهديات أبو العتاهية في العصر العباسي
وهذه الزيادة الهائلة في عدد الصفحات جاءت نتيجة لقراءة قصائدهم، ثم وضع ما استخرجه من معانيها على أقسام مضامين الأخلاق، فالمضمون الاجتماعي مثل الزهد في الدنيا، ويأتي بهذه الأبيات التي ذكر فيها الشاعر معنى من معاني الزهد، ويسبقها بنثر البيت الشعري، أي بذكر نفس معانيه ولكن نثرًا، كالتمهيد له (!)، ثم يأتي بالبيت أو الأبيات الشعرية، قال مثلا: الشاعر الإلبيري يرى أن الدنيا لا تساوي شيئًا يذكر، فإنها تسوء تارة، وتسر تارة أخرى، ولو فكر فيها الإنسان، فلا يجدها سوى فيء أو حلم، فقال:
فليست هذه الدنيا بشيءٍ تَسوؤكَ حقبةً، وتَسرُّ وقتا
وغايتها إذا فكّرت فيها كفيْئكَ أو كحلمك إن حلُمتا
أو يقول المؤلف مثلا: وتحدث ابن زيدون في معرض مدحه لأبي الوليد بن جهور عن جهده في العبادة والطاعة في شهر رمضان الذي قارب على الانتهاء، فظهرت خلاله أعماله الصالحة التي ذاع صيتها بين الناس، فهو مؤد للفرائض، محافظ على النوافل، وملازم لبيت الله طلبًا للأجر الكبير والثواب الأعظم، وهجر بيته الذي فيه أنسه وتنعمه حبًا خالصًا لله وتعلقًا به عز وجل، مما يعكس أسره على الأخلاق اقتداءً والتزامًا، وعلى السلوك ترسمًا وامتثالا:
لئن ينصرم شهر الصيام لبعدما نثا صالح الأعمال ما أنت عاملُ
رأيتَ أداءَ الفرض ضربة لازمٍ فلم ترضَ حتى شيّعتهُ النوافلُ
سدكتَ ببيت الله، حب جواره لك الله بالأجر المضاعفِ كافلُ
هجرت له الدار التي أنت آلفٌ ليعتاده محض الهوى منك واصلُ
في لحظة معينة يذهب التطويل والإسراف في الإطالة بكل مزايا الكتاب الأخرى!، كتلك اللحظة التي أتعب فيها من ملاحقة كلام لا يتوقف تدفقه من فم محدثي، فأسرح إلى تأمل حركات هذا الفم واتسائل بيني وبين نفسي ألا يفتر؟، ألا يتعب؟، فالآن لا أعرف عن هذا الكتاب سوى إنه طويل طويل فيما لا داع منه، ومليء بالتكرار، فالأبيات الواحدة قد تذكر مرارًا مرارًا مرارًا ولو بشكل مجتزء، هنا جزء وهناك جزء ويسبقه ويليه تفكيكه النثري للأبيات فيما لا جديد منه وحديثه العام عن الأخلاق، وعن أن هذا الخلق جاء في القرآن في الآيات كذا وكذا، وجاء في الحديث الشريف كذا وكذا، وجاء أخيرًا في الشعر في قول فلان كذا كذا
ففقدت متعة القراءة وسط هذا السيل الكلامي، وأنهيت الكتاب بأسى شديد، فما هذا الكتاب الذي أتت خاتمته لتذكر الأهداف التي استقرأها واستخرجها المؤلف من الشعر الأندلسي في عصر الطوائف، على هذا الأسلوب العام جدًا والمدرسي حتى الثمالة، قال معددًا النقاط:
- أدرك الشعراء الدور الذي تقوم به العبادات، لذلك جعلوها ضمن رؤيتهم الشعرية منطلقين منها باعتبارها المنبع الذي يغذي هذه الأخلاق، وكذلك أدركوا أهمية الاستقامة والصلاح في حياة الفرد، بحسبانها قيمة أخلاقية من جهة وميزاناً أخلاقياً تقاس عليه باقي القيم التي تنتظم البناء الأخلاقي العام من جهة أخرى
- كان لكثير من القيم الأخلاقية الأثر في تفعيل شعر الأخلاق في ذلك العصر، فمن خلال الشكر والحمد أظهر الشعراء مدى الرفعة والفضل الذي يتمتع به الإنسان الشاكر والحامد، كما ساعد اللوم والعتاب في تفعيل القيمة الأخلاقية من خلال الإقلاع عن الذنب والندم على فعله، كما أظهر الشعراء ما تعكسه عزة النفس على الأخلاق حيث أن طالبها لا تصدر عنه من المحقرات ما ينافي القيم السليمة، كما كان للحلم الأثر العظيم في تقوية لحمة المجتمع وتعميق أواصر الأخوة، وشكلت العفة والحياء معالم الشخصية وأبعادها الأخلاقية والاجتماعية
- احتلت الشجاعة مساحة كبيرة من شعر هذا العصر باعتبارها من دعائم الأخلاق الإسلامية، ومن مثبتات القيم والفضائل، كما واحتل الجود والكرم كذلك مكانة مرموقة كونه يضيف إلى المسألة الأخلاقية كمالاً وانسجاماً بين عناصرها وفضائلها المتنوعة
-أبرز شعراء هذا العصر الأهمية العظمى لتربية النشء تربية أخلاقية قائمة على الأسس الإسلامية والمبادىء الدينية، كون هذه التربية كفيلة بإنشاء مجتمع صالح متماسك يسوده الطهر والعفاف والإخاء المعاش
- مثل الشعراء واقعهم المعاش بكل جوانبه الإيجابية والسلبية من خلال تناولهم لموضوع الإخاء والصداقة، فكشفوا بذلك مكنون النفوس وتداخلاتها، ومضمون الحياة الخارجية ومؤثراتها
- أدرك الشعراء أن بر الوالدين وما يصحبه من مشاعر وظواهر أخلاقية بين الآباء والأبناء من شأنه أن يعزز المشروع الأخلاقي في المجتمع، وأن يوفر نماذج سلوكية تُحتذى أثناء الممارسة والفعل، وإليها يحتكم حين الوقوع في الخطأ أوالنسيان
- أبرز الشعراء المكانة العظيمة التي يحتلها الوطن في النفوس، كونها لا تتعاظم إلا في الضمائر الحية والقلوب النابضة بالوفاء والمتحلية بعظيم القيم والأخلاق
-أظهر الشعراء حرصهم على البنية الأخلاقية للطبقة الحاكمة، كونها محط قدوة تلاحقها الأنظار وتماثلها الأفعال، وتتخلق بأفكارها النفوس، فتنعكس بدورها على أخلاقهم
-أدرك الشعراء دور العلم في بنى الأخلاق الإسلامية بنوعيه الشرعي والتطبيقي، فالشرعي بما فيه من أوامر ونواهي وقيم ومثل يبني النفس الإنسانية على أسس الاستقامة والصلاح، والتطبيقي بفروعه المتعددة يظهر قدرة الخالق في النفس والآفاق مما يعين المرء إلى التوجه إلى خالقه بالعبادة والطاعة والتحلي بالخلق القويم .
هذا لكل جيل ولكل عصر
ولكن توجد قصة أعجبتني كثيرًا، أو في الحقيقة زادتني حسرة على القراءة، تقول القصة إن المعتمد ولّى ابنه قيادة الجيش لمواجهة الأعداء على الثغور، إلا إن ابنه تمارض واستغل تهربه هذا في الإنصراف إلى المطالعة والقراءة، فعاتبه أبوه أشد العتاب، فأرسل الابن قصيدة إلى والده يقول منها ويعتذر عن ذلك الهروب: هبني أسأت كما أسأت أما لهذا العتب آخرْ هب زلتي لبنوتي، واغفرْ .. فإن الله غافرْ
فيجيبه والده بتهكم لاذع لا مثيل له: المُلكُ في طيِّ الدفاترْ، فتخلّ عن قود العساكرْ طف بالسرير مسلمًا وارجع لتوديع المنابرْ واطعن بأطراف اليراع - نُصرتَ - في ثغر المحابرْ واضرب بسكين الدواةِ مكانَ ماضي الحدِّ باترْ أوَلست رسطاليس إن ذُكر الفلاسفةُ الأكابرْ وكذاك إن ذُكر الخليلُ فأنت نحويٌّ وشاعرْ وأبو حنيفة ساقطٌ في الرأي حين تكون حاضرْ مَن هرمسٍ مَن سيبويه مَن ابن فوركٍ إذ تناظرْ هذي المكارم قد حويتَ فكن لمن حاباك شاكرْ واقعد فإنك طاعمٌ كاسٍ، وقلْ : هل من مفاخرْ
قرأت هذه القصيدة مرة بعد مرة بعد أخرى، إنها أوجع من أي رد فعل آخر، فقد أمسكه من اليد التي توجع حقًا