أن تسمع عن المرء ؛ شيء ، وأن تسمع منه ؛ شيءٌ آخر !
هذا بادئُ ما حدث مع كاتب هذا الكتاب ..
كان يسمع عن جماعة الإخوان المسلمين وإمامهم حسن البنا -رحمه الله- ؛ فما يعدُو ظنه بهم أكثر من كونهم دراويش لا يحسنون إلا الذكر ولا يتحدثون -إن تحدثوا- إلا عن الوضوء ونواقضه !
حتى كان يومٌ شهِد فيه هذا الضابط -رئيس نقطة البوليس إذ ذاك- الإمام البنا يخطب ويتحدث عن الإسلام وجوهره ، وعن الدين ومقصده .. الدين الشامل وكيف أنه قادر على حل المشكلات ، اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية ، أوغير ذلك ..
فما كان منه إلا أن قرر الانضمام لصفوف هذه الجماعة ومبايعة إمامها الذي كان يرى أن ضباط الشرطة هم أول من يعنيهم الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنهم الرعاة الحقيقيون الذين تقع على عاتقهم مسئولية الحفاظ على أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم .. وهذه المسئولية إن لم تنطلق من مخافة الله والحفاظ على دينه والتمكين لشرعه في الأرض ؛ فلن يتقدم المجتمع الذي ينهضون بحراسته .
وهكذا تغير مذاق هذا الضابط لعمله بعد أن صحح القبلة وصوّبها لله .. وبدا ذلك واضحاً جلياً في عمله كما بيّن الكاتب في ما قصّ وحكى من أحداث ووقائع وقعت معه ، وكيف كان للمودة وحسن الخلق بالغ التأثير في نفوس العتاة وقلوب المجرمين .
ويتناول الكتاب كثير من الأحداث المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين فيما بينها وبين نفسها وفيما بينها وبين خصومها ، ويعرِض لذلك ويوضح كثير من الأمور ، كحادث القطار الانجليزي وموقف السكري مع الإمام البنا -رحمه الله- وانفاصله عن الجماعة ، وحادث تفجير فندق الملك جورج "وكر الانجليز" ، ويوضح موقف الإخوان من السياسة والقصر ، وموقفهم من حكومة صدقي وحكومة النقراشي التي اضطرت للاستقالة على إثر مظاهرة كبري عباس أو إن شئت فقل مذبحة كبري عباس .
ويتحدث عن الدور العظيم الذي قام به الإخوان المسلمين في حرب فلسطين وما لاقوه إثر ذلك من بطشٍ وعسْف وتعذيب واعتقال داخل السجون ، وقبول النقراشي توقيع الهدنة الثانية مع اليهود في الوقت الذي كانت فيه كتائب الإخوان تقذف فلذات أكبداها في فلسطين لحرب اليهود .
ثم يتحدث في فصل كامل عن سنة ١٩٤٨ المليئة بالأحداث من اغتيال للخازندار الذي تم بغير علم المرشد ، ونسف بعض مساكن في حارة اليهود في القاهرة ردا على مذبحة دير ياسين في فلسطين ، وقضية السيارة الجيب ، وحل جماعة الإخوان والدعاوى التي أتخذت تبريرات لذلك ، ثم قتل النقراشي .. وينقل الكاتب جزءً من رسالة الإمام البنا -رحمه الله- الأخيرة لاخوانه بعد أن حيل بينه وبينهم ، وتكلم فيها عن الدوافع الحقيقة لموقف الحكومة من جماعة الإخوان المسلمين .. ثم اغتيل الإمام البنا -رحمه الله- نسأل الله أن يتقبله في الشهداء . وأثر ذلك في نفوس المسلمين أبلغ تأثير ، ولم يحتمل الإخوان فقد المرشد من بين ظهرانيهم ، والتنكيل برجال الجماعة في السجون والمعتقلات ، فكان الرد المنتظر على هذا الحادث هو قتل إبراهيم عبد الهادي الذي قدم رأس المرشد هدية للملك فاروق يوم احتفاله بعيد جلوسه على العرش .. لكن العملية لم تنجح .
ثم يمضي بنا الكاتب للفترة العصيبة والمحنة التي مرت بها الجماعة بعد تولي المستشار حسن الهضيبي قيادة الإخوان وما وقع من أحداث مؤسفة داخل صفوف الجماعة من مقتل سيد فايز -رحمه الله- وإرسال السندي لجماعة من أفراد النظام الخاص لمنزل الهضيبي إرغاماً له على الاتقالة واحتلال مجموعة أخرى لمركز الإخوان العام .. ولكن هذه الفتنة كشفت عن أصالة هذه الجماعة وصلابة قاعدتها فيما جرت به الأحداث بعد ذلك .
وقبل ذلك عرض الكاتب لتأسيس "النظام الخاص" وأسلوبه في التربية الذي كان يصل أحياناً للمغالاة في الطاعة ، وفهم الإمام -رحمه الله- لمعنى القوة المطلوب في الإسلام ؛ والذي يتكون من درجات.. أولها قوة العقيدة والإيمان ، وثانيها قوة الواحدة والارتباط ، وثالثها قوة الساعد والسلاح ، ورأي الإمام في الثورة المسلحة والتدريب على الأعمال الفدائية التي لا يقوى عليها إلا من حصّل درجات القوة الثلاث .
ويذكر الكاتب ما كان من أمر جمال عبد الناصر ، كيف كانت صلته بالإخوان وكيف انحرف ، كيف بايَع وكيف خان ، وكيف أعدّ ضباطاً موالين له لا يرتبطون بفكر أو عقيدة ، والضباط الأحرار كيف تكوّنوا وماذا كانت الصلة بينهم وبين النظام الخاص للإخوان المسلمين .. ويذكر مَن ثبتوا على باطل عبد الناصر ومن ندِموا ولاتحين مندَم !
ويذكر الكاتب قصة حريق القاهرة كيف بدأت شرارته الأولى في الظاهر ومَن كانت له الأصابع الخفية في الباطن ، ويذكر كثيراً مما يثبت أن لجمال عبد الناصر أصابع وأيدي في هذا الأمر .
ثم ينتقل الكاتب للكلام عن حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ والمباحثات والاتفاق الذي تم بين عبد الناصر والإخوان لقيام هذا الانقلاب ، وتنصُّل عبد الناصر من الالتزامات التي تقتضيها المشاركة شيئا فشيئا ، الأمر الذي أبان للمرشد حينها عدم اطمئنانه للحركة واتجاهها وأنها لا يمكن اعتبارها حركة إسلامية وإنما يمكن اعتبارها على أحسن الوجوه حركة إصلاحية يبتغي القائمون بها الإنفراد بالعمل ! وياليتها وقفت عند هذا الحد ، لكن ما إن مر عام ونصف حتى حلّ عبد الناصر جماعة الإخوان وزجّ بأعضائها في السجون .
ويتكلم عن مسؤلية الإخوان في حكم عبد الناصر وخطأها حين رضيت من عبد الناصر جهده البراق في جمع صفوف الضباط بغير أن يستوقفها منه كمال إخلاص لدينه وتحكيم شرع الله ؛ إذ عناهم الكم أكثر مما عناهم الكيف .
وأرى أن أهم ما في الكتاب هو سرد الكاتب لوقائع التاريخ من حيث صلة الإخوان بعبد الناصر ومَن معه مِن عصابة قيادة الثورة .