(أنا لا ألخص الكتب، أنا أتحدث عن تجربتي معها) قبل سنوات بعيدة لم أعد أذكر كم لأن ذاكرتي تتجدد كل فترة بحيث أني تقريبا أنسى معظم ما جرى، فأنا من أولئك الذين لا يستمسكون كثيرا بالذكريات و يدعوها تتفلت... المهم أنه قبل سنوات بعيدة دخل الأستاذ القاعة و قال قررت عليكم السلم المنورق في فن المنطق، فاشتروه مع شرحه و اقرأوه لأني سأسألكم عنه، و كانت هذه العبارة الصغيرة هي أول مرة و آخر مرة تأتي فيها سيرة المنطق تحت أروقة الكلية!! ه فكانت بداية تعرفي على المنطق حين اشتريت السلم هذا مع شرحين له و طفقت أقرأ فيهما، فوجدت أني أحببته كثيرا بيد أني لم أفهم... و فكرت حينها لو أني فقط تعلمت المنطق فسأكون سلمى أظرف... قرأته وحدي و حاولت قراءته تارة أخرى مع صديقة أجنبية برفسورة بالرياضيات عبرت عن رغبتها بقراءة المنطق الكلاسيكي الإسلامي و أنها ستساعدني في الشرح، إلا أن المشروع فشل، فعربيتها لم تسمح لها بفهم الاصطلاحات، و لا انكليزيتي سمحت لي بشرح ما لا أفهمه... فأنت تقرأ الكلمة و تعرف معناها اللغوي و لكن لا تعرف ما المقصود بها منطقيا... ه و كانت آخر محاولة حين حصل حديث مرة عن طرق التدريس القديمة، فتحدث شخص أجلّه كيف أن ابنه الشاب حاليا يدرس المنطق عند شيخ يجعله يحفظ مسائل المنطق عبر عدها على أصابعه بطريقة ما، فعبرت عن أمنيتي لو أدرس المنطق أنا أيضا و لكن لم أعثر على من يعلمني، فقال أني لست بحاجته و لا جدوى من دراسته، و المنطق أمر فطري، فالمرء إما أن يكون منطقيا أو لا يكون، و لذلك لا يحتاجه الذكي، و لا هو يفيد الغبي... و طبعا قد قصد بعدم حاجتي أني ذكية، و ليس أمرا آخر كما قد يظن قارئ شرير سيء الظن... و هكذا صدقت الأمر و غضضت النظر عن الموضوع... هذا ما جرى قبل عصر رفع المحاضرات على اليوتيوب...ه فما حصل بعدها، أن الزميلة سوسن العتيبي وضعت تنويها عن محاضرات بلال النجار لشرح الشمسية في فن المنطق على اليوتيوب، فتجدد حلمي القديم... و لأجل أن أسلوبه في أول محاضرة أعجبني كثيرا، فقررت أن أخوض هذه التجربة و أتابع الكورس كاملا، حوالي المئة ساعة... و الحمد لله و بعد عامين _لبطئي السلحفائي المعهود عني دائما و أبدا_ انتهيت منه...ه الرسالة الشمسية لـ نجم الدين الكاتبي من أشهر متون المنطق، قد ألفه لأجل الوزير شمس الدين المحب للعلم، و لذلك سماه باسمه... و نظرا لاختزال الكتاب و صعوبة عبارته، و تفننه في إغلاقها بحيث لا يفهمها إلا المتقدمون في هذا الفن، فقد شُرح عدة شروح من أشهرها شرح الرسالة الشمسية للقطب الرازي التحتاني _و يسمى بالدمشقي أيضا_ من القرن الرابع عشر الميلادي... و كتاب القطب التحتاني هو ما شرحه بلال النجار في محاضراته...ه شرح الشمسية هذا معقد أيضا، فهو كتاب متقدم في فن المنطق و ليس لشخص مبتدئ، و من الصعب فهمه من دون أستاذ، بل المنطق عموما من الصعب تحصيله من دون أستاذ يربط النظري بالعملي... لكن على ما يبدو أن محاولاتي السابقة مع المنطق كانت مجدية، و لذلك وجدت معظم المحاضرات مفهومة و تفاعلت مع معظم الأسئلة، و لو أن ضرب الأمثلة بالرموز (أ) و (ب) و (ج) و محاولة البرهنة عبرها، كانت من أصعب ما فيه، و لذلك فتبسيطها بالرسوم البيانية أو حتى بأمثلة مجسدة يجعلها مفهومة أكثر... و ما فتئت أفكر طوال المحاضرات أنه إن كان الشرح صعبا هكذا فهل حقا فهم الوزير المتن المختزل المـُهدى له؟ أو أنه لم يفهمه و اكتفى بشرف تلقي هدية نفيسة كهذه؟ المحاضر بلال النجار _و هو أستاذ أردني في علوم العقليات_ يملك أسلوبا سلسا في الشرح و طرح الأسئلة التي تحفز الذهن و رسم أشكال بيانية للرموز، و الحق يقال أن القدرة على تدريس مثل هذه المواد موهبة من الله، و قد وهبها هذا الأستاذ، زاده الله علما... و كانت متعة إضافية تلك الاستطرادات التي تحدث بها عن أنواع المنطق القديم و الحديث و المقارنات التي يعقدها... ه
لا أشعر بأني امتلكت ناصية علم المنطق لدرجة استخدام مصطلحاته بثقة، كل ما أشعر به أن المحاضرات وضعت قدمي على الطريق، و لم يعد علما مستغلقا، و صارت المصطلحات مفهومة إلى حد كبير... و هذا انعكس على فهمي لكتب أخرى أقرؤها في الفلسفة و الكلام... و مما أسعدني رؤية كيفية استخدام مصطفى صبري في كتابه موقف العقل بعض هذه القواعد في أدلته... إلا أن المنطق علم يحتاج لحفظ أيضا، و هذا ما لم أقم به، و لذلك نظموا له قصيدة السلم المنورق لتساعد على الحفظ... لكني أتأمل أن أحفظ عبر قراءة كتب أخرى في المنطق إن شاء الله بدل الحفظ المباشر...ه
و قد حصل لأجل عيني المنطق، أن اضطررت لخيانة رابطة كارهي القهوة التي كنت شكلتها مع أخي، و شربتها حتى أصحصح و أفهم أكثر، و اعترفت _بكل برجماتية_ بفضائلها في تنشيط الذهن أمام أبي صاحب رابطة محبي القهوة، ضاربة بطعمها المزعج عرض الحائط، و كله في حب العلم يهون... لكن هل يعتبر مخاتلة للنفس أني احتجت لمحفز خارجي كالقهوة حتى تزيد حدة ذهني؟ و هل كان الأولى لو قاومتها؟ هذه إشكالية كنت أفكر بها كلما ابتلعت ملعقة القهوة هذه...ه ثم ليس صحيحا أن المنطق لا يقدم شيئا لمتعلمه، فعدم الجدوى منشأه الحفظ المجرد عن الفهم، فهذا فن يحتاج دربة، و إن كان الغبي لا ينتفع به نظرا لأن الحماقة أعيت من يداويها، لكنه يفيد الراغب بتشغيل عقله ذكيا كان أم بسيطا، فهو عامل مساعد على ضبط الذهن و ترتيب الأفكار و تمحيصها في رأسه... سيما و أننا في عصر يشكك في البديهيات و يغرق إعلامه الناس بالتناقضات التي تشوه التفكير الفطري الإنساني السوي، حتى تمرر عبرها ما تشاء... فنحن ملوثون بالسفسطات و المغالطات حد النخاع... و لذلك جرعة من دراسة المنطق تفيد أي شخص... و لو أنه ليس هذا هو الكتاب المناسب لمن يريد الابتداء...ه
و شكرا لليوتيوب الذي يحقق أمنياتنا العلمية، فحالنا معه _كما عبرت عنه سوسن_ يشبه الرحلات العلمية التي كان يقوم بها أجدادنا لطلب العلم من العلماء و شكرا لسوسن، و للأستاذ بلال النجار القدير و جزى الله خيرا كل شخص يثري الشبكة العربية بما هو مفيد و يرفع من سوية محتواها
السؤال الأهم بعد كل هذا هل صرت سلمى أظرف؟ لست متأكدة...أظن أني صرت أظرف بالقوة (أي الإمكان)، و ليس بالفعل (أي الوجود حقيقة)، حيث أن خاصية الظرافة حاليا معطلة حتى تزول الشدة عن العباد و البلاد... لكني متأكدة أني صرت أجمل بالقوة و الفعل... فهذا ما يفعله المنطق على أية حال، يجعلنا أجمل... أليس كذلك؟
سلمى 18 تشرين الثاني 2015
---
الكلام السابق 12 تشرين الثاني 2015 وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين بعد عامين انتهى أخيرا إن شاء الله أتحدث قليلا عن تجربتي، حين تعود الرغبة في الكتابة
وأخيراً، ولله الحمد انتهيت من دراسة هذا الكتاب العظيم، اعتقد أن الرسالة الشمسية مع شرحها للقطب التحتاني من أفضل كتب المنطق حيث تشمل معظم أبوابه وأهم نكته ودقائقه. لكن الكتاب صعب ويحتاج لجهد كبير في فك مصطلحاته وفهم مراد الكاتب الرسالة من الكتب التي تنعّش وتعّمل ملكة التفكير عند الإنسان. تمّت
الكتاب مبسوط ويسير العبارة ويشرح كل مصطلح وفكرة من بدايتها، إلا أن الفرق في التفصيل وفي صعوبة بعض الاعتراضات. في الحقيقة الابتداء بشرح الشمسية عوضا عن التدرج من إيساغوجي ثم التهذيب ممكن قريب الحصول، لكن بلا شك التدرج من إيساغوجي ييسر قراءة شرح القطبي.
يبقى شيء. كتبت في تويتر أثناء القراءة: "كلما حاولت دراسة المنطق -بتحرير المتكلمين\الفلاسفة- تتأكد في ذهني فكرة أنه علم ممل، ممل، ممل. ستجد بعض أساليب الاستدلال الجميلة، وهذا ما أركز عليه فعلا إذا درست المنطق. لكن غالبا في وقت ما -عند عكس النقيض غالبا بالنسبة لي- الواحد يصرخ ملء رئته: خلااااص طفشتونا." (1) وهذا أمر حصل معي في التهذيب أيضا، على أنه أخصر من الشمسية، فالشعور كان مضاعفَ الوقع على النفس مع الشمسية. فبالإضافة لنوعي عكوس القضايا الموجهة، هناك مبحث المختلطات في الأقيسة، أي القضايا الموجهة الواردة في الأقيسة، ما شروط إنتاجها وما نتائجها، ثم أنواع القياس الاقتراني المركب من الشرطيات والحمليات، ويعني .. الكثير من التفريعات والجداول.
يقول العلامة السعد التفتازاني في مقدمة شرحه على الشمسية: "والمتأخرون أخلّوا بالصناعات الخمس مع عظم قدرها، وطولوا في العكوس والتلازم والاقترانيات مع قلة جدواها."
في أحد المحاضرات، يقترح الشيخ عبد الحميد التركماني ربطا أو احتمالا لحصول هذا الإخلال عند المتأخرين. الفكر عند المتقدمين عبارة عن حركتين، حركة من المطالب المسؤول عنها -هل العالم ممكن الوجود- إلى المبادي -المعلومات المسبقة للشخص-، ثم حركة ثانية من المبادي إلى المطالب - أي وصولا إلى نتيجة أن العالم ممكن في النظر الصحيح، أو أنه خلاف ذلك في النظر الفاسد -. أما الفكر عند المتأخرين فهو الحركة الثانية فقط، أي ترتيب المعلومات للوصول إلى المجهول. الصناعات الخمس متعلقة بمواد القياس، وهي مرتبطة بالحركة الأولى من الفكر، ففي هذه الحركة يحصل جمع المعلومات المناسبة\غير المناسبة التي ستُستخدم للحركة الثانية من الفكر. فكأنهم لما حصر المتأخرون الفكر في الحركة الثانية، اهتموا بالترتيب فقط، أي بالمنطق الشكلي المتمثل بالاقترانيات والعكوس وما فيها من طول كلام وتشعب الاحتمالات. ولما كان الفكر مجموع الحركتين عند الأوائل، اهتموا بشكل ومادة القياس على حد سواء. (2)
الآن، أنا لا أدري إن كان تطويل الكلام في العكوس والاقترانيات غير مفيد. قد يكون تدريبا ذهنيا جميلا على الالتزام في خطوات البرهان والسير المنطقي من سؤال ما، إلى برهان، إلى إجابة. ففي ذلك تدريب وتمريس للذهن على خطوات البرهان والاستدلال.
على سبيل المثال، من المباحث والمسائل هو إثب��ت أن المتصلة اللزومية يلزم منها 1. مانعة جمع بين عين المقدم ونقيض التالي، و 2. مانعة خلو بين نقيض المقدم وعين التالي. أي: إذا كان أ فـ ب فيلزم أنّه: أ.)) لا يجتمع إما أ أو لا-ب وإلا، تكذب مانعة الجمع، فيمكن الجمع، فيمكن أن يجتمع أ و لا-ب إذا كان أ فـ ب. فيلزم أن يجتمع ب و لا-ب وهو محال.
ب.)) لا يخلو إما لا-أ أو ب وإلا تكذب مانعة الخلو، فيمكن ارتفاع لا-أ و ب ويرتفعان بأن يكون: أ و لا-ب لكن إذا كان أ فـ ب فيلزم اجتماع ب و لا-ب، وهو محال
فهذا مثال على طريقة استدلال بقياس الخلف، وفيها تدريب على ملاحظة التلازم بين القضايا (هذا أوضح في عكوس الموجهات، والنقائض)، والتحليل، والالتزام بالسير المنطقي في الاستدلال، ووو. وكل هذا رهيب وحسن. المشكلة، لما تعمل\تقرأ هذا الشيء مليون مرة خلال الكتاب، ولما تتشعب المباحث (كتشعب الضروب المنتجة مع المختلطات، العكوس المستوية وعكوس النقيض للموجهات، ووو) وتُعاد نفس طرق الاستدلال، الموضوع يصير مملا جدا، جدا، جدا. هذا غير أنه يحتاج للحفظ .. وهذا أمر أتجاهله لأني لا أحبه.
المهم، بعد هذا، أنوي قراءة المرقاة وما عليها من حواشي، لأن فيها اهتمام بالصناعات الخمس، واختصار في العكوس والاقترانيات.