على الرصيف أسير بمفردي ينزلق الإسفلت تحت قدمي لا أحاول اللحاق به. على الرصيف المقابل يسير التاريخ في مارشات عسكرية يزأر في تجهم بالغ ولا ينظر خلفه. في منتصف الطريق يسير عيال الله التوابون والكذابون والمجذوبون والمستعصون على التأويل. كلنا يصدق روايته كلنا يسعى لجبر الخاطر كلنا ماضٍ لسفينة نوح وحين وصلنا لمقدمة البحر كانت السفينة قد غرقت.
كنت أودّ أن أقول إنني أغني للورد والأمطار والسماء، وأكتب برومانسية بالغة عن جماليات العشق والخجل والغنج العفيف، وأن أستفيض في قصيدة بطعم السكر وألوان الفراشات وفالس الأحبة. كنت أود هذا حقًا, لكن ماذا أفعل والسماء تلهو بشمس تشوي الفراشات علي مهل. فلنغنِ إذن لقطٍّ أسود, أو شارع يبتلع المارة، أو فالْس عسكريٍّ يصلح للقتلى, أو الإبادة الجماعية للآدميين لصالح الآلة، لنكتب عن جماليات الهزيمة وتبرير الخيبة. .... بس كده كما قالت في مقدمة الديوان تمامًا .. هي تتحدث عن "جماليات" الهزيمة .. و تبرير" الخيبة .. بقدر كبير من الجمال .. والشعر قصائد مشبَّعة تمامًا بالألم ومع ذلك فهي تعيش تمامًا وتتعامل معه بحيادية غريبة .. بل ومدهشة .. الديوان الأول لـ مروة، ولكنه الكتاب الثاني .. نفس اللغة القوي، الكثير من التشبيهات والصور الشعرية المتقنة هذه المرة دوران مستمر حول العالم ومع النفس ، مساءلة لا تنتهي عن جدوى الأشياء!! .. في قصيدة الديوان تقول: العالم ليس بهذا السوء ما زالت النوارس تحتل السماء كما يحلو لها، وورد كثيرٌ ينمو نكاية في الرصاص، وأطفال يرقصون كلما داعبتهم الشمس. .. لا أحب أن أطيل في الحديث عن الديوان، فقد أحببته . كثيرًا بإمكانكم أن تقرؤوا مقالاً نقديًا رصينا عنه هنا: http://www.alquds.co.uk/?p=93853 .... شكرًا مروة :)
سأعد لكم معجزاتي :- بالأمس عبرت الطريق على قدم واحدة فلم تدهسني سيارة و لم يلحظني أحد ، و من أسبوع مضى ، جمعت أسماء الموتى جميعاً و سلمت عليهم واحداً واحداً و في يوم .. حملت التاريخ على كتفي ، و خسرته كله في (دور شطرنج) . هل سمعتم الأوبرا التي ألفتها بمفردي من الأنين ؟ تدربت عليها أثناء مصاحبتي للمرضى و الموبوئين والمجاذيب . مرة عايرت الليل بلونه : أسود و لا يصاحبه سوى المنسيين و مرة سخرت من الشمس و شكلها (الكروي) الساذج تشبه مؤخرة تطل علينا كل صباح بوقاحة بالغة . أجل .. أخرجت لساني للبحر مرتين و بصقت في وجهه بل و فعلت أشياء أخرى لا يليق أن أذكرها لكم مرة صاحبت نملة و أخبرتها بكل أسراري لكنها تركتني في منتصف الحكاية و مضت بيني و بينكم .. لقمة العيش صعبة على نملة وحيدة .
مروة صديقة مقربة ... ولهذا ربما تفاجأت أكثر من جمال كتابها لحد إبهاري ... في البداية ظننت انني سـأقرأ شئ أعرفه بشكل مسبق ... وظننت أن الديوان لن يضيف لي اي جديد بما أني اعرف مروة بالفعل ... لذلك لم استعجل نفسي في قراءته ... أحضرت النسخة من مصر وأعرتها لأحد الأصدقاء ولم تعود لي إلا بالأمس ... وسهرت عليه ... واستيقظت لأكمل بقيته .... ديوان رائع ... وشحنات من المشاعر ... وقصائد لها أكثر من بُعد ... واحد من الكتب التي سأحتاج إعادة قرائتها كثيرا ...
طب انا متوقعش أبدًا انه بالجمال ده . . في اقتباسات كتيره استوقتني . حبيت الشعر وحبيت النصوص النثريه جدًا جدًا . أسلوبها جميل جدًا اعتقد أني هرجع للديوان ده مرة تانية ..
الجمال هو ذلك الجني الأنيس الذي نصادفه في كل مكان. - هيجل -
لم تكن مروة أبو ضيف بحاجة أن تكون على دراية بمقولة هيجل السابقة، فهي أكيدة من مشاعرها، من أن منافذها تقودها لأن ترى الجمال في موجودات على أقصى الطرف، كما أنها قادرة على أن تشهد أحوالا ومقامات له خارج الطيف. هي تخطو في تجربة "أقص أيامي وأنثرها في الهواء" الصادرة عن دار شرقيات في 2013 فقط لتصارع الترتيب الطيفي الذي يصنف الموجودات على مدرج يبدأ بالقبيح جدا وينتهي بالجميل جدا ولا يعترف بأن من القبيح ما هو غاية الجمال، اعتقادها أن عالم الظاهر غاية في القبح، ومن ثم، تكتشف أنه لتحارب ذلك الترتيب فتثبت مشاهداتها كان لزاما عليها أن تحارب الزمن- باعتباره النموذج الأكبر الحاكم لكل ترتيب وتتابع، فتتحداه بإعلان تخليها عن جمال شكلها الظاهر، فتنتصر عليه لبعض الوقت، ثم يتحداها هو في ذات شكلها، في نسختها الأقدم في الزمن - متمثلا هنا في أم متوفاة، فينهار الصراع وتخضع له.
نجدها تخطو أولى خطواتها في الديوان لتقول في ( معجزات صغيرة لا تكفي لإبهار العالم): "أرجوكم/ حاولوا أن تنسوني قليلا/ لا تلتفتوا لهذه الهالة النورانية حول رأسي/ تغاضوا عن صوت أجنحتي إلى أن تكف عن الاحتكاك بالهواء/ دعوا فتات ذهبي وفضتي يزين الأرض قليلا قبل أن تلتقطوه" الشخصية تبدأ في صراعها والمجتمع الذي لا يرى منها سوى جمال الهيئة، تبادر لتنزع عن نفسها جمالها الظاهري الذي يتتبعه الناس، معجزة الشكل، تعلنها صراحة لتلملم جسدها في كيان واحد، ملاك يحاول أن يلملم ظله عليه حتى يستطيع أن يخبرنا بمعجزاته، فتبادر إلى أن تحلل تلك الهالة النورانية إلى ابتسامة وفراشات تبعثها من تحت أظافر الملاك، تفسح له المجال فيخبرنا بمعجزاته الحقيقية، بالجمال الذي يرتبط دوما بمرارة يشعر بها في يومه الواقع، بقدرته على التغلب عليها ولو لوقت قصير عندما يخرج عن السائد المحكوم بفعل الترتيب والمنطق والزمن، فيقول: "سأعدد لكم معجزاتي:/ بالأمس عبرت الطريق على قدم واحدة/ فلم تدهسني سيارة ولم يلحظني أحد، ومن أسبوع مضى، جمعت أسماء الموتى جميعا/ وسلمت عليهم واحدا واحدا/ في يوم حملت تاريخي على كتفي وخسرته كله في دور شطرنج/ هل سمعتم الأوبرا التي ألفتها بمفردي من الأنين؟/ تدربت عليها أثناء مصاحبتي للمرضى والموبوءين والمجاذيب/ مرة عايرت الليل بلونه...// مرة سخرت من الشمس..// أجل أخرجت لساني للبحر مرتين..." فقط عندما ندرك أن المعجزات أضحت فقط في النجاة من أسباب الهلاك اليومي، وأن معجزاتنا لم تعد في وقوع أحداث ضخمة وبراقة، بل في السلامة ووقوع البديهيات والقدرة على أن تخطو خارج المألوف وتحدي المنطق، هنا ينتهي النص وتنتهي الشخصية بأن تنقل سيرتها الذاتية لنملة تتوحد بها، الوحدة هنا ليست من التفرد، بل هي وحدة العزلة وانقطاع الاتصال.
في (بحر يعبر الطريق)، مازال المنطلق هو الشكل، الجسد أو بعض منه، العينان، فنألفها عندما تقول: "عيناكِ شريرتان"/ هكذا قال لي/ للأسف كان يكذب/ لأن عيوني لا تشي بشيء/ فقط ثقبان يمر منهما الضوء على خجل/ لأرى الأشياء باهتة التفاصيل/ ونكاية بي.. جاءت سوداء/ أنا التي تحنطت أمام البحر أياما بلياليها/ أغسل عيني بملحه وأبتسم/ هل علق آخر الغرقى ملابسه على جدار قلبي؟/ أوووف../ رائحة السمك الزفرة تملأ صدري" ثم تعود وتقول في الجزء الأخير من النص: ثم ينظرن إلي ويرددن: "عيناكِ خبيثتان"/ "للأسف كاذبات"/ فعيناي لا تشيان بشيء/ فقط تجويفان يمر منهما الريح على عجل/ يكنس العناوين والتصاوير ويمضي/ ونكاية بي.. لا تحتفظان لرئتي بالهواء/ أوووف../ رائحة صديد تخرج من أمومتهن" مرة أخرى تنفي بعض من جسدها، تنفي عيناها وهي تشرح آلية عملهما، تبدأن ثقبان صغيران مع بداية النص، ثم تتسعان عن آخرهما في آخر سطوره تحت تأثير سطوع المعنى واللغة لا الضوء، فتلك العينان لا ترى بهما على اتساعهما أو على الأقل هي لا تستطيع أن ترى بهما كما يرى الآخرون، هي في حالة من الاستقبال والرعب حولت عيناها لمنافذ للشم لا للرؤية، بهذه الطريقة تستطيع أن تحارب الجمود في استقبال إشارات الله، كبحر يعبر الطريق في انسيابية لا يطلق الأحكام، كما يعبر النص من الجزء الأول إلى جزئه الثاني في سيولة تامة.
ثم لم تزل تتخلص من أطرافها في (تمارين البنت المؤدبة) حيث تقول: "أفرك عيني لتخرج مني العفاريت/ ريما أصير حينها بنتا طيبة مؤدبة/ لا تعطي السكاكر للسناجب/ ولا تقبل أطفال الشارع الموبوءين/ أخبط رأسي جيدا/ لتسقط مني الأشباح/ فلا تخبرني بما في قلوب الناس حين أراهم.../ أقص أهدابي ليملأ عيني التراب..." نلحظ أنه بالرغم من محاولتها طمس أطرافها الجسدية لتكون أكثر اتساقا ومفهوم الجمال المجتمعي، ذلك المجتمع الذي يلزمها بالجمال الظاهر كما في باقة ورد عليها أن تشتريها وتعود للبيت ولتبتعد عن التبذير والوباء والانحياز أو أن تؤمن بحدسها في اكتشاف الجمال بالموجودات، إلا أن مستقبلات الحس منتشرة فيها كإخطبوط، تحت كل ذراع فم ماص، هي ترى الجمال في أشياء يراها المجتمع قبيحة ومستنكرة مستندة إلى لغة - إن كانت تدرك القبح الحقيقي للعالم- إلا أنها هنا في النص الحاضر لازالت تقاوم.
تتضح رؤيتها أحسن ما يكون في نص (تفاحة تشبه قنبلة) عندما تقول: "كنت أقول لك أن هذه التفاحة/ تشبه قنبلة/ إن مؤامرة رهيبة تعد بالداخل/ وأنت لا تهتم على الإطلاق/ بل إني لا أبالغ إذ أقول أنك لم تسمعني/ كنت مشغولا بتصور أسباب جميلة للموت/ مثلا ألا يحتمل قلبك جمال وردة صغيرة تنمو فتموت/ .." ثم تقول في نهاية النص: "الجمال يا صديقي/ لا يصلح للنهايات/ الموت يشبه العالم/ مفاجئ وقبيح/ صدقني أنا أيضا أجمع الأزهار/ وأصادق النوارس/ وأمارس الأحلام لقتل الوقت/ لكنها تفاحة يا صديقي/ هذه التفاحة، تشبه قنبلة/ وهناك مؤامرة رهيبة.. رهيبة/ تعد بالداخل." هي تلمس جمال التفاحة وغيرها من الموجودات، لكنها تعي الآن أن الأشكال تتشابه، وأن رسم تفاحة يشبه تماما رسم وشكل قنبلة بفتيل، هنا تدرك تسلل الوقت والزمن إلى الموجودات وأسباب الهلاك، فالجمال الذي تنتصر له لا يصلح للنهايات، والموت أو نهاية الزمن مفاجئ وقبيح، ربما هنا تحديدا نشأ لديها الوعي بضرورة خوض صراع ضد الزمن.
امتدادا للنص السابق، يأتي الجمال في نص (لحن يليق بكارثة) مدمرا ومرتبطا بأسباب الهلاك الحية، هي ترى الجمال، لكنها تلمسه مدمرا وصاخبا وتنزع عنه صفة الهدوء أو الانسحاب، تفعل ذلك ببطء، هي تستعين بالحس بالشكل في سبيل إيضاح هذه الخبرة، كما أن فضاء هذه القصيدة يعاني من الانهيارات كلما صعدت إلى أعلى، تحلل وتحول كلما حاولت الارتباط بالأرض، يتوسط ذلك ظاهرة صوتية/اللحن، كظاهرة فيزيائية تنتقل عبر الهواء بالاهتزاز: "تطير البنايات حولي/ وكلما حاولت تفادي الاصطدام بإحداها/ خانتي الجاذبية فأطير/ لا أحب التحليق في فضاء ينهار/ رمشة عين واحدة/ كفيلة بكارثة" "كنت أود لو أغني، ربما ساعدني الصوت، في التشبث بالأرض"
عودة للحديث عن تحد معلن ومكتمل يحمله عنوان الديوان " أقص أيامي وأنثرها في الهواء"، فالعنوان كالعديد من المقاطع التي سبق وأشرنا إليها تبدأ بفعل، (أقص)، هنا هي تقدم على الفعل، محاولة لإعادة تفصيل الزمن، المقص بيدها وهي الفاعل والمقرر لحجم وشكل القصة التي ستنتج، (أيامي) والأيام تتابع، ترتيب، هي تعبث بما هو خطي linear لإعادة ترتيب ما هو مرتب بالفعل، هذا الديالكتيك الدائر يوضح ما تحاول أن تفعله، هي تعيد ترتيب خط الزمن لتمنحه ترتيبا حركيا، هي لا تعرف حقيقته، كما أنها تحمله ذرات الهواء، فيكون من المستحيل أن يظل في مكانه، وتظل حركته دائمة، لا شكل له وبالتالي لا زمن.
في (طوفان) تضع نفسها مقابلا للتاريخ/ الزمن، كليهما أعلى مكانين مرتفعين من نهر الطريق، وكأنهما يقفان على جبلين متقابلين يستعصمان بهما من الطوفان، هنالك قمتان بالفعل لا واحدة كما في الرواية الأصلية، ثم تفصل عيال الله من مختلف التأويلات في نهر الطريق، تكتشف في النهاية أنه لا منجى في سفينة جبر الخاطر، جرفهم الآن صار حتميا، لا بقاء لأحد، لا الشاعرة ولا التاريخ ولا أشباههم وحالاتهم. القصيدة تموج من اليمين إلى اليسار وكأن الطوفان قد نفذ إليها بالفعل وهم في موجة منهن ما كان غرق السفينة سوى إثبات لذلك: "على الرصيف أسير بمفردي/ ينزلق الإسفلت تحت قدمي/ لا أحاول اللحاق به/ على الرصيف المقابل/ يسير التاريخ في مارشات عسكرية/ يزأر في تجهم بالغ ولا ينظر خلفه/ في منتصف الطريق/ يسير عيال الله/ التوابون والمكذوبون والمجذوبون/ والمستعصون على التأويل/ كلنا يصدق روايته/ كلنا يسعى لجبر الخاطر/ كلنا ماض لسفينة نوح/ وحين وصلنا لمقدمة البحر/ كانت السفينة قد غرقت."
كيف استطاعت أن تحول الجميلة (أولجا) إلى ذلك الكائن المشوه على مهل؟ وكأنما القصيدة رواية زمنية تعود للخلف في احتمال آخر وعالم آخر، ليحتمل كل مقطع تفسيران عند العودة إليه، ويكون تفسير الجمال هو محض خيال. إن هذه القصيدة تحترق، وهي تستدعي (أولجا) لتقوم بذلك بنفسها.
وإن كانت اللغة في نصوصها السابقة تحرض على الخروج على الترتيب والتوقع والزمن، إلا أن الشاعرة لا تقوى على مواصلة التحدي بشكل علني، فهي تصف نفسها دائما بأنها (بين بين)، هذه العبارة قادرة على تفسيرها بدءا من الشكل، الذكاء، الأحلام، الثورة، الحب والحزن، ثم يزحف المفهوم على تجارب اللغة والنطق في النص، وفي وقت الاستعراض، تتعلل بأنها لا تستطيع أن تفسر لأنها لم تتخذ موقفا حتى النهاية من أي من مقدمات حياتها، لذا فإن الشاعرة لا تتوقع أن يكون شعرها واستعراضها متكاملا، لتجد نفسها في عالم (مشاهد يقص ما حدث بحياد تام) حيث يستطيل أشخاصه الآخر في مقابلها، وهل لا تستطيع أن تتمدد في نفس الاتجاه الخاص بهم، فتسحق تحت أقدامهم ويستولون هم على الفراغ الخاص بها، ربما هذا هو المهرب الخاص بها، لكي يخشونها، وفي الواقع لقد أفلحت هذه الطريقة في إنقاذها من صراعهم وأكلهم بعضهم البعض بالفعل.
وتستسلم الشاعرة تماما مع ظهور الأم عبر نصوص (قسوة) (شوربة للموتى) (طفولة) وغيرها،علاقة معقدة مع الأم تسيطر على هذا الجزء من العمل، وبالرغم من توترها لكنها - الشاعرة - كانت تود لو أنها لو تنتهي لصالح الموت/ موت الأم، حيث ينهار العالم وتنهار مقاومة اللغة على أعتاب نهاية الديوان، وتصبح الأحكام جاهزة، تحكم بالنهاية والفناء على كل الأشياء ابتداء. ... الخضوع للزمن، أو الانزلاق من خلاله، ليس هنالك شيء أكثر إيلاماً، لكنه الواجب. - سيمون فيل -