كان مما فعله أربابُ البيان أن عمدوا إلى شعر العرب فاختاروا منه ما استحسنوه، اختيارَ حذق ودراية لا تشهٍّ وعَماية، وكان على رأس هذه الاختيارات اختيارُ أبي تمام حبيب بن أوس الطائي في ديوانه المعروف بـ«الحماسة»، الذي (وقع الإجماعُ من النقاد على أنه لم يتفق في اختيار المقطّعات أنقى مما جمعه) كما يقول المرزوقي.
ومن العناية بديوان الحماسة ما تحصّل في عصرنا للشيخ أبي مالك العوضي الذي عمد إلى هذا الديوان فانتخب منه نحوًا من ألفِ بيت للحفظ والاستشهاد، وكانت هذه الألفية بحاجة إلى شرحٍ يكون ذريعةً لتعلق الطلبة والمتأدِّبين بها، ومطيَّةً لتفهُّمها في سبيل حفظها وإنشادها، فكان هذا الكتاب شرحًا يقرّب معانيها للمبتدي ويسهِّل مركبَها للممتطي، يسهِّلُ الأخذَ منها، ويقرِّبُ النظرَ فيها.
وانتهج واضع الشرح في ابتداء شرح كلِّ قطعةٍ ذكرَ خبرها ونبأ شاعرها، ثم أردف ذلك ببيان مفرداتها مع ما استتبعتْه من نكاتٍ بلاغيةٍ وأوجهٍ نحوية متى ما اقتضى المقام ذلك، ثم أتبع ذلك بصياغة القطعة نثرًا؛ تيسيرًا للفهم، ولتمرَّ القطعة على القارئ بأكثر من طريق.
وكان مما امتاز به هذا الشرح الأثير قرن نظائر الأشعار إلى بعضها، وجمع الأشباه إلى أمثالها، كما تقيَّل ذرى الإحسان بكثرة الاستشهاد بآيات القرآن، ليُعلم بذلك وثيقُ الصلة بين كتاب الله ولسان العرب.
جميل ونافع وكامل، يذكر كل كلمة غريبة جاءت في القطعة بمعناها -بل يذكر كثيرًا ما لم يكن غريبًا ولا يحتاج توضيحًا أصلا-، وينثر الأبيات لتسهيل فهمها، وهذا الأخير أفضل ما في الشرح كله.
لا يعيبه إلا شيئان: شيء في انتقاء أبي مالك وهو شرطه بعدم اختيار ما اشتركت فيه الحماسة مع الأصمعيات والمفضليات وديوان الهذليين! فجاءت ألفيته ناقصة لذلك. وشيء في الشرح وهو ترتيبه؛ يذكر كل الغريب معًا ثم ينثر الأبيات بعضها أو كلها معًا، وفي ترتيبه هذا شتات ظاهر؛ كان الأولى أن يجعل غريب كل بيت ونثره تحته ولا يدخلها في بعض، بل لو جعل الغريب بلون مختلف وسط النثر لكان أنفع!
(فوَاللَّه لَا أَدْرِي أزيدت ملاحة ... وحسنا على النسوان أم لَيْسَ لي (عقل
وَخُبِّرتُ سوداءَ الغَميم مَريضةٌ فأقبلتُ من مصر إليها أعودُها فواللَه ما أدرِي إذا أنا جئتُها أأُبرِئُها من دائِها أم أزيدُها
بَقَّيتُ وَفرِي وَانحَرَفتُ عَنِ العُلَى
وَلَقِيتُ أضيَافِي بِوَجهِ عَبُوسِ
إن لَم أَشُنَّ عَلَى ابنِ هِندٍ غَارَةً
لَم تَخلُ يَوماً مِن نِهَابِ نُفُوسِ
خَيلاً كأَمثَالِ السَّعالِي شُزَّباً
تَعدُو بِبِيضٍ في الكَرِيهَةِ شُوسِ
حَمِيَ الحَدِيدُ عَلَيهِمُ فَكَأنَّهُ
وَمَضَانُ بَرقٍ أَو شُعاعُ شُمُوسِ
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... منى وما سمعوا من صالح دفنوا صم إذا سمعوا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا جهلاً على وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان