يتردّد اسم "البانيان" كثيرًا بين معظم بلدان الخليج، غير أن الغالبية العظمى من أهل الخليج لا يعرفون سوى القليل عن هذا الاسم، وغالبًا ما يكون حتى هذا القليل المعروف مشوّشًا وملتبسًا. في حين كانت جماعة البانيان (والبانيان، بالمناسبة، كلمة سنسكريتية تعنى "تاجر"، لكنها أصبحت اسم عَلَم على جماعة هندية/هندوسية جاءت من غرب الهند، من السند وغوجيرات تحديدًا) هي الجماعة التجارية الهندية الأهم والأقدم التي اتصلت بأسواق الخليج منذ قرون حتى اليوم، وتركت بصماتها العميقة في معظم نواحي حياة الناس في الخليج (في اللغة، والطعام، والمعمار، والأدوات الحديثة...إلخ). وفي البحرين، على نحو خاص، كانت جماعة "البانيان" هي الجماعة الأهم في عالم التجارة منذ القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين. وقد أقامت، في القلب من المنامة القديمة، معبد الهندوس التاريخي العريق (معبد شريناثجي أو شري كريشنا)، وانخرطت في الديناميات المدنية من أجل تحمّل مسؤولية المكان وتحديثه ورفاهية سكانه. لقد شكّل تاريخ هذه الجماعة في البحرين والخليج جزءًا مهمًا من تاريخ العلاقات التجارية بين السند/الهند وموانئ الخليج ومدنه الساحلية المزدهرة تجاريًا. وهو تاريخ عميق وضارب في طبقات بعيدة من ماضٍ يصعب تحديد نقطة بدايته، وهو تاريخ يشهد على مدى العمق الذي ميّز هذه العلاقات، وعلى قوة حضور هذه الجماعة التجارية التي تكوّن جزءًا مهمًا من نسيج تاريخ البحرين ومدن الخليج التجارية
نادر كاظم (1973م) كاتب وناقد ثقافي وأكاديمي بحريني ، ولد في قرية الدير بمدينة المحرق
مجالات الاشتغال ؛ النقد الثقافي وترابط العلوم الإنسانية والنظرية النقدية
درس المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس البحرين درجة الدكتوراه في الأدب العربي من معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة في العام 2003 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف. درجة الماجستير في النقد الحديث من جامعة البحرين في العام 2000/ 2001 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف. درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة البحرين في العام1994/ 1995 بتقدير امتياز.
كتاب يسرد فيه الكاتب قصة جماعة البانيان الهندية الأصل والتي عملت بالتجارة، وكيف أثرت بمدن الخليج من نواحي شتى؛ اللغة والطعام والمعمار والأدوات الحديثة. تعتبر بلدة تاتا في اقليم السند الموطن الأم للبانيان من جماعة الباتيا في البحرين ودبي، فيما ينتمي بانيان مسقط، على سبيل المثال إلى جماعة هندوسية اخرى، وهي جماعة الباتيا من كوتش في غوجيرات بالهند شرقي بلدة تاتا. كان العام 1947 عاماً حاسماً في تاريخ هذه الجماعة، إلا أن انتشارها التاريخي حول العالم كان نتيجة مباشرةً لروح المغامرة التجارية التي ميزت الرواد الأوائل من أبناء هذه الجماعة منذ القرن السادس عشر على أقل تقدير . لقد استقرت جماعة صغيرة من البانيان من جماعة الباتيا من تاتا السند في المنامة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ثم أخذت أعداد الجماعة تكبر من العشرات الى المئات حتى تجاوزت الالفين في العام 1950 أي ما بعد تقسيم الهند و ضياع الوطن الأم للجماعة ( بلدة تاتا).
امتلك البانيان، طوال تاريخهم، روحًا كوزموبوليتانية جعلتهم قادرين على العيش في بلدان متباينة تتوزّع بين الهند ودبي وأبوظبي والبحرين ومسقط ومدن ساحل فارس وبلدات ساحل أفريقيا الشرقي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. غير أن أبناء جماعة الباتيا من تاتا السند الذين قرّروا الاستقرار في البحرين ظلّوا يعيشون في المكان موزّعين بين اندماجهم في البحرين، وبين اتصالهم الوثيق بالهند كأهل وحضارة ودين ولغة وحتى كسياسة. وقد انتقلت أعداد كبيرة منهم إلى دبي إبان ازدهار إمارة دبي منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
هيمنت جماعة البانيان على تجارة البحرين منذ القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين ، وأقامت، في القلب من المنامة القديمة،معبد الهندوس التاريخي العريق ( معبد شريناثجي أو شري كريشنا). وانخرطت في الديناميات المدنية من أجل تحمل مسؤولية المكان ورفاهية سكانه. كان للجماعة ممثل منتخب في مجلس بلدية المنامة منذ العام 1919 وأكثر من ممثل معين في مجلس العرف ( مجلس التجارة) للفصل في المنازعات التجارية منذ اواخر القرن التاسع عشر. كما كان لهم خدمات كثيرة قدموها لأهل الخليج ابان الحرب العالمية الثانية عندما شحت الموارد الغذائية وتقطعت خطوط الامداد، كما لعبت دورًا كبيرًا في تحديث المكان بما كانوا يجلبونه الى البحرين ، والخليج عمومًا ، من انواع عديدة من السلع والمستلزمات والاختراعات الغربية الحديثة مثل الأحذية والجوارب والمظلات الشمسية و الملاعق والسكاكين والمرايا وغيرها من مستحدثات الصناعة الإنجليزية والهندية. وتمتعوا باحترام كبير بين الناس في البحرين والخليج ، فكانوا موضع أمانات التجارة في السوق، وبمثابة بنوك الايداع والائتمان والتسليف في المنطقة قبل أن تتأسس البنوك الحديثة . لقد شكّل تاريخ هذه الجماعة في البحرين والخليج جزءًا مهمًا من تاريخ العلاقات التجارية بين السند/الهند وموانئ الخليج ومدنه الساحلية المزدهرة تجاريًا. وهو تاريخ عميق وضارب في طبقات بعيدة من ماضٍ يصعب تحديد نقطة بدايته، وهو تاريخ يشهد على مدى العمق الذي ميّز هذه العلاقات، وعلى قوة حضور هذه الجماعة التجارية التي تكوّن جزءًا مهمًا من نسيج تاريخ البحرين ومدن الخليج التجارية.
*شبكات البانيان التجارية في موانئ الخليج خلال القرن 19: من مشاهدات الكابتن جورج بروكس؛
تذكر جماعة البانيان في البحرين أن أقدم صكوك ملكية تمنح ملكية أرض بحرينية لجماعة الباتيا من تاتا السند "يعود تاريخها إلى العام 1229 هجرية حوالي العام 1813م"، إلا أن المعلومات عن البانيان آنذاك كانت شحيحة. ويعتبر جورج بروكس أول شخص يقدّم إحصاءً دقيقًا بعدد البانيان في البحرين، حيث ذكر أن في البحرين خلال عشرينيات القرن التاسع عشر "حوالي مئة شخص من البانيان، وهم تجار وأصحاب محلات في المنامة"
وجورج بروكس هو كابتن في سلاح البحرية في شركة الهند الشرقية خلال النصف الأول من القرن 19، وكان ضمن أول بعثة بريطانية من البحرية الهندية تقوم بعملية مسح شاملة لسواحل الخليج في العام 1820. وأعدّ بروكس العديد من الخرائط، وتدين له البحرين بأنه أول من قام بمسح دقيق لجزرها وسواحها، وقدم الكثير من المعلومات والتفاصيل الدقيقة التي استخدمت في رسم واحدة من الخرائط الأولى لجزر البحرين في العام 1825. لاحظ بروكس، أثناء عملية المسح البحري، أن البانيان ينتشرون في معظم موانئ الخليج المزدهرة تجاريًا. ويبدو أن غالبية البانيان كانوا قد انتقلوا إلى الساحل العربي من الخليج خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. شاهد بروكس التجار البانيان في بندر عبّاس، وفي الشارقة حيث لاحظ أنهم كانوا يشتغلون "كتجار لؤلؤ وصاغة وتجار أقمشة وحبوب، ويرتدون اللباس العربي". وشاهدهم في أبوظبي، وفي المنامة، وفي مناطق أخرى. لكنّ عمان تبقى البلد الأكثر أهمية في تاريخ تجارة البانيان في الخليج منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر (زمن كارستن نيبور) حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر (زمن جورج بروكس). وبحسب مشاهدات بروكس، فإن عدد سكان مدينة مطرح لم يكن يقلّ عن "15 إلى 18 ألف نسمة. وحوالي ألف من هؤلاء هم من البانيان من السند وكوتش، وقد استقروا هنا لغرض التجارة". لكن العدد الأكبر من البانيان كان يستقر في مسقط العاصمة التي يصل عدد سكانها "في بعض الأحيان إلى ما يقرب من 30 ألف نسمة، وهناك حوالي ألفين من البانيان استقروا هنا، وهم يمارسون تجارة مزدهرة، ويتعهّدون الجمارك"
……،ويأتي تأسيس المدرسة الهندية في العام 1950 كمؤشر على قرار البانيان في تحويل المنامة إلى وطن استقرار يقيمون فيه هم وعائلاتهم بصورة دائمة واعتيادية. وكانت كل الظروف مهيئة لافتتاح المدرسة. وكشف إحصاء العام 1950 أن عدد الهنود في البحرين قفز لأكثر من الضعف قياسًا بما كان عليه في العام 1941، فبعد أن كان عددهم لا يتجاوز ـ1424 نسمة في العام 1941، إذا بالعدد يقفز إلى 3046 نسمة في العام 1950، وتضاعف، كذلك، عدد الهندوس حيث بلغ عددهم 975 نسمة بعد أن كانوا 424 نسمة في العام 1941. وارتفع العدد، في إحصاء العام 1959، ليصل إلى 4043 نسمة، بينهم 2128 من الهندوس، وهو أكبر عدد وصلوا إليه طوال تاريخهم.
*بانيان البحرين: بين السياسة والتجارة؛ "تنقّل ثقل التجمّع البانياني في حوض الخليج مع الزمن، ومع تقلّب الأوضاع السياسية من مدينة إلى أخرى. كانت هرمز مركز الثقل الأكبر للبانيان خلال الحقبة البرتغالية/الهرمزية في القرن 16، ثم انتقل ثقلهم الأكبر، بعد تدمير هرمز في العام 1622، إلى بندر عبّاس خلال القرن 17، وكان ثلث سكان بندر عبّاس من البانيان. بعد انهيار الحكم الصفوي في العام 1722، وحكم نادر شاه في العام 1747، انتقل مركز ثقل البانيان في المنطقة إلى الضفة العربية من الخليج، وتحديدًا إلى عمان وصف وليم بالجريف مسقط في العام 1863 بأنها "بابل الشرق"، وواحة تسامح ديني وإثني إلى درجة "لم تبلغها حتى أوروبا حيث يوجد تسامح مع كل الإثنيات والديانات والعادات، ويمكن لليهود والمسيحيين والمسلمين والهندوس أن يعبدوا آلهتهم بحرية بطرقهم المتعدّدة، وأن يرتدوا اللباس الذي يرونه أفضل، كما يمكنهم الزواج والوراثة بدون قيود، ويمكنهم دفن موتاهم أو حرقهم كما يتوهّمون، فلا أحد يسأل، ولا أحد يتحرّش، ولا أحد يعيق"
كما يروي الكاتب كيف انهار وجودها في الخليج بعد افول تجارة اللؤلؤ وظهور النفط و حضور جماعات مختلفة من الهند وغيرها من الدول في العمل في البحرين والخليج عامة في حقول النفط . حيث لم يعد لهم نفوذ ووجود كالسابق . …"بدأ نفوذ البانيان في سوق المنامة في التراجع مع انهيار اقتصاد اللؤلؤ أواخر عشرينيات القرن العشرين، وتصاحب مع هذا الانهيار تشدّدان أشعرا البانيان بأن تجارة البحرين تسحب من بين أيديهم ومن تحت أقدامهم: تشدّد بلدية المنامة في تطبيق العقوبات على كل مخالفة تجارية، وتشدّد جمارك المنامة في فرض رسوم على إعادة شحن البضائع، ومنعهم من المتاجرة مع شبه الجزيرة العربية. جلب عصر النفط معه جملة تحديات اجتماعية وسياسية لم تكن في حسبان أحد من جماعة البانيان. فبعد أن كان البانيان يشكّلون الجماعة الهندية/الهندوسية الأساسية (وكانت في يوم من الأيام الجماعة الهندية الوحيدة) في البحرين، واكتسبت، على إثر ذلك، سمعة طيبة، واحترامًا كبيرًا بين مجتمع التجار وحكومة البحرين، إذا بهذه الجماعة تشهد تدفّقًا غير مسبوق لأعداد كبيرة من هنود وهندوس الطبقة الوسطى من ذوي الأعمال الفنية والإدارية الوسيطة في شركة نفط البحرين (بابكو) كما في البنوك والشركات والمؤسسات الأخرى (شركة كري مكنزي، والبنك الشرقي، والبنك البريطاني، ومكتب البريد، ودائرة الجمارك، وشركة يوسف بن أحمد كانو وغيرها)."
كتاب رائع ويروي جزء غير يسير من تاريخ هذه المنطقة، و عن جماعة البانيان خاصةً التي لا يعرف الكثير منا عنها، و كيف أثرت بمدن الخليج، اذ كان لوجودها الفضل في بناء وازدهار هذه المنطقة تجارياً ومن نواحي عدة، في مرحلة زمنية تخللتها العديد والكثير من الاحداث السياسية التاريخية الفاصلة في الخليج والعالم .