أول ليلة في سكني الجديد، بكيت، لا لشيء سوى ذاك الخوف الذي كان يلفني في الليالي السابقة من أن تلحقني أصابع زوج أمي وأنا مستلقية كما اعتاد أن يفعل”. بهذه العبارة المؤلمة تنهي الكاتبة السودانية آن الصافي قصة “القماير”، وهي الأولى في مجموعة قصصية بعنوان “النبلاء”. وأول ما يطالعنا في هذا العمل الإبداعي الجميل إهداء الكاتبة: “إلى أمي”. وهل في حياة كل منا أغلى وأحن من الأم؟ وهي المربية والمعلمة ومدبرة شؤون البيت والساهرة على صحة وسلامة كل من فيه، كبارا وصغارا. عنوان القصة الأولى “القماير”، وهي حي قديم في أم درمان، ومعناها الأماكن التي يحرق فيها الطمي لصنع الفخار. وراوية القصة “بركة” صبية في العشرين من عمرها تعيش مع أمها على صنع المشروبات والعصائر المجمدة وبيعها في المدينة، بعد رحلة شاقة في حافلة مزدحمة بالركاب. وبلقطات واقعية متنوعة تخبرنا الكاتبة أنها سمعت بوفاة والدها وهي في الخامسة، ثم عرفت بعد ذلك أنه سجين لأنه قتل رجلا، وهما في حالة سكر. وبعد سنوات حصلت أمها على الطلاق، وأجبرت ابنتها على الزواج من ابن الجيران وهي في السابعة عشرة، لكنها لم تعش معه سوى عام واحد بسبب تدخلات أمه بشؤونهما، كما أنه يعاني من مرض ما، وتم الطلاق وهي لم تزل عذراء، ولم تخبر أمها بذلك لأن العلاقة بينهما غير سليمة. وفي العشرين من عمر الصبية، تزوجت أمها وهي في منتصف الثلاثينات من سائق الحافلة الذي ينظر لابنتها بعين زائغة حتى اضطرت لمغادرة البيت والسكن بالأجرة مع فتاتين من الجيران.. وبذلك تخلصت من أجواء الخوف والضيق والتحرش الذي كان يلاحقها. وهكذا نتابع الأحوال العائلية والاجتماعية وهمومها وأمراضها في القصص الباقية، إلى جانب نفحات صوفية مرفقة بشعر شعبي بسيط خطه الشيوخ النبلاء في أوراقهم، وهم يؤكدون فيه على القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق، وهذا ما تحتفي به قصة الربيطة بالحوار بين الجد وحفيده، وفي بعض مقاطعها نرى أن جد الراوي من الأولياء الذين يشعرون باقتراب ساعة وفاتهم، وهو ينتظر من يأخذه من هذه الدار، دون أن يرافقه أحد من الأقرباء. وتأتي قصة “الصديق” عكس ذلك، حيث تقف الابنة عند قبر والدها وتشكو إليه قائلة: “صديقك الذي استأمنته علي وعلى أمي اغتصبني حين كنت طفلة في الثانية عشرة…”. وكان مصير هذا الزوج السجن لأنه قتل الأم في غياب زوجها “بسبب أموال تركها عندها” واعترف بجريمته. أما قصة “السائح” فتكشف عما يجنيه انحراف بعض الآباء على أبنائهم، لكن طبيب القرية يبث في نفس الشاب الطمأنينة ويقنعه بأن الانحراف ليس علة وراثية، فيتزوج ويواصل حياته السليمة. وفي قصة “غار ود رحمة” تدعو بصورة غير مباشرة إلى التخلي عن تلك العادات القديمة الشائعة بين الناس وهي أقرب ما تكون للخرافة. وهناك قصص توحي بأنها مكتوبة لتكون نواة لأفلام سينمائية قصيرة.